"شدّوني بالسّيف (يقصد غصباً)... طلعوني فوق الطاولة... بوليسي يهبطلي سروالي... وآخر كتّفلي يديّ بالأصفاد... والطبيب يدخل صبعه ويخرّج بكل برودة دم وكأنّي فأر تجارب"، هذا هو المشهد الذي وجد فيه نفسه، ولا ينساه الناشط الكويري دانيال -حسبما روى لجمعية دمج للعدالة والمساواة ووافق على نشر قصته عبر رصيف22- وربما تتكرر مع كل من مرّ بتجربة "الفحص الشّرجي" غير القانوني واللاإنساني.
على الرغم من تجريم هذه الممارسة، "الفحص الشرجي"، ومطالبة الجهات الحقوقية الدولية باستمرار لوقف العمل بها، ما تزال تتكرّر في تونس وبعض الدول العربية، فهل من مبرّرات قانونية للّجوء إليها؟ وما انعكاساتها على الذين يتعرّضون إليها؟ ولماذا يتم الحديث عنها في تونس الآن؟ هذا ما نحاول رصده في هذا التقرير.
"استنطاق وتشريح قسري لجثّة حيّة"
الفحص الشرجي هو أحد العناوين السوداء التي تلاحق مجتمع الميم-عين في تونس حيث سمحت السلطات التونسية لنفسها بانتهاك حرمة الجسد باسم القانون، ويتمثّل في فحص طبّي يأذن به وكيل الجمهورية لإثبات "تهمة ممارسة اللواط" -كما يُطلق على الممارسة الجنسية المثلية- بموجب الفصل 230 من المجلّة الجزائية المتعلّقة بالمثلية الجنسية. وهو الفصل الذي تصفه منظمة العفو الدولية بأنه "فصل ينطوي على كراهية شديدة للمثلية الجنسية وينبغي إلغاؤه بصورة عاجلة من المجلة الجزائية التونسية".
في حين أنه "تشريح قسري لجثّة حيّة وجريمة انتزاع قرينة قانونية من مناطق الحشمة والخصوصية والكرامة من جسد شخص لإدانته"... نظام قيس سعيد يتمادى في ممارسة الفحص الشرجي المُجرّمة قانونياً وحقوقياً وإنسانياً بالمخالفة حتّى للقوانين المحلية
وفي هذا السياق، يقول المحامي والناشط الكويري حمّادي الهنشيري، لرصيف22، إن الفحص الشّرجي إجراء غير قانوني بمقتضى القوانين الداخلية ذات الصلة ودستور 2022 ودستور 2014 بالإضافة إلى تعارضه كممارسة مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس ومُلزمة بتطبيقها، باعتبار أن مثل هذه الفحوصات تنال من حرمة الجسد وخصوصية البشر ومن الكرامة الإنسانية.
يشير الهنشيري إلى أن هذه الفحوص يتم الإذن بها على معنى الفصل 127 مكرّر وما بعده، بالموافقة المستنيرة لضحايا جرائم الاعتداءات الجنسية على غرار الاغتصاب. ويضيف: "في ما يتعلّق بالعلاقات الرّضائية، والعلاقات الجنسية دون مقابل، على غرار ما جرّمه الفصل 230 من المجلّة الجزائية وأبرزها المثلية الجنسية، يتمّ إجراء الفحوصات الشّرجية غصباً أو بالمخاتلة أو التحايل من خلال الخداع المعنوي لشخص متّهم".
ويردف المحامي التونسي بأن هذه الفحوص تحدث في حضور أمني، وأحياناً بتدخّل أمني من خلال مسك المتّهم من مناطق الحساسية الجنسية لتمكين الطبيب من إدخال إصبعه في "المداخل الحسّاسة" لإجراء اختباراته التي عادة ما تكون غير مأذون بها قضائياً، مؤكّداً على ومكرّراً عدم قانونية الإجراء في حالة وجود الإذن القضائي من عدمه.
ويصف الناشط الكويري الفحوص الشرجية بأنها "جرائم تعذيب ينطبق عليها التكييف القانوني والواقعي للفصل 101 وما بعده من المجلة الجزائية المتعلّق بالتعذيب" حيث أن الفحص الشرجي "هو تشريح قسري لجثّة حيّة وجريمة انتزاع قرينة قانونية من مناطق الحشمة والخصوصية والكرامة من جسد شخص لإدانته".
تجدر الإشارة إلى أن تونس التزمت منذ أيلول/ سبتمبر 2017 بتوصيّات مجلس حقوق الإنسان التّابع للأمم المتحدة، من بينها التوقّف عن إجراء الفحوصات الشرجية. كما دعت العمادة الوطنية للأطباء بتونس في بيان لها في نيسان/ أبريل من نفس العام، المنتمين إليها من الأطباء إلى احترام حرمة الجسد للمواطنين.
وأكدت عمادة الأطباء في بيانها آنذاك استنكارها الفحوص الشرجية المفروضة على المثليين الذين يتم إجبارهم على ذلك من قبل قوات الأمن، معتبرةً هذه الفحوص "شكلاً من أشكال التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة واللاإنسانية". لكن السلطات التونسية واصلت العمل بهذا "الإجراء التشريحي" - وفق التوصيف القانوني- الذي ثبت علمياً أنه غير دقيق في إثبات ممارسة الجنس المثلي من عدمه.
أفراد مجتمع الميم-عين يخافون "العدالة"
بدورها، تقول لرصيف22 عضوة الهيئة التنفيذية لجمعية دمج للعدالة والمساواة، ناجية منصور، إن "الفحص الشّرجي ليس دليل اتهام من عدمه، بل هو أداة إهانة وإذلال وسحق لأفراد مجتمع الميم-عين، مضيفةً أن الممارسات الممنهجة تبدأ باستهداف الأفراد من مجتمع الميم-عين لأسباب سطحية، تقوم أحياناً على مظهر خارجي "يستفز" مزاج شرطيّ مثلاً، ليجد الشخص نفسه محل متابعة جزائية.
"شدّوني بالسّيف... طلعوني فوق الطاولة... بوليسي يهبطلي سروالي... وآخر كتّفلي يديّ بالأصفاد... والطبيب يدخل صبعه ويخرّج بكل برودة دم وكأنّي فأر تجارب"، هذا هو المشهد الذي وجد فيه نفسه، ولا ينساه الناشط الكويري التونسي دانيال خلال تجربته "الفحص الشّرجي" غير القانوني واللاإنساني
تؤكّد الناشطة الكويرية التونسية أن جمعية دمج لم تسجل حتّى اليوم أيّ جريمة "تلبُّس" واحدة لأفراد مجتمع ميم عين على معنى الفصل 230، منوّهةً في نفس الوقت، بأن أغلب القضايا التي لاحقت أفراد المجتمع الكويري، كانت بعد لجوئهم للشرطة لرفع شكاية بسبب عنف تعرّضوا إليه ليتحوّلوا داخل مراكز الشرطة من ضحايا عنف إلى متهمين بعدّة تهم بموجب فصول قانونية جاهزة لاستعمالها من قبل السلطة، أبرزها الفصل 230 المتعلق بـ"تحريم اللواط والسحاقية"، والفصل 226 و226 مكرّر المتعلّق بالاعتداء على "الأخلاق الحميدة"، بالإضافة إلى الفصل 125 المتعلّق بهضم جانب موظف عمومي.
هذا ما يدفع أفراد مجتمع الميم-عين -بحسبها- إلى عدم الولوج إلى "العدالة"، بما يعتبر واحد من الانعكاسات النفسية التي تهدّد الأفراد الذين خضعوا للفحص الشّرجي. تضيف منصور على ذلك الأثر سلسلة من المشاكل الاجتماعية والنفسية على غرار الاكتئاب والانتحار، والإدمان والخوف من التعامل مع المحيط المجتمعي، وفقدان الثقة من المحيط.
