هل نصف ساعة وثائقية تلفزيونية كافية لكي ترسم خطاً بيانياً عن واقع صراع عمره مئة عام؟ قد يبدو السؤال نافلاً، إذ تستطيع ثلاثون دقيقةً أن تحمل إجابات مستكشفةً عن هذا الصراع، فتنير جوانب غامضةً وغامقةً فيه، وإن لن يكون في وسعها أن تقوم بذلك، فتكون المعضلة في هوية التلفزيون نفسه الذي يقوم بتفكيك ما لا يمكن تفكيكه من باب الحفاظ عليها (الهوية)، فيتذرَّع بانقضاء الوقت حتى من قبل أن يتبيَّن جذر المشكلة التي يتعرَّض لها، ولكنه لا يتوَّرع مثلاً عن استضافة المحللين الإستراتيجيين والعسكريين أنفسهم على مدار عام أو أكثر في إستوديوهات البثّ الرقمي بوصفهم ضيوفاً مقيمين، وتظل ترافقهم هذه الصفة (بالرغم من انقضاء آداب الضيافة منذ زمن طويل)، للحديث عن غزّة ما بعد الطوفان، من دون أن تنقص حنكة التنقل بينهم أو تزيد، فالتلفزيون لا يستطيع التنكر لهذه الهوية التي نشأ عليها، ذلك أن التذرع الدائم بانقضاء الوقت يتيح لأصحاب هذه الخيم الرقمية (إن هم أرادوا)، الإفلات من أي إحراج أو أي معلومات لا تتفق مع أجندتهم المرئية وغير المرئية، فليست هناك جهة تبثّ من دون أجندة ظاهرة أو مخفية!
ما الذي سنلحظه بعد هذه المقدمة في الفيلم الوثائقي السويدي "اختفِ أو متّ" (2024)، من إعداد الصحافية السويدية جيلدا حميدي، وهي تتنقل بين الضفة الغربية "جنين ومخيمها" و"المعرجات"، ومستوطنات غلاف غزة و"يهودا والسامرة".
يسمح المونتاج المتوازي للقائمين على فيلم "اختفِ أو متّ"، بالاستمرار في استعراض آراء الطرف الآخر: مستوطنون يعدّون العدَّة للانتقال بمستلزمات السكن في البيوت إلى غزّة بعد إخلائها من العرب الفلسطينيين
لا تختار حميدي من بين كل الضيوف من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في الفيلم، سوى أولئك الذي سيعطون للفيلم هويته "الجديدة"، فليس هناك حل بتعبيراتهم جميعاً إلا بقضاء أحدهم على الآخر، والتخلص من وجوده نهائياً.
الكل يترَّبص بالكل، حتى الأطفال بينهم، فها هو الفتى الياف ابن المستوطن آموس أزاريا، يقود المُعدَّة حميدي حتى حدود غزة تقريباً، ليقول لها ما تريد أن تسمعه منه، فهي مهيّأة لذلك، أو هي قصدته من أجل أن "يفضفض" أمامها باللغة التي ستبني فيلمها عليها: سوف أصبح جندياً في جيش الدفاع الإسرائيلي لتحرير غزّة التي احتلها العرب.
في المقابل، هناك الطفلة الفلسطينية جانا من مخيم جنين التي لا تتوَّقف عن تكرار لازمة الشهادة والاستشهاد كفعل حياة يومي "مبتكر"، بالرغم من أنها لم تتجاوز ربيعها التاسع. هناك مقاومون فلسطينيون ملثمون أيضاً مثل أبي حمزة، المرابط في عتمة الليل "البهيم" ويده على الزناد، ومن هم مثله ممن لا يؤمنون سوى بلغة المقاومة. هناك مدنيون آخرون أيضاً مثل سليم عودة، عالية مليحات وشقيقها فرحات، يتشبثون بفكرة المقاومة حتى تحرير فلسطين "من البحر إلى النهر".
أيضاً، يسمح المونتاج المتوازي للقائمين على فيلم "اختفِ أو متّ"، بالاستمرار في استعراض آراء الطرف الآخر: مستوطنون يعدّون العدَّة للانتقال بمستلزمات السكن في البيوت إلى غزّة بعد إخلائها من العرب الفلسطينيين الذين لا يمتلكون لغةً فلسطينيةً خاصةً بهم، وقد جهّزوا غرف النوم، وغرف الطعام، والحمامات في العراء المحيط بالمدينة المنكوبة، فليس هناك فلسطين في التاريخ، وليست لديهم عملة، والدول العربية كثيرة من حول "أرض إسرائيل" التي وعدهم الرب بها، ويمكنهم الانتقال إليها، أو الانتقال إلى السويد كما فعل السوريون قبلهم، يقول المستوطن إيهودا شيمون الذي سيقتل جميع الفلسطينيين إن بقوا في أرضه أمام الكاميرا.
لا تكمن المعضلة بالطبع أمام الفيلم باستعراض آراء الطرفين، فليست وظيفة جيلدا حميدي، الانحياز إلى أيّ منهما، ولكن الاكتفاء باستعراض هذه الآراء دون التدقيق فيها
مشكلة هذه الأفلام "المبسترة"، أنها لا تبحث عن أرومة المعلومة الصحيحة، بغية تظهيرها، والدفع بها إلى الواجهة، وهي ليست معنيةً بذلك على أي حال، فلا تبحث عن أن تكون موسوعةً معرفيةً يمكن الرجوع إليها في أي وقت، فها هنا تنقضي مهمتها ما أن ينتهي عرضها. قد تبدو عملية التعقيم في أحايين كثيرة كما لو أنها تجيء لتبسيط فكرة هذا الصراع، وتسطيحه، واختزاله ببعض الشخوص التي تتصارع في ما بينها، ولكنها تحمل الأفكار نفسها، وإن تناقضت تماماً، ذلك أن المشاهد في حالة مثل هذه الأفلام "حيادي" في معظم الوقت، وهي تتوجه إليه أساساً دون سواه، حتى لو لم يُرد له أن يكون الأمر على هذا النحو، فهو لم يعد يهتم بنسيان كل ما قيل له من قبل أن يشاهد ما يشاهده، وفي الوقت نفسه يأبى النزول إلى العمق، للاستكشاف، والتبصر، والبحث عن رواية أخرى، قد تعينه على فتح زاوية أخرى للتفرج والفهم، فليس لديه الوقت الكافي لفعل ذلك، أو هو فقد الرغبة في فعل كل ذلك، فهو محاصر دائماً بـ"الريلزات" التي تطبق على عقله، وتكمل وظيفتي الفك والتركيب، المهمتين جداً لاستمرار وتطور الحضارة المعاصرة.
الطرفان يحاججان بالفكرة ذاتها التي يلهث الفيلم وراءها: إما أن تختفي أو تموت. لا حلَّ آخر أمام أيّ منهما. لا المستوطن الأوروبي مالكييل بار هاي، الذي قصد هذه الأرض بموجب "وعد إلهي"، مستعدّ للتنازل لأصحاب الأرض الأصليين عنها، كما تفترض الخاتمة المشتهاة، ولا أصحاب الأرض الأصليون مستعدون للتنازل عن فلسطين "حتى تقوم الساعة".
لا تكمن المعضلة بالطبع أمام الفيلم باستعراض آراء الطرفين، فليست وظيفة جيلدا حميدي، الانحياز إلى أيّ منهما، ولكن الاكتفاء باستعراض هذه الآراء دون التدقيق فيها، وسوق الوثائق التي تفند هذه الآراء الثقيلة قد تصبح مرجعاً فكرياً وسياسياً لمشاهدين ليسوا معنيين بنوع التسجيل الذي تبحث عنه كمُعدّة "استقصائية"، لو افترضنا حسن النية بالطبع، نحن المشاهدين غير الحياديين أبداً.
استقصاء معلَّب يجري تسويقه لمشاهدين "لا يشبهوننا" دون فحص، وتالياً قد تتعرَّض القضية المطروحة للنقاش لتفجيرها من الداخل عبر توزيع إشارات خطأ تعرّض أصحاب الحق الأصليين لخطر الانكماش التاريخي، والتوهان أمام حصر المعلومات، والتضييق عليها، خاصةً أننا أبناء طوفان معلوماتي، لا يد لنا فيه، فنحن لا نشارك في صنعه، ونكتفي في أحسن الأحوال بتأويله "مُحرجين"، حين يتسنى لنا فعل ذلك، وإن أُسقط في أيدينا لسبب أو لآخر، فإننا سوف نكتفي بهزَّة متأسّية، هزَّة وجدانية عارمة، ونقول من باب المواساة، وقد اكتفينا: "ها قد شاهدنا فيلماً للتو عن تلك البلاد التي حملت أرقّ ورطاتنا الإنسانية والعاطفية في الوجود!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاتلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو