شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
وعاء الملح والفلفل هما الملك والملكة…

وعاء الملح والفلفل هما الملك والملكة… "شكسبير على الطاولة" في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الثلاثاء 10 ديسمبر 202410:09 ص

لا تتوقف الأعمال الفنية التجريبية، المسرحية والسينمائية والفيديوية وغيرها، عن الاشتغال على تراثيات وليم شكسبير، خصوصاً مسرحياته العابرة للأمكنة والأزمنة التي اقتربت من الأربعين، وإعادة إنتاجها في أثواب جديدة ورؤى مغايرة.

ويأتي ذلك من خلال معالجات مبتكرة، وصياغات مدهشة، يمكن أن تنسحب على قضايا العصر وأزماته الملحّة، واضطرابات العالم المعيش وحروبه المشتعلة، وصراعاته الطاحنة، وقسوته الماثلة في الجبهات المختلفة.

شكسبير

شكسبير (1564-1616)، الشاعر والكاتب المسرحي البارز، هو الأكثر حضوراً في الأدب الإنكليزي بشكل خاص، وفي الأدب العالمي بصفة عامة، من خلال ترجماته وأعماله المعاد تدويرها بكل اللغات الحية. وتمثّل تراجيدياته، لاسيما "هاملت"، و"عطيل"، و"الملك لير"، و"ماكبث"، التي كتبها بين عامي 1601 و1608، الأعمال الأكثر حضوراً وتداولاً، إلى جانب مسرحيات أخرى خلال هذه الفترة أيضاً، مثل "أنطونيو وكليوباترا"، و"كوريولانوس".

وتحتفظ تراجيديات شكسبير عادة بسمت خاص في بنائها الدرامي المتنامي، لا ينفصل عن مفاهيم أرسطو المتجذرة، المتعلقة بوجود أبطال أقوياء أو خارقين، قادرين على الفعل الحر بإرادة كاملة، ولكنهم لا يخلون من العلل وارتكاب الأخطاء المأساوية، التي تقودهم إلى نهايات حتمية و مصائر ربما تكون مؤلمة.

وجوه متنوعة

لا تقدّم المعالجات الفنية الراهنة وجه شكسبير الاعتيادي، ولا تتعامل مع مسرحياته في سياقها الطبيعي، وإنما تنسج سردياتها التخييلية بمعطيات اللحظة الآنية، تحت مظلة الخلفيات الشكسبيرية والشخصيات الأيقونية الحية في مسرحياته، التي تبدو كشخصيات تاريخية حقيقية من فرط مصداقيتها وذيوعها، ولكن تجري خلخلتها في الصياغات الحديثة.

تحتفظ تراجيديات شكسبير عادة بسمت خاص في بنائها الدرامي المتنامي، لا ينفصل عن مفاهيم أرسطو المتجذرة، المتعلقة بوجود أبطال أقوياء أو خارقين، قادرين على الفعل الحرّ بإرادة كاملة 

من ذلك، مثلاً، في المسرح المصري المعاصر، مسرحية "الملك لير"، التي تستعد فرقة "المسرح القومي المصري" التابع للبيت الفني للمسرح لتقديمها خلال الأسابيع المقبلة في القاهرة، بإخراج شادي سرور وبطولة الفنان يحيى الفخراني، في طرح مختلف عما قدمه المسرح نفسه عام 2001 بسيناريو المؤلفة فاطمة موسى، وإخراج أحمد عبد الحليم.

عرض "شكسبير على الطاولة"

وليس غريباً أيضاً في هذا المضمار أن يتحدث شكسبير بالعامية المصرية، بل باللهجة الصعيدية (اللغة المحلية في جنوب مصر)، في دراما "السيرة الهلامية" التي شهدها المسرح المصري مؤخراً، على خشبة "الطليعة"، أحد مسارح الدولة، من تأليف الحسن محمد، وإخراج محمد الصغير. وفي هذا العرض الجريء، يتماهى "هاملت" مع شخصيات مصرية وعربية، فقد يصير بطلاً لتغريبة بني هلال، كما قد يحل "أبو زيد الهلالي" محل المُنتقِم في مسرحية شكسبير الخالدة.

ويرتدي العرض بالكامل إهاباً مصريّاً صعيديّاً معاصراً، من حيث المكان والزمان واللغة، وخلط الأحداث بالسيرة الهلالية القادمة من الثقافة الشعبية والمرويات القبائلية العربية. و"هاملت" الشكسبيري، الذي يشكّل رمزاً للازدواجية والصراع النفسي والمونولوغ الذاتي المفتوح على تناقضاته وانقساماته الداخلية، يتحوّل في العرض المصري إلى شخصين متصارعين، مفسحاً مجالاً أوسع لتفجير الصراع الذاتي في أعماقه الداخلية.

التمرد والتجدد

هكذا، يقترن اسم وليم شكسبير في التمظهرات الإبداعية الحالية بحضور متجدد متمرد، ومغامرات جنونية بالغة الطموح. وإلى تلك الظاهرة، ينتمي عرض "شكسبير على الطاولة"، الذي جرى تقديمه منذ تشرين الثاني/نوفمبر في ممر كوداك التاريخي بقلب العاصمة المصرية، ضمن فعاليات مهرجان وسط البلد الدولي للفنون المعاصرة "دي-كاف" (خريف 2024).

ممثلة في عرض "شكسبير على الطاولة"

العرض، في الأساس، توليفة مسرحية من إخراج البريطاني تيم إيتشل، وإنتاج مجموعة "فورسد إنترتينمنت" (تسلية إجبارية) البريطانية. وبعد تقديمه في المسارح الأوروبية، جرى تصويره ليعاد طرحه في المهرجان القاهري في هيئة فيديو مسرحي مصحوب بالترجمة إلى اللغة العربية. ويتضمن العرض مجموعة من مسرحيات شكسبير، جرى دمجها معاً كشذرات بصرية في شريط واحد متشابك، تشترك فيه حوارات الشخصيات الإنسانية والأشياء المادية الصغيرة وأدوات المائدة التي يتناقلها الممثلون (الرواة) بين أيديهم في المطبخ الكوني التعبيري الدال.

تأثيرات درامية

كعادة الأعمال الفنية التي تقدمها "فورسد إنترتينمنت"، فإن "شكسبير على الطاولة" يراهن في المقام الأول على التأثير الدرامي الطاغي، وذلك من خلال رهافة الالتقاط والتصوير، واستثمار التفاصيل النابضة، الفائقة الحساسية، في مسرحيات شكسبير، مثل "هاملت"، و"حلم ليلة منتصف الصيف"، و"هنري الخامس"، و"ماكبث"، و"ريتشارد الثاني"، و"ريتشارد الثالث"، و"روميو وجوليت"، و"الليلة الثانية عشرة"، وغيرها.

ممثل في عرض "شكسبير على الطاولة"

وقد تأسست "فورسد إنترتينمنت" عام 1984 في مدينة شيفيلد البريطانية، وهي مؤسسة متخصصة في مجال المسرح، تقدم أعمالاً رائدة وتجريبية متميزة في جولات واسعة النطاق تشمل المملكة المتحدة وأوروبا وأرجاء العالم المختلفة. ويعزى لمجموعة فناني هذه المؤسسة إنتاج أعمال تقوم على الاكتشاف وقلب موازين الأعراف السائدة، الخاصة بالنوع الفني، والسرد، والمسرح ككل، إضافة إلى الانزياحات الفارقة في الفنون الجسدية والأدائية عموماً، والثقافة الموسيقية، والثيمات الفنية الشعبية.

ولهذه الأسباب، ينحاز مهرجان وسط البلد الدولي للفنون المعاصرة "دي-كاف" لعرض "شكسبير على الطاولة"، على حد تصريح الفنان المصري أحمد العطار مدير المهرجان لـ"رصيف 22". ويوضح العطار أن العرض لا يأتي فقط للاحتفاء بالكاتب الإنجليزي الفذ، وإنما يترجم الفعل الإنساني الزاخم الحيّ في مواجهة الظلام والرجعية، ويعكس وعداً بقدوم المستقبل المشرق مهما طال انتظاره. وتلك سمة المهرجان في عمومه، الذي لا يتوقف عند مشاركة الآلام والأحزان، وإنما يتطلع إلى نشر روح الأمل من خلال هذه العروض الدينامية.

الأشياء الناطقة

يستنطق عرض "شكسبير على الطاولة"، في فضائه المنفلت، أدوات المطبخ والأشياء المادية بوصفها شخوصاً بحد ذاتها، بين أيدي الشخصيات المسرحية التي تكتفي برواية الأحداث والتعليق عليها وتحريك هذه الأشياء والمتعلقات كدمى بشرية مرنة في مسرح ماريونيت متفوق.

جانب من عرض "شكسبير على الطاولة"

يتنقل الرواة، الذكور والإناث بالتناوب، بين مسرحيات شكسبير، مستكشفين مكامن القوة والضعف في الذات الإنسانية الهشة، عبر الحكي السلس الذي يقدّم تلخيصاً مبسطاً وخاصّاً لأعمال شكسبير التراجيدية والتاريخية، وبعض أعماله الكوميدية، إلى جانب إنتاجاته الأخيرة التي خلقت عالماً زاهيـاً وغرائبيّاً في الآن ذاته.

مثلما يتحرر العرض المسرحي الشكسبيري من ظرفيته الشخوصية والحدثية، بتجاوزه القاموس الشكسبيري بشأن الشخصيات الفنية والوقائع التاريخية والعسكرية والسياسية الثابتة، فإنه يتحرر أيضاً من مكانيته وزمانيته

هكذا، يعبّر وعاء الملح ووعاء الفلفل عن الملك والملكة، وتحيل المسطرة إلى الأمير، والملعقة إلى الخادم، وتشير وسائل أخرى أخف إلى صاحب الحانة، وترمز زجاجة الماء إلى الرسول. الشخصيات والوقائع المسرحية الشكسبيرية تتحول إلى سلسلة من المنمنمات العادية الدقيقة، المصنوعة بحميمية وعشق، التي يلعب بها الممثلون على الطاولة التي لا تتجاوز متراً واحداً. ويقترن الشغف الإبداعي بهذه الأداءات الجسدية والإشارية الموصوفة والمحكيّة والافتراضية، عبر مشاهد مسرحية غير عادية، وصور سردية تستخدم اللغة على نحو غير تقليدي.

جانب من عرض "شكسبير على الطاولة"

أي خيال جامح يهدف إلى أن يتعاطف المتلقي مع علبة ملح أو زجاجة من صلصة التاباسكو؟! هذا ما يطمح إليه صنّاع العمل، إذ ينخرط المؤدّون في سرد حكايات مسرحيات شكسبير، واحدة تلو الأخرى، وهم جالسون أمام الطاولة، يحرّكون هذه الأشياء اليومية، ما بين كؤوس وألوان وملاعق وأقلام وعلب وزجاجات وعبوات ممتلئة وفارغة. ويأتي الفعل السردي ليمنح هذه الدمى معناها الجوهري والكامن والمؤجل، ودلالاتها الرمزية، وطاقتها السحرية النافذة، لتتحول أعمال شكسبير إلى حكايا شعبية أو قصص مقرّبة من الاستيعاب، من دون أن تفتقد عناصر الحبكة الأساسية.

استحضار الواقع

ومثلما يتحرر العرض المسرحي الشكسبيري من ظرفيته الشخوصية والحدثية، بتجاوزه القاموس الشكسبيري بشأن الشخصيات الفنية والوقائع التاريخية والعسكرية والسياسية الثابتة، فإنه يتحرر أيضاً من مكانيته وزمانيته.

جانب من عرض "شكسبير على الطاولة"

ومن ثم، يصير العرض الجديد "شكسبير على الطاولة"، بأقل تجهيزات سينوغرافية، استحضاراً ساخراً ماكراً للواقع الحالي والعالم المعاصر على هذه الطاولة القريبة نفسها، بكل ما تعج به اللحظة الآنية من معارك ضارية ونزاعات متأججة وصراعات دامية واشتباكات لا تبدو لها نهاية.

إنها الرغبة في تفكيك الوجود، وإعادة تجميعه من جديد على نحو مخالف للمألوف. إنه هاجس الدمار الشامل، الذي يحوّله الفن الرفيع إلى ألعاب ارتجالية وعبثية تبدو سهلة ومنطقية، ويشترك فيها الممثلون والجمهور معاً عبر تفاعل ثنائي خلاق.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image