يُعدّ فن ما تحت الأرض (Underground arts) في إيران، ظاهرةً متجذرةً في الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية المحددة للبلاد، حيث تشكّل كاستجابة للقيود الشكلية، وقد وجد على مرّ العقود مكانةً خاصةً له بين أساليب التعبير المختلفة عن الاحتجاجات والإبداعات المبتكرة التي تعكس الواقع الاجتماعي في إيران، ويتنوع هذا الفن بين الموسيقى والرسم والأدب والسينما.
المصطلحات والتعابير، مثل الخط الأحمر والرقابة وغير المصرّح به والممنوع من النشر وما شابه ذلك، هي مصطلحات مألوفة لدى الفنانين/ات الإيرانيين/ات، إذ تخضع العديد من الأعمال في مجالات الموسيقى والكتب والمسرح والأفلام واللوحات وغيرها، للرقابة في إيران. بعض هذه الأعمال قد لا تتعارض بشكل مباشر مع الفكرة الثقافية والسياسية للحكومة، ولكن بما أن الفنان لم يكن موالياً أو متماشياً مع سياسات النظام في حياته الشخصية، فقد تُصنَّف أعماله على أنها فنّ غير مرخص وغير قابل للنشر.
وتتدخل في هذا الأمر، أجهزة مختلفة مرتبطة بالحكومة، مثل وزارة الإرشاد الإسلامي، وقوة الشرطة، والإعلام الحكومي، وأئمة الجمعة، وقوات الباسيج، ومقرّ الأمر بالمعروف؛ فلدى هذه الأجهزة كلها، السلطة الكاملة في وضع العوائق أمام الفنانين/ات. وكمثال واضح، يمكن ذكر الحفلات الموسيقية والمعارض والأعمال الفنية والأدبية التي حظرتها هذه الجهات برغم أخذها التصريحات اللازمة من قبل وزارة الإرشاد الإسلامي وسائر الأجهزة.
يُعدّ فن ما تحت الأرض (Underground arts)، في إيران، ظاهرةً متجذرةً في الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية المحددة للبلاد، حيث تشكّل كاستجابة للقيود الشكلية، وقد وجد على مرّ العقود مكانةً خاصةً له بين أساليب التعبير المختلفة
على هذا النحو، يمكن القول إن المسار الذي سلكه الفن الـ"تحت أرضي" في إيران، يختلف تماماً عن تاريخ هذا الفن في العالم، لأن سبب وجود هذا الفن في إيران يختلف جوهرياً عن سبب وجوده في الدول الغربية. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن منع العمل الفني لا يعني بالضرورة أنه ذو جودة عالية، إلا أنه لا ينبغي تجاهل تدفق الفن السرّي وأهميته على الذوق العام للمجتمع.
الجذور التاريخية لفنّ "الأندرغراوند" في إيران
يمكن إرجاع جذور فنّ ما تحت الأرض في إيران، إلى السنوات التي سبقت الثورة الإسلامية عام 1979، أي إلى العهد البهلوي. فعلى الرغم من أن الفضاء الثقافي كان أكثر انفتاحاً في تلك البرهة، قياساً بما بعد الثورة الإسلامية، إلا أن الفنانين ما كانوا يواجهون قيوداً، حيث تشكلت في الفترة نفسها تيارات احتجاجية في الموسيقى والأدب والفنون البصرية، كانت تُعدّ سرّيةً.
وبهذه الطريقة، يمكن القول إن تشكيل الفن الـ"تحت أرضي"، لا سيما الموسيقى، بدأ قبل الثورة الإسلامية في إيران، إذ قامت المجموعات الموسيقية مثل "الأصدقاء" (Friends)، وفرقة "الأعاجيب" (بالفارسية: اعجوبه ها)، وفرق أخرى، بأداء الموسيقى في أماكن مثل "German Club"، إلى جانب موسيقى البوب والموسيقى الشعبية في تلك الأيام. فطبيعة ما يمكن أن نسمّيه الفن الـ"تحت أرضي" ما قبل الثورة هو في الواقع مختلف تماماً عما يُعدّ فنّاً تحت الأرض في أيامنا هذه.
وربما يمكن اعتبار التدفق الفني السرّي قبل الثورة أكثر شبهاً بالفن غير الرسمي في الدول الغربية، إذ بعد الثورة الإسلامية ومع القوانين الثقافية الأكثر صرامةً، خاصةً في الثمانينيات، اتخذ الفن السرّي معنى أكثر جديةً. ودفعت الرقابة الشديدة على الموسيقى والأدب والسينما الفنانين/ ات إلى العمل خارج الأطر الرسمية، لا بل أجبرت بعضهم على إنتاج أعمالهم سرّاً أو نشرها خارج إيران.
موسيقى "الأندرغراوند"
الموسيقى الـ"تحت أرضية"، هي شكل من أشكال الموسيقى التي تتحرك ضد الاتجاه السائد للموسيقى في المجتمع، إذ ينتقد الفنانون في هذا المجال، السياسات الحاكمة والرأسمالية ومعايير سوق الموسيقى، حيث يعملون على نشر الأفكار المستقلة ووجهات النظر الفنية الفلسفية من خلال موسيقاهم، وهذا النوع من الموسيقى، على عكس موسيقى السوق الشعبية، لا يبذل الكثير من الجهد للترويج لنفسه ويركز أكثر على التجريبية والتفكير المستقل في الموسيقى.
لكن في إيران، تتشكل الموسيقى السرّية بشكل أساسي بسبب الرقابة والقيود الاجتماعية والثقافية، وكانت أعمار أعضاء فرق الموسيقى الـ"تحت أرضية" في إيران، خاصةً في أواخر التسعينيات وأوائل الألفينات، تتراوح بين 16 و25 عاماً، وكان السبب الوحيد لتحولهم إلى تسجيل وتشغيل الموسيقى تحت الأرض، هو عدم الحصول على التصاريح الرسمية. من هذا المنطلق، لم تكن الموسيقى الـ"تحت أرضية" في إيران، على عكسها في الغرب، بالضرورة احتجاجاً على الرأسمالية والثقافة السائدة في المجتمع، بل يمكن القول إن الفنانين في هذا المجال، على عكس نظرائهم الغربيين، لديهم رغبة كبيرة في الشهرة وكسب المال من خلال فنّهم.
وبرغم هذا، لا يمكن نكران أن هذه الموسيقى أصبحت أداةً للتعبير عن انتقادات واحتجاجات ومطالب جيل الشباب، وأصبحت ذات شعبية كبيرة بينهم، ومن بين نوعَي الموسيقى؛ الروك والراب، يمكن القول إن موسيقى الراب كانت أكثر قبولاً في إيران، لأنه لم تكن هناك منصة مناسبة لنمو موسيقى الروك في إيران، والبنية التقليدية للمجتمع لم تسمح للشباب بالتقدم في هذا المجال. أما أعمال الراب التي تناولت القضايا الاجتماعية والنقدية، فقد تم إنتاجها بشكل رئيسي خارج إطار وزارة الثقافة والإرشاد.
الفنون المرئية "الأندرغراوند"
الفنون المرئية الـ"تحت أرضية" في إيران، تُعدّ أحد الفروع الديناميكية للفن المعاصر في هذا البلد، ونظراً إلى الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية الخاصة، توقف العديد من فنانيها عن العمل رسمياً، وقدّموا أعمالهم بشكل غير رسمي أو تحت الأرض. وقد أدت أعمال العديد من الفنانين/ات في هذا المجال الفني، مثل الموسيقى تحت الأرض، إلى مسار مستقل واحتجاجي في بعض الأحيان بسبب عدم توافقها مع القيم الرسمية والعرفية للمجتمع أو عدم قبولها من قبل المؤسسات الحكومية، وغالباً ما تتعامل الأعمال المرئية "الأندرغراوند"، مع قضايا مثل حرية التعبير وحقوق المرأة والبيئة ونقد السياسات والتمييز الاجتماعي والثقافي والرقابة والقضايا الحالية للمجتمع الإيراني.
نظراً إلى القيود القانونية والثقافية، تُعرض هذه الأعمال عادةً في صالات عرض غير رسمية أو معارض منزلية أو استوديوهات خاصة أو حتى عبر الإنترنت، بحيث يجد بعض الفنانين/ات جمهورهم فقط من خلال مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، وغالباً ما يتأثر الفن السرّي في إيران بالأساليب الحديثة وأساليب ما بعد الحداثة، إذ تُعدّ الكتابة على الجدران والفن المفاهيمي وفن الفيديو وفن التركيب من بين التقنيات الشائعة في هذا المجال.
أحد أهم مظاهر الفن البصري السرّي في إيران، الكتابة على الجدران أو فن الشارع، في المدن الكبرى هناك، لا سيما في العاصمة طهران، حيث خلق فنانو الغرافيتي نوعاً من اللغة الفنية السرّية من خلال تصوير رسائل أو رموز احتجاجية على الجدران، وبسبب الاحتجاج والطبيعة العامة لهذا الفن، يواجه فنانو الغرافيتي مخاطر مثل الاعتقال والسجن والقيود الشديدة، ومع ذلك، أصبح هذا المجال أحد أبرز مظاهر الفن السرّي في إيران.
سينما "الأندرغراوند"
وجود قوانين صارمة في مجال إنتاج وعرض الأفلام وشرط الحصول على إذن من المؤسسات الرسمية، دفعا العديد من صانعي الأفلام، خاصةً المخرجين الشباب، إلى ممارسة أنشطة سرّية، ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن الحاجة إلى ميزانيات كبيرة لإنتاج وتوزيع الأفلام تجعل النشاط الـ"تحت أرضي"، أكثر صعوبةً بالنسبة لصانعي الأفلام مقارنةً بالفنانين الآخرين، إذ يمثل إنتاج الأفلام تحت الأرض تحدّياً بسبب نقص الاستثمار أو الدعم الرسمي، ويضطر صنّاع الأفلام إلى العمل بأقلّ قدر من الموارد.
وتتعامل السينما السرّية في إيران مع قضايا أقل ملاحظةً أو رقابةً في السينما الرسمية، مثل: حرية التعبير والحقوق الفردية والفقر والتمييز والعنف والمشكلات الجنسية والقضايا المتعلقة بالمرأة وانتقاد السياسات الحكومية.
يمكن القول إن المسار الذي سلكه الفن الـ"تحت أرضي" في إيران، يختلف تماماً عن تاريخ هذا الفن في العالم، لأن سبب وجود هذا الفن في إيران يختلف جوهرياً عن سبب وجوده في الدول الغربية
وبسبب القيود المالية والقانونية، تُنتَج هذه الأفلام عادةً بميزانيات محدودة ومعدّات بسيطة، وغالباً ما يستخدم صانعو الأفلام تحت الأرض مواقع حقيقيةً وكاميرات صغيرةً وأطقم إنتاج صغيرةً لإنجاز أعمالهم.
ونظراً إلى عدم إمكانية عرض هذه الأفلام في دور السينما الرسمية في إيران، فإن توزيع هذه الأعمال عادةً ما يتم من خلال مهرجانات دولية أو منصات عبر الإنترنت أو عروض خاصة لجمهور محدود، ومن بين المخرجين السينمائيين الذين صنعوا أفلاماً سرّاً في إيران، يمكن ذكر المخرج جعفر بناهي، والمخرج بهمن قبادي، والمخرج محمد رسولوف، الذين حققت أفلامهم نجاحاً كبيراً في السينما العالمية وبين الجمهور غير الإيراني.
الأدب "الأندرغراوند"
وفي مجال الأدب، الوضع هو نفسه، حيث لا يمكن نشر وطباعة العديد من الكتب إلا تحت الأرض، وهناك العديد من الشعراء والأدباء الذين، بسبب منع وزارة الإرشاد والثقافة الإسلامية إصدار ترخيص لكتبهم، يقومون بإعطائها لقرائهم بشكل غير مرخص وعلى شكل ملفات PDF، وحتى أن الكتّاب ومعظم الشعراء يطبعون أحياناً كتباً في طبعات صغيرة ويوزعونها في جمعيات أدبية صغيرة في مطابعهم الخاصة وبرؤوس أموالهم الخاصة، ويكاد يكون من المستحيل الحصول على كتب عدد من المؤلفين/ات المهمين/ات في تاريخ الأدب الإيراني من المكتبات.
وكتّاب مثل أحمد محمود، الذي يمكن القول إن أكثر من ثمانين في المئة من كتبه تم عدّها غير قانونية ولا يمكن العثور عليها إلا في شكل "أوفست"، وعلى رفوف الباعة المتجولين في أسواق الكتب، وغالباً ما تكون بأسعار باهظة، بحيث لا يستفيد المؤلف والناشر من عملية الشراء والبيع غير المصرّح بها، ولا يستفيد من هذا الحظر سوى مهرّبي الكتب.
وفي السنوات الأخيرة، بدأ عدد من الناشرين/ات الإيرانيين/ات بنشر الكتب الفارسية في الدول الأوروبية، وقاموا بنشر عدد من الكتب التي لا يمكن نشرها في إيران، ولكن حصول القرّاء الإيرانيين/ ات المقيمين/ ات في إيران على هذه الكتب محدود للغاية، ومن المفارقات أن هذه الكتب تصنَّف ضمن الكتب الـ"تحت أرضية" في إيران.
اليوم، لا يزال الفن الـ"تحت أرضي" في إيران، يواجه العديد من التحديات، بما في ذلك الرقابة والضغوط الاجتماعية والقيود المالية، والأهم من ذلك، خطر الاعتقال، وبرغم ذلك أصبح هذا الفن أداةً قويةً للاحتجاج وإيصال الرسائل الاجتماعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه