قبيل أشهر قليلة من حرب الإبادة على غزة تم إطلاق فيلم "قتلة زهرة القمر" للمخرج مارتن سكورسيزي عن كتاب يحمل الاسم نفسه، وقد عُرض الفيلم لأول مرة ضمن فعاليات مهرجان "كان" السينمائي الدولي في دورته الأخيرة.
لا يمكن لمن يشاهد الفيلم ألا يفكر بالشبه بين الماضي والحاضر، ولا أن يلوم من التقطوا التشابه بين سردية السكان الأصليين في أمريكا والسردية الفلسطينية في الإبادة الممنهجة.
مصائر المهمشين التي لا تتغير
الفيلم الذي يجسد تاريخ تأسيس أمريكا الملطخ بالدماء، يسلط الضوء على البشر المهمشين من سكان أمريكا الأصليين ممن عرفوا بالهنود الحمر من قبيلة الأوساج، ممن أبعدهم البيض عن أراضيهم الخصبة، وأعطوهم أراضي جافةً بدلاً عنها، ولكن لحسن حظهم أو لسوئه ظهر فيها النفط، مما جعلهم أثرياء جداً، فاقتنت نساؤهم المجوهرات وركبوا السيارات وراهنوا في سباق الخيل، كما تملكوا أعداداً كبيرة من قطعان الماشية، ففي محطة "فيرفاكس" كانت كل أسرة تملك بئر نفط، حيث نرى النفط بلون الدم يتراوح بين الأسود والأحمر كناية عن تزاوج الثروة والقتل في اللقطة البديعة للمصور رودريغو برييتو.
اعتبرت الحكومة الأمريكية شعب الأوساج غير مؤهلين للتحكم بثرواتهم، ووضعت لهم نظام الوصاية، فعيّنت وصياً لكل منهم على أمواله، كما عينت الشخصية الماكرة العم ويليام هيل الذي يلعب دوره "روبرت دي نيرو" كنائب عمدة لبلدة فيرفاكس في ولاية أوكلاهوما، والذي يمثل السلطة ويرعى شؤون الجميع سواءً أكانوا مهاجرين أو أصليين.
قبيل أشهر من حرب الإبادة على غزة تم إطلاق فيلم "قتلة زهرة القمر". لا يمكن لمن يُشاهد الفيلم ألا يلتقط التشابه بين سردية السكان الأصليين في أمريكا والسردية الفلسطينية في الإبادة الممنهجة
يظهر "خبث" شخصية العم هيل عندما يقدّم ابن أخيه إرنست بوركهارت والذي يلعب دوره ليوناردو دي كابريو لأثرياء قبيلة الأوساج، لنرى بعدها مصيراً دامياً لكل واحد وواحدة منهم، عن طريق تزويج الرجال البيض من نسائهم كي يرثوا أموالهن، لأن الأرض تورث ولا تباع.
كما يرسم حياة ابن أخيه بتزويجه من الحسناء مولي كايل التي تلعب دورها "ليلي غلادستون"، وهي الفنانة التي ظهرت طاقتها التمثيلية العالية، فنراها تزور الوصي على أملاكها وتناقشه في أسلوب صرف أموالها لتلبية احتياجاتها الطبية، ونرى حواره معها حول استهلاك والدتها لتلك الكمية من اللحم، فهم لم يكتفوا بالوصاية والسيطرة بل عمدوا إلى سرقة أموالهم لتمتد لسرقة ثقافتهم ووجودهم.
القتل الممنهج وتنويع الأساليب
يدبر العم هيل مقتل كل شخص من أسرة "كايل" بشكل متواتر، مستخدماً ابن أخيه، فتموت أخوات مولي الثلاث كل بطريقة، وكذلك والدتها "ليزي" التي ترى البومة ترفرف قريباً وهي دلالة في طقوسهم على اقتراب الموت.
يروي الفيلم كيف تقدس قبائل الأوساج طقوسها وعاداتها، مثل طرق احتفالهم بالمواليد الجدد، ويلقي الضوء على تقاليد هذه القبيلة وارتباط طقوسهم بزهرة القمر التي وجدت على مساحات شاسعة من أراضيهم، فعندما يكتمل القمر في شهر أيار/مايو وتنتشر الأزهار على التلال ينظر الأوساج إلى السماء، فيرونه بدراً يطلق عليه "زهرة القمر"، مما يعطي فكرة عن روح الجمال والطيبة التي تسكن هذا الشعب، وكأن الإله "واه-كون-تاه" نظر إلى الأرض ورش عليها الحلوى. من هذا التعبير كان عنوان الكتاب والفيلم معاً، فالفيلم مقتبس عن كتاب بذات الاسم لمؤلفه ديفيد غران، والذي قُتل أحد أجداده من السكان الأصليين في أحداث حقيقية شبيهة في مذبحة تلسا العرقية، أكبر مدن ولاية أوكلاهوما.
الصور باللونين الأسود والأبيض في الفيلم تبدو كلقطات توثيقية مؤرَّخة توحي بأن الحدث حقيقي وأنها ليست حكاية متخيلة.
شخصية إرنست غريبة بعض الشيء، فهو يصرح بعشقه للمال وللنساء، وإلى جانب ذلك يحب زوجته وأطفاله، ولكن هذا الحب لا يمنعه من أن يتآمر لقتلها وعائلتها وكأنه مستلب أو مغيب ولا يدرك ما يفعله، إلى أن يدينه مكتب التحقيقات الفيدارالي الذي قام بالتحقيق بجرائم القتل في نهاية الأمر وتم الإيقاع به وبعمّه نائب العمدة وحكم عليهما بحكم قاس تم تخفيفه عن العم لاحقاً. أما إرنست فقد ارتاح في سريرته لهذا الحكم الذي تم نتيجة اعترافه بالحقيقة، لأنه يشعر بتأنيب الضمير منذ موت ابنته الصغيرة، ولأنه يحب زوجته فعلاً.
دور الكاميرا كراوية
الصور الفوتوغرافية المتتابعة التي ترصدها الكاميرا لأشخاص قضوا بطرق مختلفة وكلهم من الأوساج قبل أن يدخل المُشاهد في قلب الحكاية، تؤكد أن سكورسيزي يبعدنا عن الإيهام بأن ما يحدث مجرد قصة، لأن الصور باللونين الأسود والأبيض تبدو كلقطات توثيقية مؤرَّخة توحي بأن الحدث حقيقي وأنها ليست حكاية متخيلة.
مارتن سكورسيزي في غالبية أعماله يظهر ذلك التناقض الكبير بين الشعارات الطنانة لحقوق الإنسان والواقع الفعلي والإجرامي للدول التي تترأس العالم وتحكمها التركيبة الاستعمارية، كما تنضح أعماله بانتقاد الثقافة الأمريكية السائدة والتاريخ والمجتمع الأمريكي، فيركز على ازدواجية البطل الدرامية، والتناقض الذي يجري في داخله.
فإرنست الذي تدفعه غواية الثراء وعشق النساء لتنفيذ مآرب عمه يستفيق على فقدان ابنته وزوجته التي يناولها السم بيده كل يوم مع دواء الأنسولين.
رؤية الآخر كهمجي تسهل قتله
يتحدث تزفيتان تودوروف في كتابه "فتح أمريكا ومسألة الآخر" عن الظلم وحرب الإبادة الجماعية التي لحقت بالسكان الأصليين عندما اكتشف كريستوفر كولومبس القارة الأمريكية، وكمفكر حيادي يرصد أحقية الإنسان بالحرية والعدالة، وأن الآخر يجب اكتشافه لا تدميره عبر رؤية الآخر المختلف في ثقافته وحضارته من خلال البحث الأخلاقي، فعندما لا يرى كولومبس في الهنود الحمر إلا همجاً أو حيوانات لا يستحقون الحياة، بالتالي سيبرر لنفسه وجماعته سائر جرائم الإبادة بحقهم.
الفيلم يسلط الضوء على البشر المهمشين من سكان أمريكا الأصليين ممن عُرفوا بالهنود الحمر من قبيلة الأوساج، الذين أبعدهم البيض عن أراضيهم الخصبة، وأعطوهم أراضي جافةً بدلاً عنها
في كل مفصل من تاريخ البشرية تترسخ القناعة بأنه لا يمكن بناء الحاضر ما لم يتم تفكيك الماضي والتاريخ وإعادة تقييمه بشكل كامل وفهمه ضمن منظومة الأخلاق المتوافقة مع حقوق الإنسان، وتترسخ أكثر ضرورة فضح الزمن الأسود للقتلة في إبادتهم للسكان الأصليين و"تعقيم" المكان من أهله وتاريخه، وليس بعيداً ذلك القتل الممنهج الذي حصل في الماضي بالذي تفعله إسرائيل على أرض فلسطين، وهذه غزة تشهد فصلاً جديداً من فصول المأساة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 18 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...