كثيراً ما نسمع مصطلح "فيلم هوليوودي"، إذ أثبتت هوليوود على مدار عشرات السنوات من وجودها، مساراً سينمائياً مميزاً باتت بعض الأفلام من أي منطقة بالعالم يمكنها أن تعيد إنتاج قصتها في ذلك القالب "الهوليوودي" المميز. في كثير من الأحيان يتسبب هذا الوصف لفيلمٍ ما إلى إدانته لاعتبارات فنية باتت محفوظة نسبياً على مستوى الأبطال والحبكة والحركة وغيرها. بينما في أوقات قليلة، يوصف الفيلم باعتباره فيلماً هوليوودياً نتيجة تركيبته "الأمريكية" المغامرة التي تعجب المشاهد العادي وتجني أرباحاً واسعة في شباك التذاكر.
تعتمد مثل هذه الأفلام على قصة مثيرة وإبهار بصري متميز أكثر من اعتمادها على الخطاب أو جودة تناول الفكرة المستخدم بالطبع، وربما هذا ما حدث في فيلم "196 متر"، ما يدعو للحديث عن هذا الجانب فيه قبل أي شيء؛ فالفيلم بالرغم من قصته ومرجعيته العربية، يبدو هوليوودياً بامتياز: قصته بسيطة وحبكته مغامرة، كما أن لديه إبهاراً بصرياً غير معتاد عليه في السينما العربية.
يحكي فيلم "196 متر" قصة جزائرية بامتياز. شارك العمل في الدورة السابعة لمهرجان الجونة السينمائي (24 تشرين الأول/أكتوبر –1 تشرين الثاني/نوفمبر)، ووجد قبولاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً. ضمّت عروض المهرجان هذه الدورة أفلاماً من المنطقة العربية كلها باستثناءات قليلة، وكان من بين المشاركات ذلك العمل المحسوب على الجزائر. وقد بدت الجزائر من الدول الأقل تواجداً تقريباً في مساحات التبادل الأدبي والسينمائي التي تحدث على المستوى العربي والمصري خصوصاً. وهذه الندرة الفنية خلقت فجوة نوعاً ما في علاقتها بدول الجوار.
فيلم "196 متر"، فيلم تشويق وإثارة يدور حول قضية حقيقية عن اختطاف الأطفال في بلد لا يزال يعاني من صدمة نفسية ناتجة عن حربه الأهلية التي حدثت في تسعينيات القرن الماضي
الفيلم من إنتاج خالد شيخي وياسمين ذكار، وتقوم المخرجة الكندية الحائزة على العديد من الجوائز العالمية، باتريشيا تشيكا، بدور المنتج التنفيذي، مع مدير التصوير إقبال، بمونتاج من فؤاد بنحمو، وإخراج شكيب طالب بن دياب، وهو مخرج جزائري يعيش بين الجزائر وباريس، ويتضمن ملفه السينمائي العديدَ من الأفلام القصيرة، من بينها الفيلم القصير، "الروح السوداء"، والذي عُرض في العديد من المهرجانات المرموقة في أنحاء العالم، وحصل على جائزة "Programmers Delight Award" في مهرجان وسوق سابورو الدولي للأفلام القصيرة في اليابات، عام 2018، وحقق نجاحاً كبيراً في مهرجان كان السينمائي.
فيلم "196 متر" هو فيلم تشويق وإثارة يدور حول قضية حقيقية عن اختطاف الأطفال في بلد لا يزال يعاني من صدمة نفسية ناتجة عن حربها الأهلية التي حدثت في تسعينيات القرن الماضي، ويتعمق الفيلم في السرد الجذاب لاختطاف فتاة صغيرة في الجزائر العاصمة، الأمر الذي يثير زوبعة من التوتر والشك داخل المدينة؛ إذ يتتبع الفيلم الجهودَ الحثيثة التي تبذلها دنيا، الطبيبة النفسية اللامعة، وسامي، مفتش الشرطة المتفاني، حيث يكتشفان "شياطين" ماضي الجزائر ويحلان لغزاَ محيراَ.
يقول مخرج الفيلم، شكيب طالب، لرصيف22: "عملت على إخراج أفضل شكل ممكن للفيلم في المونتاج والموسيقى والتلوين واختيار الممثلين وكل شيء، لكي يصبح فيلماً عالميّ الجودة، أو على الأقل يحقق الحد الأدنى من العالمية. لذلك كان من المتوقع أن يستقبل الجمهورُ العادي الفيلمَ بهذا الشكل. لم نكن نطمح إلى وجود فيلم جماهيري فقط، بل إلى فيلم يحمل قصة جيدة بشكل ما، ومقبولة من قبل الجمهور العادي، مصنوعة بشكل محترف، ولا يمكن رفضها".
أما السؤال الأول وربما الأهم في سياق الحديث عن الفيلم، فهو: كيف یُصنع فيلمُ رعبٍ نموذجي؟ الإجابة تكمن في تتبع سردية الفيلم وردود المشاهد. فيلم الرعب يتم بناؤه تدريجياً من المشهد الأول حتى المشهد الأخير؛ تتابع يجعل المشاهد متعلقاً بحلّ الحبكة أكثر من تعاطفه معها. في المشهد الأول من الفيلم، وقبل التتر، تختطف العصابة طفلة صغيرة، ويبدو كل مشهد تالٍ، تتابعاً لحل تلك المعضلة فقط. بل تصبح كل حركة في المسلسل مبنيةً على ذلك: يتحرك البطل/المحقق مع المحققة التي يحركها شعورها تجاه الأشياء أكثر من أي شيء إلى تتبع الحركة في المدينة لكشف العقدة. وحتى المشهد الأخير ينشغل الفيلم بالبناء، فيتحرك في مساحات مختلفة من المدينة، خلالها تظهر الجزائر مدينة واسعة وجذّابة ومغرية، كما هي في الحقيقة، وكأن الجميع في المدينة يبحث عن الطفلة المخطوفة.
ملاحظات على عمل مختلف
لدى مخرج العمل في أول أفلامه الطويلة، نشاهد تتويجاً لمسيرته التي بدأها، ويبدو أنه ينتقل فيها بذلك العمل إلى مساحة أكثر جماهيرية؛ ففي فيلمه "روح سوداء" نرى جغرافياً فرنسياً في رحلة غرائبية تماماً، تكاد تتأكد من مرجعية المخرج الأمريكية عن الصناعة. يتلقى فابريس، الشاب البارد والمتلاعب، زيارة مفاجئة من زميله بينوا. ثم يجد نفسه مضطراً للترحيب بتييري ميليه، رئيس الشرطة المحير والغامض، ما يجعل فابريس يشعر بالخطر الذي كان يعتقد أنه أتقنه.
مع هذا الفيلم، بدت كل الأفلام التي عمل عليها المخرج من قبل تجاربَ قصيرةً وتدريباً جيداً لإنتاج هذا الفيلم الذي هو أول فيلم روائي طويل لبن دياب، الكاتب والمخرج والملحن، الذي يقول لرصيف22: "بالنسبة لي كانت القصة لا بد أن تذهب نحو الرعب، وهذه الحكاية، أي الطفلة التي يتم اختطافها في الجزائر، كان لها أن تكون قصة بهذا الشكل الاستثنائي لا محالة".
يبرر بن طالب الشكل الهوليوودي للقصة على اعتبار جوهر فكرة الاختطاف، ليخلق إثارة ملفتة شبيهة بالإثارة التي تحدث في الأفلام الهوليوودية. لا يخلو حديث شكيب من النظرة تجاه صناعة عمل يقبله الجمهور العام ولا يتجاهل حصد إعجاب المتخصصين. فوجد قصة اختطاف فتاةٍ، مثاليةً لهذا الهدف، ولم يلتفت كثيراً إلى الغضب من إعادة إنتاج قصة جزائرية عن الخطف، الذي ربما تعود عليها المتابعون للسينما الجزائرية.
هناك شيء يمكن الالتفات إليه ليس فقط على المستوى السينمائي، بل الأدب واللغة بشكل عام، والذي بات في رأي الكثيرين يتطور إلى شكل أكثر عالمية؛ وهو موضوع صعود اللهجة وهبوطها، وقد لفت انتباه موقع الإيكونوميست البريطاني، الذي خلصت في تقرير حديث له إلى أن اللغة العامية المصرية، اللغة العامية التي كانت مألوفة في البلاد العربية عموماً، بدأت تتراجع بشكل لافت، بعد أن كانت لسنوات "صوت العرب"، بحسب وصف المجلة والموقع. وأعطى تقرير الإيكونوميست لمحة سياسية للأمر، معتبراً أن تراجع اللهجة المصرية يأتي بسبب تراجع الدور المصري بشكل عام في المنطقة. لكنه على مستويات أخرى، كان يطرح أسبابَ انفراط اللهجات المحلية، والقصص المحلية، على حساب عولمة الأشياء التي أحياناً ما تكون سيئة، وكثيراً ما تصبح مثمرة للجميع.
"196متر" فيلم جماهيري يعتمد على قصة محلية خطرة، يمكن مط خيوطها لتكون فيلمَ رعبٍ وإثارة. ويمكن النظر إليه من هذا الجانب تحديداً: قصة محلية تُصنع باحترافية شديدة تجعلها مقبولة عالمياً
تبدو معضلة "العالمية" التي بات على أغلب القصص أن تضعها في حسبانها، خصوصاً تلك التي تريد التواجد في مساحات أوسع من محيطها، ملفتة للأنظار، ومغامرة مغرية نوعاً ما. وحتى إن كانت تحتاج على المستوى الأدبي والاجتماعي إلى الغطس في المحلية لإظهار مدى جودتها وذكائها في التعبير عن المجتمع، فإنها في سياق الصناعة السينمائية واللغة البصرية التي تعتمد عليها، يمكن ببساطة أن تحوّل قصة من الموروث الشعبي أو حكاية عربية معتادة إلى قصة عالمية تملك الحد الأدنى من وصولها إلى الجميع دون التضحية بجوهرها الداخلي المحلي. ويبدو أن فيلم "196 متر" قد حقق ذلك نوعاً ما.
ماذا نتعلم من أكيرا كوروساوا؟
بشكل عام، فيلم "196 متر" فيلم هوليوودي الصناعة تماماً. يعتمد بصرياً على مستوى الإخراج والمونتاج على صورة معتادة في هوليوود، وقصة مقتبسة من الجزائر التي عاشت مثل هذا الحدث، وقد استطاع بالرغم من محلية القصة، إيجاد منفذ لصناعة فيلم سينمائي يمكن التفاعل معه على مستوى عربي وعالمي.
في أحد مشاهد الفيلم تقول المحققة إن الفتاة السابقة التي خُطفت "دمرت من العار لأهلها" هكذا يقول الناس. تبدو الجملة قاسية، لكنها مسموعة جيداً في منطقة المغرب العربي وكثير من البلدان العربية والتقليدية عموماً، منها الجزائر، التي انتشرت فيها أحداث اختطاف الأطفال لسنوات عدة. تطرح تلك الكلمات تورطاً مفاجئ للقصة ولا تجعلها متخيلة تماماً. فمن هذه الكلمات يتورط المشاهد في قصة شبه حقيقية للبحث عن عصابة الخطف التي تخطف الطفلة في المشهد الأول من الفيلم.
يقول شكيب طالب: "أعتقد أن الجمهور العربي جمهور ناضج تماماً، يمكن أن يفهم مثل هذه النوعية من الأفلام جيداً. بشكل عام أصبحت السينما شكلاً متحرراً تماماً. لا يمكن أن يضطر الصنّاع لعمل نوع معين من الأفلام. ما كنّا نطمح أن نصل إليه هو كيفية حكاية قصة محلية تماماً بشكل محترم ويمكن وصولها إلى العالمية. الجمهور العربي اليوم يرى كل الإنتاجات العالمية، ويمكنه أن يقارن الإنتاج بالإنتاج الأمريكي والكوري وغيره".
ويستكمل حديثه لرصيف22 حول سبب اختيار تلك الفكرة تحديداً، والتي تبدو هوليوودية التنفيذ أكثر من كونها جزائرية تستقطب جمهوراً عربياً: "بالنسبة لي هناك الكثير من المخرجين الذين ألهموني لعمل فيلم مذهل يمكنه تحقيق معادلة المحلية والعالمية داخل القصة الواحدة، على رأسهم كان أكيرا كوروساوا، الذي استطاع بمفرده أن ينقل الشكل السينمائي أو الحكاية السينمائية إلى درجة أرقى تماماً، فأفلامه تحمل قصة تاريخية محلية يابانية كلياً، لكن يفهمها ويتعاطف معها الجمهور من مختلف الأنحاء في العالم. تماماً كما فعل أحد مخرجيّ المفضلين كذلك: يوسف شاهين. السؤال اليوم بعد مرور كل تلك السنوات على صناعة السينما العربية، وبعد أن أصبح كل شيء قد تحقق مسبقاً، هو: ما الذي سنقدمه؟ أعتقد أننا جميعاً نتجه نحو نوع من السينما الذي يصبح عالمياً، غايته أن الجميع يشاهد الجميع".
"196متر" فيلم مثالي جماهيرياً يعتمد على قصة محلية خطرة يمكن مط خيوطها لعمل رعب وإثارة. كان يحتاج إلى المزيد من الإضافات الموسيقية التي تساعد على التورط في القصة. يمكن النظر إليه من هذا الجانب تحديداً: قصة محلية تُصنع باحترافية شديدة تجعلها مقبولة عالمياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاتبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 6 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون