شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الهوية والمكان... هل تحدّد الجغرافيا من نحن؟

الهوية والمكان... هل تحدّد الجغرافيا من نحن؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 6 ديسمبر 202411:55 ص

كنت أعيش في مدينة الإسكندرية عندما زرت أوروبا لأول مرة. في أثناء إقامتي بمدينة لوكسمبورغ، قمت بعمل رحلة عائلية ليوم واحد إلى بلجيكا، وضعت باسبوري وتأشيرة "الشنجن" في جيبي ليكون قريباً عندما أُسأل عنه، لأننا سنعبر حدود دولتين. على الطريق كانت الصدمة: الحدود ما هي إلا أطلال لبوابة تم استبدالها بخط فاصل، دهسته السيارة في جزء من الثانية.

بلح البحر البلجيكي VS  بلح البحر الإسكندراني

أكلنا البطاطس المحمّرة من أحد أكشاك الشارع كواحد من طقوس المدينة، اشترينا الشوكولاتة البلجيكية المميزة، ثم اختتمنا جولتنا بوجبة بلح البحر التي تقدم في غالبية المطاعم هناك، بأكثر من خمسين نوع من الصلصات. كانت وجبة بنكهة مميزة حُفرت في قلبي قبل معدتي.
طالما أكلت وجبة بلح البحر من محل أسماك في منطقة المرسي أبو العباس بالإسكندرية، أطلبه كطبق جانبي مهما تغيّرت وجبتي. يطبخونه بنوع صلصة واحد، لا يضم الكثير من الإضافات. ربما فقط البصل والطماطم وبعض أوراق خضراء. حاولت إعداده في مطبخي بنفس المقادير ولم يضبط: "ناقصه حاجة".
توقفت عن المحاولة بعدما أدركت أن ما ينقصه سيظل السرّ الذي يجعلني أداوم على زيارة مطعمي الأفضل. الخلطة التي تتكوّن من تاريخ مسجد أبو العباس، ورائحة البحر، وبعض من رزق العاملين بالمكان، والكثير من الذكريات التي تشكّل هويتي وتعيدني إلى الإسكندرية مهما تكرّر سفري إلى الخارج.

في مسابقة كأس العالم لكرة القدم، وجدتني متحمّسة لتشجيع الفريق البلجيكي، صرخت عندما سجّلت الكاميرات مشجعين بلجيكين حاملين مجسّمات البطاطس المحمّرة. لماذا تلمسني هذه المشاهد وأنا عربية مقيمة في مصر، ولا أحمل أي جنسيات أو إقامات أخرى؟

هل يعقل أن نعتبر أصابع البطاطس المحمرة وجبة مميزة أصلاً لأي بلد أو أي شخص؟ ربما الإجابة المنطقية "لا"، لكن عند تشكيل الهوية لا نلجأ إلى تحليلات المنطق.

هل يُعقل أن نعتبر أصابع البطاطس المحمّرة وجبة مميزة أصلاً لأي بلد أو أي شخص؟ ربما الإجابة المنطقية "لا"، لكن عند تشكيل الهوية لا نلجأ إلى تحليلات المنطق

طقوس الغُربة VS تعاليم الأم

تشبّعت أختي المهاجرة بطقوس الأكل في ألمانيا، حيث تعيش، منذ حوالي 15 سنة. الثقافة الألمانية لا تعطي اهتماماً كبيراً للطبخ، منشغلة بالعمل والطعام في شكله الخام. تقول سارة: "لا نأكل المكرونة ليلاً"، وتردّد دائماً: "نوت هيلثي"، ويأتي طبق الكشري على قائمة رغباتها فور وصولها إلى القاهرة مها كان الوقت متأخراً. تهتم بشراء اللحم الضأن وطبخ الفتة في عيد الأضحى، ورغم هذا لا تشعر بقدوم العيد إلا في بيتنا القديم بالقاهرة، وبصُحبتنا. هنا بالضبط تتجسّد فكرة الهوية. ليست في اسم أو شكل الطبخة، لكن في كل ما تحمله الوصفة من روحنا وتاريخنا ورائحة أمهاتنا وبيوتنا الأولى وعشرة من نحب.
ربما تصبح فكرة المطبخ المتخصّص في ظل هذه اللحظة شديدة الانفتاح التي نعيشها، فكرة بائدة، أسرار أي وصفة في خيالك تصبح بين يديك في ثوانٍ، وهذا لا يعني بالضرورة أن تفقدها هويّتها الأصلية أو تؤثر على هويّتك الشخصية.

"من دمشق هنا القاهرة" VS "عنا في القاهرة"

مؤخراً، تعرضت فتاة لانتقادات شديدة من مصريين بسبب لكنتها الشامية التي قدّمت بها مراجعتها لمطعم قاهري، في فيديو نشرته مستخدمة لفظ "عنا في القاهرة". وضّح مدافعون، أن البنت أصلها مصري لكنها عاشت فترات بالأردن هي السبب في تغير لهجتها. أثار هذا الجدل تساؤلاتي حول هويّة الأشخاص وعلاقتها بالمكان الذي نشأوا فيه. كيف لنا أن نُعرِّف الهويّة؟
في ظني، الهوية لا يمكن تعريفها بدقة، لأنها ليست قالباً جامداً، بل هي مزيج معقد من عوامل عدة، مثل الجغرافيا والثقافة والتجارب الشخصية والعائلة واللغة. الهوية هي رحلة تستمر في النمو والتطور طوال حياتنا، وبالتالي فإن مفهوم الانتماء لا يمكن أن يقتصر على المكان الجغرافي.

تلك الأصوات المصرية الرافضة أن يتحدّث مغترب بصيغة الملكية عن أرضهم، هي ذاتها التي هللت وتباهت، ولا تزال، بمشهد مذيع الراديو السوريّ، الذي بدأ البث بجملة "من دمشق هنا القاهرة"، بعد العدوان الثلاثي على مصر والذي توقفت إثره الإذاعة المصرية عن البث عام 1956، فهل مبدأ العروبة والقومية العربية يتغير بتغير مكانك في المعادلة؟

ننتمي مرّات عدّة لأماكن وأشياء وأشخاص، نضيف كلمات ومعاني جديدة لقاموس هوياتنا، ربما نتوه ونتخبّط ونشعر بالاغتراب، ثم نعود ونجدّد ميلاد ذواتنا في لحظة دفء، نشمّ فيها رائحة خبز تشبه فرن بيتنا القديم

الهوية المتعدّدة VS  الاغتراب الداخلي

تقيم صديقتي الأردنية/الفلسطينية في مصر منذ سنوات بحكم زواجها من مصري، أعتبرها من أشطر المندمجين وأعذب المتسامحين. كنا في أحد مقاهي مصر الجديدة عندما سألت "تالا" النادل بلكنتها الشامية الأصلية عن "منفضة". لم يفهم طلبها وارتبك، نظر إليّ ولم أسعفه، حتى أشارت إلى مطفئة سجائر. نطلق، نحن المصريين، اسم "المنفضة" على أداة الريش اليدوية لتنظيف الأتربة.

أعتبر هذا المشهد تجسيداً آخر لمعنى الهوية، وربما تعريفاً مبسطاً لفكرة الهوية المتعدّدة، اندماجاً دون قصد واضح أو ترتيب مسبق مع ثقافات مختلفة، تُغني معرفتنا وتفتح لنا آفاقاً جديدة، وتجعلنا أكثر تفهماً وقبولاً.

وعلى الجانب الآخر، قد يشعر أحدنا بفقدانه هويته دون أن يغادر المكان الذي نشأ فيه. ضغوط مثل تأثيرات ثقافية خارجية أو تحولات اقتصادية نُجبر أن نتكيف معها، قد تفقدنا الإتصال مع جوهرنا فنعيش أحاسيس الغربة ونحن لم نتحرّك من موطننا.
في ظل الظرف القاسي الراهن الذي يحيط بمنطقتنا العربية، يلاحقنا شعور الاغتراب ونحن متسمّرين في الكنبة نتابع شريط الأخبار. شخصياً أعاني من كوابيس في النوم والصحو، تطاردني صور تعصر قلبي وتعطلني عن أداء أبسط المهام في يومي. الدم والخراب والظلم الحاصل بالتوازي مع خرس العالم ألا يشعرنا بالغربة؟ ألا يُفقدنا أجزاء من هويتنا؟ ألا يدعونا ذلك كله بنظرة أوسع إلى أن نربط مفاهيمنا عن الانتماء والهوية بالتسامح والتقبل؟
ربما ننتمي مرّات عدّة لأماكن وأشياء وأشخاص، نضيف كلمات ومعاني جديدة لقاموس هوياتنا، ربما نتوه ونتخبط ونشعر بالاغتراب، ثم نعود ونجدّد ميلاد ذواتنا في لحظة دفء نشم فيها رائحة خبز تشبه فرن بيتنا القديم، أو لحظة تخرج فيها كلمة من ثقافتنا الأصلية دون وعي كامل منا، كالمنفضة تزيل تراب الغربة عن أرواحنا.
الكاتبة والمعلمة رضوى عاشور ترشدنا إلى ذات المعنى بمقولتها: "البشر راشدون مهما ارتبكوا أو اضطربوا أو تعثرت خطواتهم، والنهايات ليست نهايات، لأنها تتشابك ببدايات جديدة، والعاقل لا غُربة له ولا وَحْشَة، فهو لا يتغرّب إلا ومعه ما يكتفي به من علمه ومروءته".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image