كتاب "أبناء نوت وأساطير أخرى: حكايات مصرية عتيقة"، والصادر عن دار "تكوين"، هو عمل أدبي للكاتب والمترجم المصري محمد جمال. يُعيد هذا الكتاب إحياء الأساطير المصرية القديمة، مقدماً إياها بأسلوب سردي معاصر يجذب القارئ الحديث. يستعرض جمال في هذا العمل مجموعة من الحكايات التي آمن بها المصريون القدماء، مسلّطاً الضوء على شخصيات الآلهة المصرية وعلاقاتها المعقدة، ما يتيح للقارئ فهماً أعمق للثقافة المصرية القديمة
"أبناء نوت"... صراع الخلق والفناء
في عالم "أبناء نوت"، الأسطورة ليست مجرّد حدث قديم، بل هي صدى يتردّد في كل لحظة من الوجود. فالكتاب يبدأ من نقطة الصفر، من حيث لم يكن هناك شيء سوى العدم، والظلام الذي يحيط بالإله "أتوم"، وكأنه تأمل أبدي في الوجود نفسه. ومن هنا، يبدأ الصراع: صراع ضد الوحدة، ضد الفراغ، وضد الرغبة العارمة في المعنى. محمد جمال يُعيد تشكيل هذه اللحظة وكأنها ليست فقط لحظة الخلق، بل لحظة الصراع الأول بين النظام والفوضى، بين الحياة والموت.
هذا الصراع الأزلي يشبه تلك الحروب الداخلية التي يعيشها البشر في أنفسهم. "أتوم" الذي قرّر أن يخلق من العدم، لم يفعل ذلك بدافع السيطرة أو القوة، بل كان مدفوعاً برغبة أكثر تعقيداً: الحاجة إلى إنهاء وحدته. إنها تلك الرغبة التي يختبرها كل كائن، الحاجة لأن يكون جزءاً من شيء أكبر، وفي نفس الوقت الهروب من تلك الوحدة الخانقة التي تجعلك ترى العالم من خلال عدسة مظلمة. "أتوم" يبكي، ومن دموعه تولد الحياة، لكن هذه الدموع ليست مظهراً من مظاهر الحزن فقط، بل هي تجسيد للتناقض: الحياة نفسها هي مزيج من الفرح والألم، من الخلق والدمار.
في عالم "أبناء نوت"، الأسطورة ليست مجرّد حدث قديم، بل هي صدى يتردّد في كل لحظة من الوجود
الآلهة والبشر: أبناء الألم والتناقض
في هذه النقطة، يبدأ جمال برسم ملامح علاقة معقدة بين الآلهة والبشر. البشر ليسوا فقط أبناء الخلق، بل أبناء الألم. وجودهم متأصّل في دموع الآلهة، تلك اللحظات التي تكون فيها الآلهة في أضعف حالاتها. الآلهة في الأسطورة المصرية ليست معصومة من الخطأ، وليست محصنة ضد مشاعر الفشل والإحباط. بل هي مثل البشر، عالقة في دائرة من الصراع الداخلي، تسعى لتحقيق النظام بينما تكون مهدّدة دائماً بالفوضى.
وهذا ما يجعل أسطورة "التمرّد الأول" من أكثر اللحظات إثارة في الكتاب. الآلهة، التي يفترض أنها تمثل القوة العليا، تجد نفسها متمرّدة على "أتوم"، ذلك الخالق الذي أوجدهم. كيف يمكن لآلهة أن تتمرّد على خالقها؟ أليس من المفترض أن يكون الخالق هو من يحكم كل شيء؟ لكن هنا، يعيد جمال تفكيك الصورة المثالية للسلطة، ليبرز كيف أن كل نظام، حتى الذي يُبنى من القوة المطلقة، يحتوي داخله على بذور التمرّد. التمرّد ليس مجرد رغبة في الحرية، بل هو محاولة للسيطرة، للتمسّك بالمعنى عندما يبدو أن كل شيء يتجه نحو الفوضى.
هذه الفكرة، التي تتجلّى في قصة تمرّد الآلهة، تعكس بشكل أو بآخر الصراعات التي يعيشها البشر في حياتهم اليومية. الصراع بين السلطة والحرية، بين النظام والفوضى، وبين الجيل القديم الذي يسعى للحفاظ على السيطرة والجيل الجديد الذي يتوق إلى تغيير كل شيء. جمال يستخدم الأسطورة كأداة لطرح أسئلة أبدية حول ماهية السلطة، وعن طبيعة القوة، وهل يمكن لأي نظام أن يستمر بدون أن يواجه لحظة من الانهيار؟
"دحوتي"، إله الحكمة، يظهر كشخصية محورية في هذا الكون المضطرب. ولكنه أيضاً ليس معصوماً من الخطأ، فالحكمة في هذا العالم ليست ضماناً للنجاة. المعرفة، التي من المفترض أن تكون نوراً يرشد الكون، تصبح في لحظات كثيرة عبئاً، تحمل في طياتها قوة قادرة على زعزعة النظام نفسه الذي يُفترض أن تحميه. هنا، يبدو أن الكاتب والمترجم جمال يحاول أن يطرح سؤالاً آخر: هل المعرفة دائماً مفيدة، أم أنها أحياناً تحمل في طياتها بذور الدمار؟ هذه الفكرة تتردّد في كل قصة من قصص الكتاب، حيث تتصارع الآلهة ليس فقط مع بعضها البعض، بل مع المعرفة ذاتها.
ثم نأتي إلى "ماعت"، إلهة العدالة والنظام. في الأساطير المصرية، "ماعت" تمثل التوازن الذي يحافظ على استقرار الكون. ولكن حتى "ماعت" تجد نفسها عاجزة عن إيقاف الانهيار. العدالة، التي من المفترض أن تكون قانوناً ثابتاً يحكم الكون، تتحول إلى شيء هش أمام الفوضى المتصاعدة. هنا، يُظهر المؤلف كيف أن النظام، حتى عندما يكون مدعوماً بالقوانين الإلهية، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. كل شيء في النهاية محكوم عليه بالتفكّك، وكل نظام يحتوي في داخله على قوة تدميره.
يبدو أن الفوضى ليست مجرّد تهديد، بل هي حقيقة ملموسة، تقترب أكثر فأكثر مع كل لحظة. العالم بأسره يبدو مهدّداً بالانهيار، ليس فقط بسبب الصراعات بين الآلهة، ولكن بسبب الطبيعة الذاتية للفوضى التي تسكن كل شيء
في وسط كل هذا، يبقى السؤال الكبير الذي يطرحه الكتاب: هل يمكن لأي شيء أن يستمر؟ أم أن الفوضى هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها؟ في "أبناء نوت" يبدو أن الفوضى ليست مجرّد تهديد، بل هي حقيقة ملموسة، تقترب أكثر فأكثر مع كل لحظة. العالم بأسره يبدو مهدّداً بالانهيار، ليس فقط بسبب الصراعات بين الآلهة، ولكن بسبب الطبيعة الذاتية للفوضى التي تسكن كل شيء.
وهنا تتضح النهاية التي ليست مشبعة بالتفاؤل، بل نهاية تترك القارئ في حالة من التأمل. الكون الذي بناه "أتوم" يقترب من نهايته، ليس كنتيجة للعقاب أو الخطيئة، بل كحتمية طبيعية لكل نظام. جمال يختار أن ينهي الكتاب بلمسة من التأمل في الفناء، وكأن النهاية ليست سوى عودة إلى البداية. مثلما بدأ الكون من الفوضى، فإنه يعود إليها مرة أخرى. وكأن كل شيء، بما في ذلك الآلهة، البشر، والقوانين، محكوم عليه بأن ينتهي في لحظة ما.
لكن حتى في هذه اللحظات، يبقى الجمال الذي يجسّده الكاتب في السرد. الفوضى ليست مجرّد دمار، بل هي أيضاً جزء من الدورة الطبيعية للكون. وكأن جمال يحاول أن يخبرنا أن الفناء ليس دائماً نهاية، بل هو بداية جديدة. الفوضى التي تهدّد الكون قد تكون في النهاية طريقاً إلى خلق جديد، إلى بداية جديدة، وربما إلى نظام آخر. لكنها في الوقت نفسه تتركنا مع السؤال: هل يمكن لأي شيء أن يبقى حقاً؟ أم أن كل ما نعرفه هو مجرد وهم مؤقت؟
"لغة الحكاية: الماضي بلغة الحاضر"
في كتاب "أبناء نوت" تبدو اللغة مزيجاً مميزاً بين الحكايات الأسطورية القديمة والروح المعاصرة. محمد جمال يستخدم لغة تتسم بالسلاسة والبساطة التي تجعل الحكايات القديمة تبدو قريبة ومرتبطة بواقعنا الحالي. فلا تجد في الكتاب تلك اللغة الكلاسيكية الثقيلة التي قد تجعل القارئ يشعر بالانفصال عن النص، بل هي لغة حية ومباشرة، تحمل بين طياتها روحاً معاصرة وسخرية لاذعة أحياناً.
يتميز الأسلوب هنا بالتوازن بين الوصف الدقيق والتأملات التي تدعو القارئ للتفكير، وبين السرد الذي ينبض بالحيوية والوضوح. يعتمد الكاتب على لغة مرنة تجعل الشخصيات الإلهية تبدو وكأنها شخصيات واقعية تعيش بيننا، بل وحتى تتصرف بشكل يشبه ما نراه في حياتنا اليومية. اللغة مليئة بروح الدعابة والسخرية التي تتسلل بشكل طبيعي إلى الحوارات والمواقف، ما يضفي على الكتاب طابعاً غير تقليدي، يجذب القارئ ويجعله يشعر بالانتماء إلى الحكاية.
هذه السخرية لا تقلل من عمق النص، بل تضيف إليه طبقات جديدة. عندما يتحدث جمال عن الآلهة التي تتصارع أو تمرّد الآلهة على "أتوم"، فإنه لا يفعل ذلك بلغة جافة أو متعالية، بل يستخدم روحاً خفيفة تجعل القارئ يبتسم في لحظات كثيرة. وكأن جمال يذكرنا بأن هذه الحكايات، رغم قدمها، ما زالت تعكس جزءاً من تجاربنا اليومية، سواء كان ذلك في الصراعات البشرية أو التمرد على النظام.
تنعكس روح المعاصرة في الكتاب أيضاً في الطريقة التي يتم بها إعادة سرد الأساطير، فيستخدم جمال لغة حديثة تجعل النص متاحاً لجيل اليوم، فالكتاب لا يبدو وكأنه إعادة تدوير للأساطير، بل هو إحياء لها بروح جديدة ومباشرة. اللغة خالية من التعقيدات، لكنها في الوقت نفسه تحتفظ بعمقها وتوجيهاتها الفلسفية. حتى عندما يتحدث الكاتب عن مفاهيم مثل الفوضى والنظام أو عن الآلهة والبشر، فإنه يفعل ذلك بأسلوب يجعل القارئ يشعر بأن هذه المواضيع ليست بعيدة عن حياته.
في المجمل، اللغة في "أبناء نوت" هي انعكاس لتلك الثنائية بين الماضي والحاضر، بين الأسطورة والواقع، وتنجح في جعل القارئ يشعر بأن هذه الحكايات الأسطورية ليست مجرد قصص قديمة، بل هي جزء من واقعنا المعاصر.
يمكننا ربط "أبناء نوت" بتجارب "نيل جايمان" في "آلهة أمريكية" و"أساطير نوردية" وكذلك كتاب "ميثوس" لستيفن فراي، لأن جميع هذه الأعمال تشترك في إعادة سرد الأساطير القديمة بأسلوب معاصر يجذب القارئ الحديث. سواء كان في إعادة صياغة قصص الآلهة النوردية أو اليونانية، فإن نيل جايمان وستيفن فراي يستخدمان لغة سهلة وقريبة من القارئ، ويغمرون النصوص بروح السخرية والعصرية التي تجعل الأساطير تبدو ذات صلة وثيقة بواقعنا الحالي.
في "أبناء نوت" يفعل محمد جمال نفس الشيء مع الأساطير المصرية القديمة، فهو يحيي تلك الأساطير بطريقة تجعلها تتحدث مباشرة لجيل اليوم، مستخدماً لغة حية وسلسة، ومزيجاً من الجدية والفكاهة. كما هو الحال في أعمال جايمان وفراي، نجد أن الشخصيات الإلهية في كتاب جمال ليست بعيدة أو خارقة فقط، بل تبدو بشرية وقريبة، تتعامل مع مشكلات وقلق شبيه بما يواجهه الناس في العصر الحديث.
"أبناء نوت" ليس مجرد كتاب عن الأساطير المصرية القديمة، بل هو تأمل في طبيعة الحياة نفسها. إنه استكشاف للفوضى والنظام، للحب والصراع، وللأسئلة التي تلاحقنا منذ بدء الخليقة
في "آلهة أمريكية"، ينسج نيل جايمان حكاية عن الآلهة القديمة التي تعيش بين البشر وتصارع من أجل البقاء في عالم حديث لا يؤمن بها. كذلك في "أبناء نوت"، نجد أن جمال يعيد صياغة الآلهة المصرية ليس ككيانات بعيدة عن البشر، بل كآلهة تعيش تناقضات وصراعات داخلية تجعلها أقرب لما يعانيه البشر. يتمرد الآلهة على "أتوم"، ما يعكس الصراعات بين الأجيال والتمرد على السلطة، وهو موضوع يظهر أيضاً في أعمال جايمان وفراي، حيث تتصارع الآلهة القديمة مع تحديات جديدة في العالم الحديث.
يتميز ستيفن فراي في "ميثوس" بروحه الخفيفة وسرده الساخر للقصص اليونانية القديمة، وهو ما نراه أيضاً في "أبناء نوت"، حيث تتخلّل السخرية والمواقف الساخرة الكثير من النصوص، ما يجعل القارئ ينخرط في السرد دون الشعور بثقل أو جمود الأسطورة. فراي يجعل الشخصيات الأسطورية تبدو نابضة بالحياة وقريبة من الناس العاديين، وهو ما يفعله جمال أيضاً في أسلوبه، عندما يخلق حواراً بين الآلهة والبشر يجعل العالم الأسطوري يبدو متماسكاً مع حياتنا المعاصرة.
إضافة إلى ذلك، نجد أن جمال، مثل جايمان وفراي، يحاول إعادة التفكير في معاني الفوضى والنظام، الخلق والدمار، في سياق حديث. في كل من هذه الأعمال، نجد أن الأساطير القديمة ليست فقط سرداً للتاريخ أو الحكايات التقليدية، بل هي أداة لفهم واقعنا الحالي من خلال مرآة الماضي. كما يحاول فراي تفسير الأساطير من خلال نظرة فلسفية معاصرة، يركز جمال على الصراعات الداخلية التي يعيشها الآلهة وكأنها انعكاس لما يعيشه البشر في الوقت الحالي.
باختصار، تشترك أعمال محمد جمال في "أبناء نوت" مع تجارب نيل جايمان وستيفن فراي، في إعادة إحياء الأساطير القديمة بأسلوب جديد يجعلها قريبة إلى واقعنا الحالي، من خلال استخدام لغة معاصرة وروح من السخرية والتفكير الفلسفي، ما يضفي على هذه الأساطير حياة جديدة ومعاني أكثر عمقاً تربطها بما نعيشه اليوم.
في النهاية، "أبناء نوت" ليس مجرد كتاب عن الأساطير المصرية القديمة، بل هو تأمل في طبيعة الحياة نفسها. إنه استكشاف للفوضى والنظام، للحب والصراع، وللأسئلة التي تلاحقنا منذ بدء الخليقة. جمال ينجح في خلق عالم مليء بالتفاصيل الدقيقة، ولكنه في نفس الوقت يتركنا مع أسئلة لا نهاية لها. "أبناء نوت" ليس كتاباً يقدم إجابات، بل هو دعوة للتفكير، للتساؤل، ولإعادة النظر في كل ما نعرفه عن الكون والوجود.
محمد أ. جمال، من مواليد 1992 في الإسكندرية، روائي ومترجم مصري. حصل على بكالوريوس الهندسة في تخصص الهندسة الكهربائية والقوى من جامعة الإسكندرية عام 2016. صدرت له عدة أعمال، أبرزها رواية "كتاب خيبة الأمل" التي حازت على جائزة أخبار الأدب الأولى عام 2017، ورواية "طيران"، كما قام بترجمة أعمال مهمة من الإنجليزية إلى العربية، مثل "البطل بألف وجه" لجوزيف كامبل و"إفطار الأبطال" لكورت فونيجت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه