تراكمت الأعمال السينمائية المحلية والإقليمية التي باتت تجسّد المعاناة العربية في مختلف أقطار الوطن العربي. ربما أصبحت تلك الأعمال واجبة الإنتاج على السينمائيين لمنع انعزالهم عن مجتمعاتهم. ثمة أفلام تصرخ لكي يُسمع صوت تلك البلاد المنهارة أو المحتّلة سواء حرفياً أو مجازياً؛ مثلاً في الدورة الجديدة من مهرجان القاهرة السينمائي (من 13 إلى 22 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي): هناك ما يقرب من 194 فيلماً مختلفاً من 72 دولةً حول العالم غالبيتها تجسّد الملهاة العالمية؛ من فلسطين التي كان لها نصيب الأسد، مروراً بلبنان ثم السودان ومصر وتونس والمغرب وصولاً إلى بلاد العالم التي حملت إلينا أعمالاً فيها المأساة ذاتها. كل القصص تصبّ خطابياً في تحليل الانهيار الذاتي الذي يفكك السياسي والاجتماعي. كلٌّ يبكي على ليلاه. ومن تلك الخطابات خرج الفيلم التونسي "نوار عشية" في عرضه الدولي الأول.
"نوار عشية" فيلم للمخرجة التونسية خديجة لمكشر، يحكي قصة "دجو"، وهو مدير صالة ملاكمة في حي تونسي، يعثر على يحيى الذي يُظهر مهارات فطريةً في الملاكمة، لكنه يبحث عن حلم آخر: الهجرة غير النظامية، وعلى إيقاع التصادم بين الرغبات في بناء ذاته داخل تونس وأحلامه بالسفر إلى خارج دولة يرى أنها لم تعد صالحةً، تمضي أحداث الفيلم.
بشكل عام، يمكن تفكيك حكاية الفيلم في مسارين: العام، من خلال موضوع الهجرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط الذي بات أقدم الظواهر التي عرفتها المنطقة، وبالتحديد المغاربية مصدر العمالة الأوروبية الكبير. وقد ازدادت وطأته بعد الأحداث الأمنية التي شهدتها الدول العربية منذ سنة 2011. أمست الظاهرة امتداداً لتاريخ طويل من سياسات الهجرة التي انتهجتها الدول الأوروبية منذ الحرب العالمية الأولى، وهي الفترة التي مثّلت الانطلاقة الفعلية لظاهرة الهجرة في شكلها الحديث، وأعقبتها مراحل لاحقة أثرت في شكل وحجم الظاهرة وصولاً إلى الهجرة غير النظامية. لذلك لا يمكن تعاطي الفيلم دون اللجوء إلى الحديث السياسي، مغاربياً وعربياً، بشكل مباشر إلى الدرجة التي جعلت أكثر الأسئلة التي تلقّتها المخرجة بعد العرض، تتعلق بمعرفة هوية جهات الإنتاج التي موّلت خطاب الفيلم.
يحكي "نوار عشية" قصة "دجو"، وهو مدير صالة ملاكمة في حي تونسي، يعثر على يحيى الذي يُظهر مهارات فطريةً في الملاكمة، لكنه يبحث عن حلم آخر: الهجرة غير النظامية
وما سبق يقع إلى جانب العامل الخاص، إذ يصعب فهم الفيلم دون الإشارة السريعة المبدئية إلى مشوار المخرجة. في فيلمها الأول "بلبل"، تعيش السيدة بلبل حياةً مملةً ورتيبةً برفقة زوجها عمر، وحينما تتلقى دعوةً لحضور حفل زفاف في قاعة في القرية التي تعيش فيها، سرعان ما تتبدل الأمور في حياتها ويتغير كل شيء. بينما في فيلم "ليلة القمرة العمياء"، الذي تدور أحداثه في الجنوب التونسي، تقرر ثلاث فتيات (عائشة، تبر، وبوكا)، القيام بطقوس شعوذة لأنهن برغم صغر سنّهنّ، قاربن العنوسة حسب التفكير الجماعي في تلك الجهة. وتتمثل هذه الطقوس في المشاركة في طلاسم يقمن بها في المقبرة ليلة اكتمال القمر.
الوقوف الأول على تصور خديجة لمكشر، يخص الافتتان بتحليق القصص شديدة الواقعية داخل خيال بعيد يعيد تشكيلها أو تقبلها بشكل أخف وطأةً. تمر في ذلك عبر الأرض والسماء والبحر وتصنع من خلالها حيوات بديلةً لا تنقذ الأبطال، ولكن تقف إلى جانبهم. تصبح الأشياء/ الأرض والسماء والبحر في مواجهة مباشرة مع الأبطال، لكن في خيال الأبطال مساحات غير حقيقية تجعلهم أكثر احتمالاً تماماً، كما يتخيل بطلها يحيى في "نوار عشية" عروس البحر التي تمسك يده وقت الغرق في المتوسط.
كسل في السيناريو وبراعة في الإخراج
"نوار عشية" هو الاسم الذي اختارته البطلة للتعبير عما تريده؛ النوار هو نبات يخرج في أراضي تونس، يُنير الظلام ليلاً، ويخرج في الليل فقط، وبمجرد أن يأتي عليه النهار ينطفئ، ولا يرى النور أبداً. يبدو مجازاً واضحاً عن التعبير الذي تتحرك نحوه المخرجة بمباشرة أحياناً فجة نوعاً ما عن الشباب التونسي الذي تسحقه البلد وتضطره إلى التلاشي والابتعاد.
يبدأ الفيلم بالحديث عن يحيى، وهو شاب تونسي يافع يتخبّط في حياته بحثاً عن قفزة طبقية تنقذه من الحياة التي لا يريدها. يعيش يحيى في أسرة صغيرة حيث الأب سكّير دائم العراك مع الوالدة. تقدّمه المخرجة بشكل كسول نسبياً. نفهم من مشهد معتاد حياة الأسرة كلها التي تترك ثِقلاً على البطل والجمهور. نظرات غاضبة وصراخ مستمر من الأب، ودفاع مسكين من الأم التي تدافع عن أولادها من ضربات غير مبررة. يبدو المشهد العام متوقعاً، خصوصاً مع سماع نصف المشهد التأسيسي الأخير من خلال عيون البطل الذي نفهم رويداً رويداً أن أزمته ليست مجرد الحصول على وظيفة جيدة، بل الهروب من كل ذلك.
يحمل الفيلم بشكل عام خفّةً في تقديم شخصياته والوصول إلى ذروة حبكته، فالبطل يحيى الذي لا يعرف شيئاً عن الملاكمة، فقط يلكم أحدهم بقوة في وجهة في أثناء اعتراضه طريقه، وسريعاً ما يحاول مالك صالة الملاكمة في الحي الصغير أن يقنعه بالتدريب معه، وبشكل أسرع، مما يجعل المشاهد مقتنعاً تماماً يربح يحيى بطولة تونس في الملاكمة. يُظهر يحيى قدرات بطوليةً مقتنعةً للجميع لكنه يرفضها.
لا يقف الاستسهال في الوصول إلى ذروة الأحداث على تلك التفصيلات، لكنها تبدو نقطة الضعف الأكبر. السيناريو غير مفكك على الإطلاق لكنه يحمل استسهالاً كبيراً في محاولة التوصّل إلى المشكلة. يقفز الفيلم سريعاً إلى عرض قضيته التي صُنع من أجلها دون الالتفات إلى إتقان الحبكة جيداً.
نقطة القوة الكبيرة في السيناريو تصبح في شخصية مالك صالة الملاكمة "دجو"/ يونس ميكري، التي يقدّم الممثل من خلالها أداءً شديد الإتقان في مقابل أداء تمثيلي متواضع للبطل/ إيليس قدري. نرى مدرباً يبحث بين الشباب عن ذاته الضائعة، يصنع أحلاماً لم يكن هو ذاته صالحاً لها نتيجة أشياء تتجاوزه. رجل معتّق بالذكريات، يتحرك حاملاً على وجهه أمارات الحزن على الزمن. يبدو بمثابة تونس القديمة نفسها التي ما زالت منذ 2011 تبحث عن بطلها ومخلّصها، ولم تجده.
في مقابل هذا الاستسهال الخطابي، ثمة مفارقة عجيبة؛ يأتي الإخراج في النصف الثاني من الفيلم بشكل شديد الشاعرية والإتقان: كادرات منضبطة وخالية من الافتعال، سينماتوغرافيا رائقة للبحر الذي يظهر بمثابة بوتقة تبتلع كل من يقترب إليه. المفارقة تبدو في اعتبار المخرجة هي ذاتها من كتبت النص، وهو ما يجعلنا نتساءل كيف تجاهله الضعف الكتابي الذي قلّل من جمالية الصورة؟
يبدأ "نوار عشية" من مشهد واسع يظهر البحر. مشهد متأمّل تغطس الكاميرا وتجول حوله، ويحمل قدراً كبيراً من الإغراء في داخله والتردد من الاقتراب إليه. ومثلما يبدأ الفيلم من البحر يرجع إليه مرةً أخرى. في النصف الأول من الفيلم يسعى البطل إلى الذهاب إليه بكل قوته، بينما يبحث العجوز في النهاية عن جثة الشاب في المحيط. بين تلك الأوقات يصبح المتوسط بالنسبة للمشاهد جبّانةً كبيرةً تضم آلاف الشباب الجثث الذي لم يجد وسيلةً للهروب من بلده الضيقة عليه سوى القفز في المجهول.
