شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"الدّنيا قِدرٌ كبير وأنا مِغرفة"… التركي عزيز نيسين في رحلة مثيرة إلى القاهرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الجمعة 10 يناير 202501:02 م

هناك رحلات تتخطى في أهميتها وتأثيرها وديناميتها وحيويتها معنى التنقل الحركي من موضع إلى موضع فوق خرائط المكان، لتغدو مغامرات مثيرة وخطيرة، واستكشافات متعمقة للجغرافيا والتاريخ والبشر على السواء.

تحت هذه المظلة، يأتي أدب الرحلة الذي يكتبه المبدعون المتوهجون، بتجسداته وإشراقاته المتنوعة، كما تأتي أيضاً مدوّنات الإعلاميين النابهين، بتمثلاتها التحليلية النافذة، وغوصها الشفيف تحت الجلد، في ما وراء الأحداث والعلاقات والظواهر المرصودة.

قيمة أدبية ومعرفية

هكذا هي رحلة الكاتب التركي البارز عزيز نيسين (1915-1995) إلى مصر، وهو صحافي ومحلل سياسي وروائي ومسرحي موهوب مثقف. ومن ثم، فقد جاءت مشاركته في مؤتمر اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا المنعقد في القاهرة عام 1966 لتطلق العنان لقلمه المرهف، ليحوّل إقامته المحدودة في العاصمة المصرية بضعة أيام إلى فصول ممتعة وشيّقة في قراءة تفاصيل الواقع المصري والعربي قبل هزيمة 1967 بشهور قليلة، وبعد خمس سنوات من انتهاء الوحدة المصرية–السورية (1958-1961). وقد ظلت مصر، بعد الانفصال عن سوريا، تحتفظ باسم "الجمهورية العربية المتحدة" حتى عام 1971، الذي سمّيت فيه باسمها الحالي "جمهورية مصر العربية".

 رحلة كاتب بِوَزنِ عزيز نيسين، إضافة إلى تناولها معاينات نيسين حول مصر في الستينيات، تكشف في الوقت نفسه كثيراً من الجوانب المتعلقة بعزيز نيسين ككاتب وكإنسان

رحلة عزيز نيسين، رئيس نقابة الكتّاب الأتراك والكاتب المرموق في ميدان الكوميديا السوداء بقصصه ورواياته ومسرحياته الرائجة، إلى مصر المحروسة، وأيضاً إلى العراق، جمعها في كتاب بعد نشرها في مجلة "أَنْط" وفي جريدة "وطن" التركيتين. وقد صدرت هذه الرحلة حديثاً باللغة العربية عن دار مرايا للنشر والتوزيع (2024)، في كتاب بعنوان "الدنيا قِدرٌ كبير وأنا مِغْرَفة"، وأنجز الترجمة كل من الشاعر والكاتب والباحث المصري أحمد زكريا، المقيم في تركيا، والكاتبة والمترجمة التركية ملاك دينيز أوزدمير.

غلاف كتاب "الدّنيا قِدرٌ كبير وأنا مِغرفة"

جولة عزيز نيسين، الفائز بجوائز السعفة الذهبية من إيطاليا والقنفذ الذهبي من بلغاريا والتمساح من الاتحاد السوفيتي واللوتس من اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا، في ترجمتها العربية، كان لها موعد أيضاً مع الجوائز العربية، إذ حصد المترجمان المتميزان عنها جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في الدورة العشرين للجائزة التي يمنحها "المركز العربي للأدب الجغرافي-ارتياد الآفاق" في أبوظبي ولندن، وذلك في حقل "الريبورتاج الرحلي المترجم- الرحلة الصحافية"، لما يمثله الكتاب من قيمة أدبية ومعرفية في آن، تتجلى في ملاحظات نيسين الذكية وآرائه الثاقبة وتفاعله الخصب مع المشهد المصري والعربي وأسرار الحياة في قاهرة المعزّ.

كلُّنا في الهمّ شرقُ

من مظاهر الثراء أيضاً في رحلة كاتب بِوَزن عزيز نيسين، كما يلفت المترجمان، أنها إضافة إلى تناولها معاينات نيسين حول مصر في الستينيات، تكشف في الوقت نفسه كثيراً من الجوانب المتعلقة بعزيز نيسين ككاتب وكإنسان، وهي الجوانب التي ربما لا يفصح عنها الكاتب بهذا الوضوح في قصصه ورواياته ومسرحياته، كنظرته إلى مصر والعالم العربي وأنظمته في مرحلة ما بعد الجمهورية، ورؤيته للقومية العربية، وعلاقة العرب والأتراك بشكل عام، ومقارنته بين الفلاح المصري الفقير ونظيره التركي الأقل فقراً.

عزيز نيسين

وينجذب القارئ العربي بسهولة، ويتفاعل بعفوية مع أدبيات نيسين المتعددة، وكتاباته الساخرة اللاذعة، إذ يشعر المتلقي العربي بأن نيسين "يتحدث بلسانه، عن واقعه نفسه تقريباً، نظراً لتشابه الواقعين العربي والتركي (كلنا في الهمّ شرقُ)، والمعاناة التي عاشها الشعبان، رغم حالة القطيعة التي فرضتها الأنظمة التركية والعربية على شعوبها بعد انهيار الدولة العثمانية".

المترجمة ملاك دنيز أوزدمير

ولذلك، فإذا كانت هذه الرحلة مهمة بالنسبة للأتراك الذين لا يعرفون كثيراً عن مصر، خلال سنوات القطيعة، فإن هذه الرحلة "على القدر نفسه من الأهمية بالنسبة للعرب أيضاً، لأنها بعيني كاتب تركي، يعرف دوره جيّداً في أخوة الشعوب". وفي هذا الصدد، مضى عزيز نيسين يقول: "ككاتب أرى أنه من واجبي أن أخبر الناس بما رأيت، لأن وظيفتي ككاتب اشتراكي ليس إقامة صداقة دبلوماسية عابرة بين دولتين، ولكن العمل على خلق صداقة حقيقية بين شعبين. ومن غير الممكن أن يتعرّف الشعبان التركي والعربي، أحدهما على الآخر، من خلال العلاقات بين الحكومات والتجارة فقط. لا يمكن أن يتحابّا دون أن يتعارفا عن كثب. وهناك ما يمكن أن يؤدي إلى المعرفة المتبادلة بيننا بالتأكيد، إنه شِعْرنا ورواياتنا، وقصصنا وحكاياتنا، أو بكلمة واحدة: أدبنا".

السيطرة على سوريا

في كتابه المتدفق، يصب عزيز نيسين تأملاته على علم مصر الذي تغير في مرحلة الوحدة مع سوريا (1958-1961)، ويتخذ ذلك مدخلاً إلى فهم خبايا العلاقة بين البلدين، استناداً إلى التقارب الجغرافي، والشواهد التاريخية السابقة. لقد كان علم مصر مشكّلاً من اللون الأخضر، وفوقه هلال أبيض، وثلاث نجمات، مثلما يعرف معظم الناس. ولكن هذا خطأ، كما يلاحظ الكاتب التركي، أو خطأ من ناحية، وصواب من ناحية أخرى.

إن ذلك العلم الذي يتحدثون عنه لم يعد موجوداً، لأن دولة مصر ببساطة لم تعد موجودة، إذ حلت محلها الجمهورية العربية المتحدة، التي يتكون علمها من ثلاثة ألوان؛ الأحمر في الأعلى، والأبيض في المنتصف، والأسود في الأسفل، وفوق القسم الأبيض نجمتان خضراوان. لماذا وضعوا النجمتين الخضراوين؟ لأنهما تمثلان مصر وسوريا، وبعد انسحاب الأخيرة من التحالف، بقيت النجمتان الخضراوان في علم الجمهورية العربية المتحدة. ولكن، مع من تحالفت مصر بعد انسحاب سوريا؟ لقد بقيت وحدها كجمهورية واحدة، ورغم ذلك ظل اسمها الجمهورية العربية المتحدة.

المترجم أحمد زكريا

ما علاقة الحُكم في مصر بالحُكم في سوريا؟ ما يظهر في الحاضر يمكن فهمه من خلال قراءة التاريخ، الذي يعود إليه عزيز نيسين في رحلته الواعية إلى أرض الكنانة، قبل هزيمة 1967. يسترجع الكاتب التركي أن جيش السلطان سليم قد اتجه إلى القاهرة في مطلع القرن السادس عشر. كان الجو حارّاً للغاية في الصحراء هناك، والأمطار لا تهطل إلا من ثلاث لخمس مرات في العام. وبعد حرب الريدانية، أخذ السلطان العثماني القاهرة، وهرب المملوكي طومان باي، ثم ألقوا القبض عليه، وأعدمه السلطان، وأمر بترك جثته معلقة على الحبل لثلاثة أيام، ثم قاموا بدفن طومان باي الشجاع.

وهذا يعني أن مصر منذ عام 1517 قد صارت ضمن الأراضي العثمانية. وعام 1798، جاء نابليون بونابرت بجيشه إلى الإسكندرية، ودخل مصر، وأخذ القاهرة. وكان السلطان سليم الثالث في الحكم آنذاك. وحارب الجيشُ العثماني الجيشَ الفرنسي، وكانت حرباً صعبة على الجيش الفرنسي، حيث قال نابليون: "وفقاً للنظام الاستعماري، فقد ذهبتُ إلى مصر من سوريا، لأنهما تتبعان لنظام حكم واحد".

ويصل عزيز نيسين في تحليله الوافي إلى أنه توجد حقيقة تاريخية في هذه المقولة التي أطلقها نابليون، لأنه "حتى الآن، من يحكم مصر فإنه سوف يحكم سوريا، وهذا ما حدث منذ أيام الفراعنة، والفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين". ولقد كانت أول هزيمة لجيش نابليون في عكا، ثم خرج الفرنسيون من مصر. ولكن؛ ماذا تبقى من سفر نابليون إلى مصر؟ بقي شيئان؛ أحدهما مقولته الشهيرة: "مصر للمصريين"، وبالتأكيد قال نابليون ذلك لكي يأخذ مصر من العثمانيين لفرنسا، والشيء الثاني الذي تبقى "الثقافة الفرنسية"، وهذه الثقافة مستمرة في مصر حتى الآن.

مفاجأة بشأن الأزهر

ومن خلال زيارة ليست طويلة إلى الجامع الأزهر، الذي يدرس فيه عشرات الطلاب الأتراك، معظمهم من أرياف الأناضول، يصل عزيز نيسين في تحليلاته إلى صورة مختلفة تماماً عن تلك الصورة النمطية السائدة بشأن الأزهر. فلقد كان في تركيا فريقان لا يريدان لطلاب بلادهما أن يذهبوا للدراسة في الأزهر؛ الأول: هم الذين يُسمّون أنفسهم تقدميين، ويظنون أن الأزهر الرجعي لم يتغير. والفريق الثاني: هم الرجعيون في تركيا، الذين يظنون أن الشباب الأتراك إذا ذهبوا للدراسة في الأزهر فإنهم سيعودون شيوعيين، على اعتبار أن الأزهر تغيّر تماماً، ولم يعد مثلما كان في الماضي.

كانت هذه الرحلة مهمة بالنسبة للأتراك الذين لا يعرفون كثيراً عن مصر، خلال سنوات القطيعة، فإن هذه الرحلة "على القدر نفسه من الأهمية بالنسبة للعرب أيضاً، لأنها بعيني كاتب تركي، يعرف دوره جيّداً في أخوة الشعوب"

ويوضح عزيز نيسين أن الفريقين بعيدان تماماً عن الحقيقة، قائلاً: "عرفتُ وأنا في القاهرة، أننا لا ندرك شيئاً عن مصر، أو أن معلوماتنا خاطئة. إذا كنا نفكر حتى الآن أن الأزهر هو قلعة الرجعيين، فإننا لا نعرف شيئاً عن الثورة المصرية. لا أقصد أن أقول: إن الأزهر تقدمي، هو جامعة مثل كل الجامعات في العالم، لكنها جامعة عربية في القاهرة".

سر تميّز الرحلة

أما سرّ تميز "الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغْرَفة"، فهو مقدرة عزيز نيسين اللافتة على الاستغراق في التفاصيل المعيشة، واتخاذها مؤشراً لقراءة طبيعة الشخصية المصرية ومقوماتها وتحولاتها. فمن علاقات الودّ مثلاً التي استشعرها في مطار القاهرة، بمجرد وصوله، لدى موظفي التأشيرات، ومسؤولي خدمات سيارات الأجرة، وغيرهم من الشخصيات الرقيقة، راح يسرد: "هل هذه الأمور كلها مصادفة؟! رأيتُ خلال إقامتي في القاهرة كثيراً من هذه المعاملة، وربما هي أحداث صغيرة، لكنني أهتم كثيراً بالتفاصيل الصغيرة، وبهذه الأمور أحاول فهم العلاقات الإنسانية في هذا المجتمع".

ويستنبط الكاتب التركي المحنك، في رحلته الذهبية إلى مصر المؤمنة آنذاك بالقومية العربية، أن علاقات المصريين بعضهم ببعض ليست متوترة أو حادة، وذلك لثلاثة أسباب: الأول، أنهم أبناء حضارة قديمة، وهذا ليس شيئاً سهلاً، ويظهر هذا مع الجميع حتى الحمّال في المطار، وهذا التراكم الحضاري يظهر عند الأتراك أيضاً، وحتى الدول المتقدمة، لا تكون فيها العلاقات الاجتماعية بهذا الشكل.

والسبب الثاني، هو أن المصريين قد سُحقوا كثيراً طوال تاريخهم، والمسحوق يشعر بالمسحوق مثله، ويساعده في أصعب ظروفه. ولكي يتمكن المسحوق من الوقوف، يجب أن يستند إلى شخص آخر، والأتراك قد سُحقوا أيضاً، ولكن ليس كما حدث مع المصريين.

أما السبب الثالث الذي يستعرضه نيسين، فله علاقة بالسحق أيضاً. فالشعب المصري طوال التاريخ كان على رأسه حاكم، من المصريين أو من غيرهم، من العثمانيين والفرنسيين والإنكليز، وقد سُحق الشعب المصري كثيراً، وبدلاً من أن يصبح أكثر حدّة، صار أكثر مرونة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image