تتابع منصور بأن كل من تعرّضوا للفحص الشرجي يجمعون على شعورهم بالحط من كرامتهم عبر هذا الإجراء الذي ينتهك حرمتهم الجسدية والذي يعد أيضاً عنفاً جنسياً من البوليس والطبيب الذي يقوم بهذا الفحص، في لحظة تتوقّف عندها ساعتهم مكشوفين لا فقط لمن كانوا معهم في غرفة الكشف بل للعالم كلّه، يفقدون بعدها ملكات التواصل مع المحيط الخارجي العائلي والمجتمعي الواسع.
يقول دانيال في شهادته التي سجّلتها جمعية دمج، ووافق على نشرها عبر رصيف22، إن "'العدالة' ليست عادلة… الفصل 230 يُقصيك من الحياة…"، متمنياً "إن شاء الله يجي نهار وناخذ حقي… إن شاء الله يجي نهار ونعاود نحيا".
وسط غياب أرقام رسمية حول أعداد الذين تعرّضوا للفحص الشرجي، وتكتّم وزارة العدل بحجة حماية المعطيات الشخصية، وفق ما تفيد به محدّثتنا، تقول منصور إن جمعية دمج للعدالة والمساواة، الهادفة إلى إلغاء تجريم المثلية الجنسية وإيقاف العمل بالفصل 230 والفحص الشرجي، حاولت -بجهودها التي تبقى منقوصة لعدّة اعتبارات لوجستية ومجتمعية- حصر عدد الأشخاص الذين خضعوا للفحص الشّرجي على معنى الفصل 230 خلال عام 2024، وتمكّنت من تحديد قرابة 10 أشخاص، وسط إنكار المؤسسات الرسمية في المجالس الأممية إتباعها هذا الإجراء.
سلاح جديد بيد سلطة ترفض إلغاء تجريم المثلية
وبينما تلاحظ منصور ارتفاع وتيرة تتبّع النشطاء الكويريين في عام 2024، لا تستغرب ذلك بالنظر إلى المواقف المعلنة للرئيس التونسي قيس سعيد المعارضة للمثلية الجنسية وآخرها ما تطرّق إليه في بيانه الانتخابي في أيلول/ سبتمبر الفائت، وقوله: "من المفارقات أن الذين كانوا يتبادلون التّهم اجتمعوا في المظاهرات نفسها، وألقوا نفس الخطب... التقى من كان يدعو إلى تطبيق الشريعة مع الذين يدعون إلى المثلية الجنسية...". كما تعتبر أن البيان الأخير لوزراة العدل، والمتعلّق بحماية "الأخلاق الحميدة" هو ترجمة لسياسة دولة للقمع وإقصاء أي شخص "غير معياري".
بعد ساعات من حديثنا مع ناجية منصور، قضت المحكمة الابتدائية بالكاف (الشمال الغربي التونسي) الأربعاء 4 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بالسّجن لمدّة سنة بحق اثنين من أفراد مجتمع الميم-عين على أساس الفصل 230. وهو حكم جاء بعد استصدار أذون قضائية لعرضهما على الفحوصات الشرجية القسرية، وفق بيان جمعية دمج الصادر في نفس اليوم.
في تونس حيث تساوي فيه الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب بين جريمة "الفحص الشرجي" التي يصنّفها القانون الدولي كأحد صنوف التعذيب، بنشاط احتجاجي سلمي، وتعد سلطته العلاقات والمعاهدات الدولية إملاءات تمسّ السيادة الوطنية، يقف مجتمع الميم-عين وحيداً على رمال متحرّكة
اعتبرت الجمعية في بيانها أن "السلطة السياسية، شنّت حملة ممنهجة واسعة على أفراد مجتمعها الكويري وكل من يخالفها التصوّر و الرّأي حول 'الأخلاق المجتمعية' ومبدأ الحرية"، مشيرةً إلى بلاغ وزارة العدل حول الفضاءات الرقمية و"المس بالآداب العامة" والظهور بـ"وضعيات مخلة بالأخلاق الحميدة" أو "منافية للقيم المجتمعية"، كما وصفها البيان وجميعها أوصاف فضفاضة "تُطلق الوزارة عبرها أيدي عناصر الأمن وتمنحهم المشروعية لحملات اعتقالات أسفرت حتّى الآن عن سجن مجموعة من صانعي وصانعات المحتوى على أساس فصول اخلاقية ورجعية تذكّر بمحاكم التفتيش في العصور الوسطى والتي تعرض خلالها الناشط الكويري خبيب صانع المحتوى ذو الهوية الجندرية اللامعيارية لكل أشكال التنكيل وسوء المعاملة"، وفق نص البيان.
تجدر الإشارة إلى أن "دمج" التي نجحت في اقتحام الفضاء العام بعيداً عن الصورة النمطية، نفّذت في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر تحرّكاً احتجاجياً ميدانياً، أثناء عقد الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب "ندوة دولية حول الممارسات الفُضلى للوقاية من التعذيب"، بحضور منظمات دولية.
"الفحص الشّرجي ليس دليل اتهام من عدمه، بل هو أداة إهانة لأفراد مجتمع الميم-عين… الممارسات الممنهجة تبدأ باستهداف الأفراد من مجتمع الميم-عين لأسباب سطحية".
وهو تحرّكٌ جاء رفضاً لما اعتبرته الجمعية تصاعد المحاكمات على أساس الفصل 230 وإخضاع المواطنين والمواطنات للفحوصات الشرجية التعذيبية، بالتزامن مع إخضاع اثنين من أفراد المجتمع ميم-عين للفحوص الشرجية القسرية في قسم الطب الشرعي بمستشفى شارل نيكول بالعاصمة التونسية في نفس اليوم.
وفي رد فعل غريب على هذا التحرّك السلمي والقصير، من رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب، فتحي الجرّاي، الذي قال مباشرةً وأمام ضيوفه من ممثلي/ات المنظمات الدولية والأممية الناشطة في مناهضة التعذيب، إن تحرّك نشطاء "دمج" والتي تعتبر من أهم شركاء الهيئة، "لا يقل اقتحامية عن الفحوصات الشرجية".
وفي معرض تعليقه على هذا التصريح، الذي اعتبره النشطاء وحتّى صحافيون غريباً وخطيراً، يقول فتحي جراي لرصيف22: "نحن ضد كل اعتداء على الحرمة الجسدية والمعنوية بشكل مبدئي"، مودفاً بأن الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب هي هيئة عمومية مستقلّة تراقب الأماكن السالبة للحرّية، وظروف الاحتجاز، وطريقة المعاملة، بما في ذلك شبهات التعذيب وسوء المعاملة.
يكرّر الجرّاي وصفه التحرّك الذي قام به نشطاء "دمج" بـ"النشاط الاقتحامي" و"المرفوض"، متابعاً بأن الفحص الشرجي إجراء غير مقبول، ووارد في توصيات الهيئة التي رفعت للسلطات الرسمية. والسؤال الملح هنا هو: إذا لم تفِ السلطة في تونس بالتزاماتها الدولية، فهل يتوقع منها أن تُلقي بالاً لتوصيات الهيئة؟
تنظر السلطة الحالية في تونس، بقيادة الرئيس قيس سعيد، إلى العلاقات والمعاهدات الدولية على أنها إملاءات تمسّ السيادة الوطنية، ما يفسّر الضرب بعرض الحائط بتوصيات لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والتزاماتها السابقة في انتهاك واضح لحرمة الجسد وإهانة قصدية لكرامة كل من هو/ي "لا معياري/ة" من الزاوية البوليسية والتي لم يخالفها الأطباء ذات الصّلة حتّى اليوم رغم توصيات عمادتهم بما لا يدع مجالاً للشك بأن مجتمع الميم-عين في تونس يقف على رمال متحرّكة ساوت فيها الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب بين جريمة تعذيب وفق القانون الدولي بنشاط احتجاجي سلمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...