الدولة العميقة تصارع ذاتها
استمراراً في التقطيع المونتاجي المتكرر على المستوى الكتابي والبصري بين البحر والأرض، وبين المشاهد التي يظهر فيها البطل إلى جانب أشباهه مغمى عليه ومربوطاً في قلب سفينة للتهريب إلى أوروبا، والأخرى التي بدأ يحصل فيها داخل تونس على فرصة جيدة للتواصل والاستمرارية. تبدو المواجهة هنا محطة تساؤل أحياناً للشباب التونسي/ العربي عموماً عن وجاهة اختياره الذي يبدو وفق وجهة نظر المخرجة هنا بمثابة انتحار تقريباً.
"نوار عشية" هو الاسم الذي اختارته البطلة للتعبير عما تريده؛ النوار هو نبات يخرج في أراضي تونس، يُنير الظلام ليلاً، ويخرج في الليل فقط، وبمجرد أن يأتي عليه النهار ينطفئ، ولا يرى النور أبداً
لم تتمكن من طرح أي مسارات خيالية للموت. فقط تتعامل مع البحر على اعتباره مقبرةً واسعةً مليئةً بالقتلى. ومثلما تصاحب البطل عروس البحر في أثناء موته، يبدو هؤلاء الموتى جميعاً حاملين لأحلامهم. هذا الموت مبتسر وفجائي وصادم لم يأخذ هؤلاء تماماً بل ثبّت وجودهم. باتوا وصمةً على جبين الأحياء حولهم، ومصدراً للشعور بالخذلان والذنب.
في أحد المشاهد في أثناء بحث المدرب القديم عن الشاب الغريق الذي كان يحلم بأن يحصد الجوائز معه، يستقيظ من النوم ليسأل من حوله: هل تسمعون صوته؟ وفي الوقت الذي يصبح فيه ممسوساً في أنظارهم يبدو بالنسبة للمشاهد على تماس مع الرهينة المتروكة في البحر، وأقرب إلى إدانة الجميع، وأقدر على تذكّر الشاب الذي مات قبل أوانه دون أن يتحمّل مسؤولية ذلك أحد. وبينما يحمّل المدرب ذاته أزمة فقده يبدو المجتمع وقد تناسى سريعاً وعاد إلى روتينه المعتاد.
السؤال البصري الذي تطرحه عروس البحر التي تمسك يد يحيى طوال فترة غرقه، تسمح بمساحة خيال عن حياة يحيى/ البطل في عالم آخر يتحقق فيه حلمه الذي لم يصدقه الجميع في أثناء حياته. هي تحفظه من الغرق نوعاً ما، أو تثبت صدقها في مواجهة كذب الآخرين، وتثبت حسن حظه بمقابلتها بدلاً من تعاسته الحياتية.
ثمة مشهد أخير يصبح إيقونة هذا الفيلم في سياق الخطاب السياسي المباشر الذي يحاول طرحه؛ يظهر في مواجهات الأب السكير والمدرب بعد موت الابن، إذ تقف الكاميرا ببطء في مشهد استثنائي بين نظرات المدرب المعاتبة لعدم احتضان الأب للمراهق حتى يصبح بطلاً للقرية كلها، وبين غضب الأب الذي يكاد لا يفهم تقريباً ما ذنبه في رحيل الشاب في بلد لم توفّر للأب نفسه أي شيء.
هذه المواجهة بين الدولة العميقة من خلال كهولها أو من تسببوا تقريباً في استمرار الفش السياسي العام، بدا نموذجياً في تلك الحالة، حتى إذا أرادت المخرجة أن تدين الأب في مواجهة المدرّب تبقى التساؤلات مستمرةً عن إدانتهما معاً.
فيلم "نوار عشية" تظاهرة سياسية بصرية في مواجهة الهجرة غير النظامية التي تدين الداخل والخارج، وتترك آلاف الشباب التونسي/العربي في البحر دون أن يتحمّل أحد مسؤوليتهم. هذه الهجرة تُغضب الجميع وتحوّل البحر إلى جبانة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه