عبر نهر الفرات، لطالما تداخلت رحلة الحياة والموت، بتاريخ كامل من الحضارات على ضفّتيه. من الأساطير القديمة حتى يومنا هذا، وقبل أن يكبح جماحه الإنسان بالجسور والسدود، كان الفرات مصدر الخير والخوف لحضارات ما بين النهرين. في أساطير بابل وآشور وكنعان، اختلفت المكانة والتفسيرات: من مياهه خلقت الآلهة البشر، ومنه منبع الخصوبة. قدّموا القرابين للآلهة خشية فيضانه، وتضرّعوا لخيراته. هو رابع أنهار جنّة عدن في المسيحية، وحدود أرض الميعاد في اليهودية، وانحساره عن جبل ذهب من علامات الساعة لدى المسلمين.
خلال سنين حياتي القصيرة، كان الفرات شاهداً أساسياً على اختلاف المراحل، من لحظات الأمل إلى لحظات الألم، من السّفر، للزيارات العائلية، إلى الإسعافية، إلى التهريب عبر أراض ملتهبة. في كلّ مرّة كان النهر يروي حكايات مختلفة ويسمع حكايات جديدة مني. حوارٌ غزيرٌ بنفس البداية والنهاية، يسألني مستفسراً: "مرحباً، إلى أين؟" ويستنجد حزيناً: "إلى متى؟".
مع اندلاع الحرب ومساهمة جميع الأطراف في تدمير الجسور الرابطة بين ضفّتيه، صار الفرات رمزاً للصعوبات الجديدة، بأساطير ومصطلحات جديدة، مثل العبارات، الجسور المؤقتة، المعابر النهرية و زوارق التهريب!
عبورٌ على الحافّة
خلال سنين حياتي القصيرة، كان الفرات شاهداً أساسياً على اختلاف المراحل، من لحظات الأمل إلى لحظات الألم، من السّفر، للزيارات العائلية، إلى الإسعافية، إلى التهريب عبر أراض ملتهبة
تقع هذه المعابر عادةً عند الامتدادات الأضيق للنهر، بالقرب من الجسور المدمّرة، حيث تكون المسافة أقلّ، ما يسهّل عملية العبور. القبطان غالباً ما يكون شاباً صغيراً أو حتى طفلاً، يساعده شخصٌ آخر في جمع الأجرة وتحمّل النقاشات المعتادة من الركّاب. النقاشات تتضمّن أسئلةً مثل: هل تكلفة الطفل مثل البالغ؟ هل الأمتعة كثيرةٌ لدرجة تستحقّ حصوله على مبلغ إضافيّ؟ هل يوجد ممنوعاتٌ بين المتاع (مثل السمن العربيّ، الزيت، أجهزة الموبايل الجديدة.. إلخ)؟
ويتجاهل الجميع السؤال الأساسيّ والأهمّ: هل يستطيع القارب حمل كلّ هذا الوزن؟!
الجنازات: جواز السّفر الأخير
بينما الناس متجمّعون على الضفّتين منذ الصباح، دون أمل حقيقيّ بالسّماح لهم بالعبور، تسمع جلبةً من بعيد ويبدأ الهمس: "إجت الجنازة، إجت الجنازة". في أحد أكثر مشاهد حياتي سورياليّة، تقترب الجنازة محمولةً على أكتاف أربعة رجال مسرعين كمن يحمل نبأً عظيماً. لا توحي هيئتهم بالحزن، بينما تنفرج أسارير الناس المتجمّعين وتدبّ الحركة في خمولهم تحت الشمس. يسرع أحدهم لتوجيه الناس باتجاه العبّارة الأكبر حجماً والأكثر سعةً، يوضع التابوت في وسطها، ويتكدّس العالم حوله.
أنا التي لم أحضر عزاءً مذ قبّلت جبهة أمي في تابوتها منذ سنوات، أفكّر جدّياً بعدم الصعود، ولتذهب الرحلة إلى الجحيم. لكنّ رأي الجماعة غلب مخاوفي الشخصيّة، فانسقت مع السائرين. جلست بهدوء في أبعد نقطة عن التابوت، أسمع الأحاديث الجانبيّة للركّاب:
"الحمد لله، إجو بوقتهم... كان هلّق مشويّين من الشمس"
"زين خطرت على بالهم هالفكرة... يا خي شعب ذكيّ غير ربّك ما بيقدر عليه"
"مو أوّل مرّة يا زلمة... أكتر من مرّة اضطرّوا يجيبو تابوت ليعبّروا العالم!"
إذن، هي مجرّد حيلة اخترعها أحدهم، التابوت فارغ والجنازة وهميّة. لم أدر إن كان عليّ أن أرتاح لهذا الاكتشاف، أم أشعر بالأسى لحالنا، حيث يسير الأحياء بمعيّة الموتى. وما الفرق إن كان التابوت فارغاً أو ممتلئاً؟ ألا يحمل كلّ واحد من هؤلاء تابوتاً ما في داخله أو عدّة توابيت لمن فقدهم في الحرب؟ يحمله في حلّه وترحاله، نومه وصحوه، قريباً من قلبه دائماً.
يغرق كلّ شخص في أفكاره وآماله، بينما تدندن عجوزٌ في توقيت خاطئ تماماً الأغنية الشعبيّة: "سحر غرقت بالبحر..". كان حظّنا موفّقاً وسمحوا بنزولنا على الضفّة الأخرى. أفرغت العبّارة، ساروا بالتابوت قليلاً ثمّ وضعوه على الأرض، ونسي الجميع وجوده. تفرّق الجمع كلٌّ في حال سبيله، فما زالت الرحلة طويلةً ومتعبةً.
هل يدرك الفرات كلّ ما يحدث؟ أيحمل بين قطراته قصص كلّ من عبروه، وأرواح من فشلوا في ذلك؟ هل بكى جسوره أكثر أم جيرانه، أم أنّه في سيره المحموم نحو النهاية قد اعتاد الخسارات، يتجاوزها كما التّراب والصخور التي يرميها على ضفّتيه كلّما أنهكته ثقل الحمولة؟
زورقٌ صغيرٌ لأسئلة أبديّة
أفكّر: هل يدرك الفرات كلّ ما يحدث؟ أيحمل بين قطراته قصص كلّ من عبروه، وأرواح من فشلوا في ذلك؟ هل بكى جسوره أكثر أم جيرانه، أم أنّه في سيره المحموم نحو النهاية قد اعتاد الخسارات، يتجاوزها كما التّراب والصخور التي يرميها على ضفّتيه كلّما أنهكته ثقل الحمولة؟
اليوم وأنا أقطع المسافة ما بين ضفّتيه المحرومتين من عناق، أسأل: هل سيهتمّ أحد بخياطة ما تمّ تمزيقه؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ يوميناسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومينفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته