على شاشة نتفليكس -حالياً- يمكن متابعة الفيلم الوثائقي "دموع أطفال غزة"، وهو من إنتاج سنة 2014، ومن إخراج الإيطالي-الأرجنتيني المقيم في مدريد هيرمان زين، ويحكي قصص أطفال فلسطينيين عايشوا حرب ذلك العام الفارط على قطاع غزة من 7 تموز/يوليو إلى 25 آب/أغسطس 2014، وأوقع ضحايا بالمئات وجرحى بالآلاف. وحدهم الأطفال بلغ عدد من قُتلوا منهم 506، وإليهم يهدي المخرج فيلمه.
عند مشاهدة الفيلم الذي مرَّ عليه قرابة عقد، لا يمكن للمرء إلا أن تتملكه الحيرة في مقاربته، فكل الصور والريبورتاجات التي تصلنا اليوم بعد معركة "طوفان الأقصى" التي شنّتها حماس على إسرائيل وما فعلته إسرائيل بعد ذلك، تكاد تتشابه مع تفاصيله، وكأن لا شيء يتغيَّر أو يأبى أن يتغيَّر طالما أن عدو الجميع هنا هو نفسه، ولا يغيّر من طرائقه في استباحة الدم الفلسطيني.
الفارق الوحيد ربما يكمن في سرد بعض الأطفال قصصهم؛ ففيها دوماً كل شيء جديد، أما الذعر والتوسل اللذان نلمحهما في عيونهم وهم يتجولون بين الأنقاض، فسوف يتكرران على مدار الفيلم، وستزداد أعداد الأطفال المصابين بالرضَّات والتشوهات النفسية. بلغ عددهم نحو 400 ألف طفل، كما يخبرنا المخرج زين. أما في المقتلة الحالية التي يشهدها قطاع غزة ومخيماته وناسه، فلا إحصائيةً دقيقةً حتى الساعة طالما أن الحرب عليه وعليهم ما تزال مشتعلةً، وهي بالمناسبة حرب غير مسبوقة في عنفها وتوحشها، ولا يمكن التكهن بنتائجها حتى في المدى المتوسط البعيد على ما يبدو.
عند مشاهدة الفيلم الذي مرَّ عليه قرابة عقد، لا يمكن للمرء إلا أن تتملكه الحيرة في مقاربته، فكل الصور والريبورتاجات التي تصلنا اليوم من الهجوم الإسرائيلي على غزة، تكاد تتشابه مع تفاصيله
يستعد الأطفال الذين يدورون على غير هدى في هذا الفيلم للحروب المتتالية عليهم، وعلى بيوتهم، وشوارعهم، وحيواناتهم الأليفة التي تعيش بينهم، كالبغال والقطط والجمال والخراف، ما يعني أن هذا العدو يواصل نهجه بتقتيل كل ما يدبّ على هذه الأرض، وهذه هي خلاصة رؤية هيرمان زين. وبالرغم من أنه غير منحاز إلى أحد الطرفين، إلا أنه امتلك سرديةً إنسانيةً لا غبار عليها، وهو يقارب قصص محمد وسندس ومَلَك ومعتصم وعدي ولين وراجاف وحمادة ومحمود وآخرين.
كل واحد من هؤلاء الأطفال يمتلك دموعاً خاصةً به بحجم بحر غزة الذي يحبه محمد كثيراً، وهو قد وُلد فيه، ويريد أن يموت فيه كما يقول أمام عدسة الكاميرا. إنه مثل أطفالٍ غزّيين كثيرين تركوا مدارسهم من أجل أن يعيلوا أسرهم، وبعضهم يعمل في جمع الفوارغ البلاستيكية من أجل خمسة شيكلات يحصلون عليها آخر النهار. لا آفاق أمامهم؛ كل المنافذ قد سُدَّت في وجوهم.
بعضهم يتحسَّر على دراسته، وصار يدرك أنه لم تعد في وسعه العودة إلى مقاعد الدرس، فلا مدارس، وإسرائيل تهاجم حتى مدارس الأونروا التي ظنَّها البعض ممن لجأوا إليها أنها أكثر من آمنة، ولكنها ليست كذلك، وهو الأمر الذي أفقد الناس ثقتهم بهذه الوكالة الدولية، كما تقول الطفلة الصغيرة مَلَك المصابة بالسرطان، والتي لا تستطيع الحصول على دوائها بشكل دوري بسبب استمرار القصف على المستشفيات أيضاً.
يحكي الفيلم الوثائقي "دموع أطفال غزة 70 دقيقةً"، قصص أطفال فلسطينيين عايشوا الحرب على قطاع غزة من 7 تموز/يوليو إلى 25 آب/أغسطس 2014، وأوقع ضحايا بالمئات وجرحى بالآلاف. وحدهم الأطفال بلغ عددُ من قُتلوا منهم 506، وإليهم يهدي المخرج فيلمه.
يتساءل راجاف، بلهجة غزَّاوية مميزة، وهو يحمل اسماً محيّراً، فلربما كان "هندياً" كما قد يوحي بذلك، عن سبب قصف الطائرات الإسرائيلية لسيارة الإسعاف التي كان يقودها والده، ومعه عشرة جرحى يقلّهم إلى المستشفى، ولم تبقَ منهم إلا الأشلاء التي اختلطت ببعضها، ولم يكن ممكناً التفريق بينها، أقله، من أجل دفن كل جثة على حدة.
لا تتوقف الدموع والأسئلة، لأن الأطفال سيكبرون يوماً، ويتساءل عدي باسمهم جميعاً عن أحوالهم، وماذا سيفعل العدو بهم حين يبكون؟ فهو لم "يوفر" عليهم طفولتهم، ولم يرأف بأحلامهم التي تحولت إلى كوابيس تمنع عنهم النوم كما يقول عُدي الذي قُتل أخوه البالغ من العمر اثنين وعشرين عاماً في قصف إسرائيلي أمام عينيه.
على المقلب الآخر من المأساة، كما يقصّ علينا الفيلم، لا حظوظ هنا للفصائل الفلسطينية إلا بطباعة بعض البوسترات لأطفال قضوا تحت القصف. يقول حمادة بنظرات مذهولة ومغيَّبة، إن هذه الفصائل لا تقدّم لهم سوى بعض "الوريقات" المطبوعة التي تحيي استشهاد أصدقائهم، وبعض التماثيل الزجاجية الرخيصة غامضة المنشأ، وقد نُقشت عليها أسماء الأطفال مع وعود باستمرار حفلات الإشادة بالشهداء، وتوزيع المزيد من هذه الشهادات على ذويهم، لكن ما من شيء يداوي أو يبلسم جروحهم، أو يخفف عليهم بعض مصاعب العيش، الذي تحوَّل إلى موت مستمر، ولا يبدو أنه سيتوَّقف. فالذي حدث قبل عقد أو عقدين، سيتكرر كل عامين تقريباً مرةً أخرى كما تقول مَلَك. إنه قطاع جغرافي يضيق بالبشر، وينام دائماً على فوهة بركان، وهو مستعد على الدوام للانفجار بقاطنيه.
يتوسل الأطفال بشراً غير مرئيين لحماية بعضهم، فهذا طفل يحمل شظايا في صدره، ولا يستطيع الأطباء انتزاعها، ويحلم بسفر بعيد قد ينقذه، وآخر ينام ويصحو على شظايا في ظهره، وهذه سندس التي أُسعفت، وهي غائبة عن الوعي، وأمعاؤها خارج بطنها، وقد توقف قلبها عن النبض مرتين قبل أن يقوم الأطباء بإنقاذها بأعجوبة، وأخرى لا يمكن أن تغمض عينها اليسرى بسبب تلف حاجبها، وليست في وسع الأطباء مداواتها في مستشفيات غزة، وهي مثل آخرين وأخريات بحاجة إلى عمليات جراحية لا يمكن إجراؤها إلا خارج جحيم غزة.
يستعد الأطفال الذين يدورون على غير هدى في هذا الفيلم للحروب المتتالية عليهم، وعلى بيوتهم، وشوارعهم، وحيواناتهم الأليفة التي تعيش بينهم، كالبغال والقطط والجمال والخراف، ما يعني أن هذا العدو يواصل نهجه بتقتيل كل ما يدبّ على هذه الأرض
يقول حمادة وفي قلبه غصة، إن من يزورونهم من الوفود الأجنبية يقومون بتصويرهم، ويسجلون أرقام هواتفهم، وعناوينهم، ثم يغادرون وينسون كل شيء وراءهم.
يتكرر الأمر دائماً، ولا يبدو أن هناك نهايةً لشيء؛ لا نهاية للوعود الدولية بإجلاء المصابين، ولا نهاية لـ"هدايا" الفصائل الفلسطينية لهم في الأعياد الموسمية التي تذكّرهم بمآسيهم. إنها الهدايا التي تذكّرهم بضحاياهم أيضاً، وتبقي عيونهم مفتوحةً على ما حدث بالأمس، وقبل الأمس، وربما ما يحدث لهم في الغد وبعد الغد. أما كيف سينتهي كل هذا؟ فلا أحد في وسعه التنبؤ بما قد سيحدث مع أطفال غزيين آخرين في أفلام أخرى، ومن المؤكد أن هناك من يقوم بتصويرها الآن.
سوف تتكرر مشاهد القصف، وربما بوحشية أكبر، فهذه اللحظات المتاحة اليوم قد لا تتكرر أبداً. العالم غافل عن إنكار الصورة التي لم يملّ من مشاهدتها، وكأن ما يحدث اليوم في قطاع غزة، لا يعدو كونه مشهداً مستقطعاً من فيلم "7 أكتوبر" الجديد. هل حدث شيء مع فلسطينيي غزة قبل هذا التاريخ؟ لا لم يحدث شيء، وتالياً فإن القطع الذي تمارسه شاشات البلازما الذكية قد لا يأتي بجديد حين لا يتبقى في هذا العالم الموؤود سوى قطاع جغرافي أخير يتعرض للتنكيل بقنابل تفوق في فرط قوتها مجتمعةً نصف قنبلة ذرية، قلّْ نووية. القطاع نفسه ينشطر إلى ذرَّات، ويتحوَّل بناسه إلى مرايا ضخمة للدموع. دموع ناسه فقط. أما من يخبرنا عن أحوالهم، فمن المؤكد أنه قد ينسى ما يحدث أمام عدسته، وينتقل إلى موكب بصري آخر.
هذه عموماً وظيفة المراسل الحربي حين يقرر صناعة ريبورتاج تلفزيوني عن الحروب والمعارك التي لا تتوقف على قطاع غزة، ولا يفوته مثل آخرين أن يسجل أرقام هواتف وعناوين من هم مرشحون لأن يكونوا على الدوام ضحايا جدداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 15 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...