يُعرف الفيلم الوثائقي اصطلاحاً، بأنه محاولة جادة من صاحبه المخرج بشأن البحث في قضية ما، سياسيةً كانت أو تاريخيةً أو حتى إنسانيةً، وتُشترط في تقديمها الحيادية. وبالنظر إلى الفيلم الوثائقي "الطنطورة" للمخرج الإسرائيلي ألون شفارتز، وبدايةً من انتمائه إلى ذلك المجتمع، لا يمكن في أي حال من الأحوال التعامل معه بموقف حيادي بحت، أو تصديق أنه شخص حيادي سيقدّم مادةً فيلميةً باحثةً في شأن يتصل بقضيته. ولكن مع البحث المفصل عنه، والانتباه إلى حواراته المنشورة التي يقول فيها: "أنا صهيوني الأصل. يعتقد البعض أنني لست كذلك، لكنهم مخطئون. أنا بفيلمي لا أقول أعيدوا العرب إلى الطنطورة واطردوا اليهود، لكن كان هناك نوع من التطهير يجب أن نصل إليه".
أي يوضح هدف الفيلم، وسبب التوجه نحو قضية بعينها، ويسنده إلى التطهير، فالاعتراف بالانتماء شيء، لكن ذلك لا ينفي محاولات السعي نحو التطهير؛ تطهير أشبه بمآسي أرسطو في الدراما حين كان يرى النبل في شخص البطل المسرحي، الذي يقع في سقطة تراجيدية، يُعاقب عليها في سياق الأحداث حتى يثير التطهير في نفوس المتفرجين، وربما يثير التطهير في مراحل أخرى الشفقة على البطل نفسه، كونه مثالاً للبطولة والشجاعة، لكن روايته لم تكن خاليةً من العيوب تماماً، وإلا بذلك لا يصبح بطلاً بل خرافة، فالبطولة تتطلب بعض الأخطاء لتبقى، ويتضح ذلك في جملة المخرج نفسه أيضاً حين قال: "لا يمكننا أن نكون منارةً إذا أخفينا هياكلنا العظمية في القبو، والنكبة هي هيكلنا العظيم".
فهو لا ينفي انتماءه أو يتنصل منه، ولا ينفي أيضاً الإشادة والاعتراف بأنه يرى إسرائيل منارةً ودولةً عظيمةً، لكنها سقطت في خطأ يوماً ما وستكون شجاعة بالغة إذا اعترفت بخطئها لتستمر نبيلةً شامخةً، كأوديب الذي فقع عينيه إبان اكتشافه سقطته الدرامية الكبيرة، لكنه ظلّ أسطورةً عظيمةً تداولتها الدراما والتاريخ المسرحي بأكمله.
بالنظر إلى الفيلم الوثائقي "الطنطورة" للمخرج الإسرائيلي ألون شفارتز، وبدايةً من انتمائه إلى ذلك المجتمع، لا يمكن في أي حال من الأحوال التعامل معه بموقف حيادي بحت، أو تصديق أنه شخص حيادي سيقدّم مادةً فيلميةً باحثةً في شأن يتصل بقضيته
في عام 2022، أصدر شفارتز فيلمه "الطنطورة". والطنطورة قرية فلسطينية تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من حيفا، يُقال إن عدد سكانها بلغ نحو 1،500 نسمة في العام 1945.
افتتح الفيلم بعبارة للسياسي الإسرائيلي السابق إيغال ألون: "أمة تجهل ماضيها، حاضرها هش ومستقبلها مبهم". ثم بالدخول إلى الفيلم المكون من مجموعة لقاءات مع عدد من المحاربين القدامى في لواء إلكسندروني، وهو لواء تابع لجيش الدفاع الإسرائيلي، قدّم من خلالهم مجموعة شهادات متضاربة بين شخصيات تعترف بالمجازر التي ارتكبتها في حق الطنطورة وأهلها، وآخرين يعبّرون عن فعلتهم بأنها الحق والواجب، بينما بقي قسم منهم على الحياد بين الاعتراف بالخطأ مع الاحتفاظ بالحق في فعل الاحتلال والقتل، لكن عماد الفيلم بالأساس يقوم على إجراء لقاء مع الباحث الإسرائيلي تيدي كاتس، صاحب رسالة الماجستير التي أعدّها عام 1998، في دائرة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، تحت عنوان "تهجير العرب من القرى المحاذية لجبل الكرمل"، والتي قدّم من خلالها توثيقاً لفعلة الجنود الإسرائيليين في أيار/مايو 1948، في قرية الطنطورة، وذلك من خلال"التأريخ الشفوي"، حيث استعرض الفيلم بلقطات قريبة عددَ الشرائط التي سجلها كاتس مع الجنود الإسرائيليين من فرقة الجيش التابع لـ"الهاغانا"، بجانب بعض الناجين الفلسطينيين.
رسالة مطموسة
تكمن إشكالية كاتس، كشخصية فارقة في رصد تاريخ هذه القرية، في كونه إسرائيلياً حاول رصد الحقيقة أولاً، بجانب ما تعرّض له من اتهامات من هؤلاء الجنود المُسجّل لهم في رسالته، واتهامه بتزوير المعلومات التاريخية، وهو ما تسبب في الضغط على كاتس، ضغطاً وصل إلى حد اعتذاره إليهم، وشطب جامعة حيفا رسالته بعد أن حصل من خلالها على تقدير "الامتياز"، بالإضافة إلى إصابته بأزمة نفسية وعضوية إبان ذلك الاعتذار. لذا فقصة كاتس أولاً كانت هي المدخل والمحفز لشفارتز، للبحث من جديد عن ماهية الطنطورة، وما وقع فيها قبل زمن بعيد، كقصة محو لجهد بحثي باختفائه تختفي معه حقائق تاريخية مؤكدة ومثيرة كمادة فيلمية بلا شك، ومنها يسير الفيلم على نهج كاتس نفسه، ولكن بلقاءات مصوّرة محاولاً بجانب غرضه الأساسي الاعتراف بالخطأ وحفظ ماء الوجه لإسرائيل، أن يردّ اعتبار ذلك الباحث الذي عبّر هو الآخر عن ندمه الشديد من الاعتذار الذي قدّمه عنوةً، وأضاع من خلاله جهده البحثي.
يستكمل الفيلم خطاه ليس فقط على نحوِ تضاربِ أفراد لواء إلكسندروني، لكن أيضاً بجانب إجراء تسجيلات مع مواطنين فلسطينيين من العمر المقارب للتسعين نفسه، شهدوا وقوع الجرائم، بجانب أساتذة في جامعة حيفا، مؤيدين ومعارضين
بالصوت والصورة
ذكر إلياس شوفاني، في بحثه "مجزرة الطنطورة في السياق التاريخي لتهويد فلسطين"، والمنشور في مجلة "الدراسات الفلسطينية" العدد 43، أن الرواية الإسرائيلية المتداولة عن موقعة الطنطورة، خالية تماماً من أي إدانة، بل خاضعة لعملية تحرير تنقيحية صارمة على يد مجموعة من المؤرخين الصهيونيين، بهدف إبراز طهارة السلاح اليهودي.
لكن الباحث يرى أن الرواية مليئة بالثغرات التي لا يمكن لها أن تصمد أمام أي نقد منطقي، مع التطرق إلى رصد بعض الأبحاث من قِبل الإسرائيليين الذين حاولوا النبش في موقعة الطنطورة، والتي يصفها إلياس في بحثه، بأنها أبحاث ذات "نقد خجول"، وأن تيدي كاتس، وحده كما يصفه، هو من كشف النقاب عن الراوية الزائفة، ولذلك نال ردود فعل عنيفةً نتيجة ذلك الكشف، لأنه وبشكل قاطع أكد أنه كانت هناك قرية أوروبية متطورة تمت إبادتها بالكامل على يد الصهاينة، مع اعترافات مسجلة صوتياً لمرتكبي هذه الجرائم، الذين هم بأنفسهم ظهروا في الفيلم بعد تخطيهم من العمر أرذله، ليقول أحدهم: "لم أعترف لزوجتي بما فعلته، فلماذا أعرف نفسي بأنّي قاتل؟"، وآخر: "أفرغت مخزناً كاملاً من الرصاص في وجه مجموعة من الناس، وبشكل عشوائي"، وأخير يوضح أن "من حقه المشروع فعل ذلك لأن هذه الأساليب هي المشروعة في الحروب". ومعهم من يسرد واقعة اغتصابهم فتاةً فلسطينيةً لم تتجاوز من العمر الـ16 عاماً حينها، أي حتى المدافعين منهم لم ينفوا بشكل جذري ارتكاب المجازر، بجانب وجود كاتس نفسه المطموسة رسالته كما طُمست الطنطورة ذاتها.
ومن دواعي السرور، ودون النظر كثيراً في هدف وصول المخرج، سواءً للرصد أو للتطهير، كما صرح من قبل، أن الفيلم لقي هجوماً إسرائيلياً عنيفاً لا يختلف كثيراً عن الهجوم على رسالة الماجستير المذكورة، بجانب عرضه في رام الله بحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومعه مجموعة من المسؤولين الفلسطينيين وسفراء من دول أخرى، وحصوله على إشادة كبيرة من الرئيس، وقد عدّوه مؤكداً للرواية الفلسطينية، إلى حد كبير، والتي تمّ نكرانها على مدار سنوات طويلة، وذلك دون أقصى مجهود في محاولات الفهم أو التردد في الحكم، فهم بأنفسهم من ظهروا باعترافاتهم، بجانب بعض المشاهد الأرشيفية التي تنمّ عن جهد بحثي كبير اختار النوع السينمائي المناسب، ربما بهدف التطهير أو ربما بهدف رد الاعتبار للباحث المقموع، لكن أهميتها الحقيقية تكمن في كونها قادمةً من أصوات لطالما نفت الحكاية وحرّفتها، وأقامت كيانها الهشّ على هياكل وجثث أصحاب الحق والأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 14 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
Ahmad Tanany -
منذ 19 ساعةتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
Ahmad Tanany -
منذ 19 ساعةتلخيص دسم
Ahmad Tanany -
منذ 19 ساعةتلخيص دسم
Husband let me know -
منذ يومينهلا
Husband let me know -
منذ يومينهلا