تصوير الأماكن وجعلها مسرحاً لتحريك الأحداث واحدة من علامات أدب نجيب محفوظ، وعبر رواية "قشتمر"، يأتي حي العباسية ومقهى "قشتمر" ليشهد رحلة حياة الأصدقاء الخمسة أبناء العباسية، الذين كان اثنان منهم من العباسية الشرقية حيث سكن الأثرياءُ في السرايات، واثنان من العباسية الغربية حيث سكن الفقراءُ في منازلَ متواضعة، والخامس الذي هو الراوي، من العباسية الغربية أيضاً.
رصد محفوظ من خلال هذه الرواية 70 عاماً من عمر حي العباسية، من خلال سردٍ لرحلة الأصدقاء الخمسة في طبقاتهم الاجتماعية، وتطورهم الذهني والفكري من الطفولة إلى المراهقة للشباب وحتى الشيخوخة، واستطاع من خلال رحلتهم معاً رصد التغيرات التي طرأت على حي العباسية من خلال رصد الفترة الزمنية من الحرب العالمية الأولى حتى عصر السادات، كما رصد التأثيراتِ السياسية على آراء الأصدقاء وحياتهم.
العباسية بين أزيز الترام الأبيض وصوت عازف الرباب المتسول
يصف محفوظ عبر رواية "قشتمر" العباسية في شبابها، فهي واحة في قلب صحراء مترامية، في شرقيها تقف السرايات وفي غربيها تتجاور البيوت الصغيرة المزهوة بحدائقها الخلفية. العباسية في ذلك الزمن كانت محاطة بأشجار النخيل والحناء وغابات التين الشوكي، تعيش بهدوء وسكينة يقطعها فقط أزيز الترام الأبيض في مسيرته ما بين مصر الجديدة والعتبة الخضراء، وصوت عازف الرباب المتسول الذي يطوف بشوارعها بجلباب حافياً وهو يشدو قائلاً: "آمنت لك يا دهر ورجعت خنتني".
رصد محفوظ من خلال رواية "قتشمر" 70 عاماً من عمر حي العباسية، من خلال سردٍ لرحلة الأصدقاء الخمسة في طبقاتهم الاجتماعية، وتطورهم الذهني والفكري من الطفولة إلى المراهقة للشباب وحتى الشيخوخة
يشهد على ميلاد حي العباسية خمسة من الأصدقاء الذين ولدوا عام 1910 في أشهر مختلفة ولم يبارحوا حيهم. تتغير مصائر شخصيات الرواية الخمس، ولكن تظل العباسية هي الحي الذي يجمعهم و"قشتمر" المقهى الذي يشهد على البسمات والدموع والخفقات التي لا حصر لها. يقع بيت صادق صفوان بين الجنائن، وبيت إسماعيل قدري سليمان في شارع "حسن عيد"، وسراي حمادة يسري الحلواني بميدان المستشفى، وفيلا طاهر عبيد الأرملاوي بين السرايات.
أول درس عملي في الوطنية
كان الأصدقاء الخمسة هم أصغر الأجيال سناً في أعقاب ما عرف عن نفي الزعماء. هم تلاميذ في السنة الأولى، ففي عام 1918 كانوا قد تقدموا لامتحان القبول في مدرسة الحسينية الابتدائية بعد أن ختموا الدراسة الأولية وبلغوا التاسعة من العمر، وفي المدرسة تلقى هؤلاء الطلبة أول درس عملي في الوطنية، حيث هدر الفناء بالخطب الحماسية وتدفق التلاميذ إلى الخارج في مظاهرة عاصفة، والتقى الآباء والأبناء في عاطفة واحدة متأججة، فالأمهات يصغين وينفعلن، وأنباء المظاهرات يحملها إلى بيوتهم هواءُ ديسمبر البارد.
يصور نجيب محفوظ تتابع مشاهد الثورة قائلاً: "مصارع الشهداء تُروى كالأساطير. دوريات الإنجليز تخترق شارعنا محمولة في اللوريات، مدججة بالسلاح. الهتافات تترامى إلينا من الحسينية جنوباً ومن الوايلية شمالاً. سعد يحيا سعد، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وتذاع الأخبار في منازلنا: -قطعت المواصلات.
المظاهرات في كل مكان... الفلاحون يحاربون"
لم تكن الثورة العرابية في "قشتمر" مجرد حدث سمعه الصغار وإنما حدث عظيم حدث واقترب من حيهم، حيث اعتقل يسري باشا الحلواني، فصار حمادة ابن البطل، وعرف الصغار سعد كمثال للقوة والنضال والذكاء والنزاهة بفضل أولئك المدرسين في الفصل، حيث تطوع كل مدرس لتلقينهم درساً في التربية الوطنية. وعن ذلك يقول محفوظ في رواية "قشتمر": "ثملنا بما سمعنا وانبثّت فينا روح الوطنية التي لم تنتزع من قلوبنا حتى اليوم. وذاق البلد أول طعم للنصر بالإفراج عن الزعماء المنفيين".
مقهى قشتمر زواج لا انفصام له
عرف الأصدقاء الخمسة "قشتمر" في أواخر 1923 أو أوائل 1924، وفي ذلك الوقت التحقوا بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، ليمضوا بها خمسة أعوام. يصف محفوظ "قشتمر"، المقهى الصغير الذي يقع عند التقاء الظاهر بشارع فاروق قائلاً: "في سرية تامة تلمَّسنا طريقنا إلى الظاهر، تسُوقنا روح المغامرة، ويعتمل في ضمائرنا إحساس بالذنب، وطالعنا قشتمر بلونه الأخضر الزاهي، وحجمه المحدود الذي لا يزيد عن حجم بهوٍ بسراي الزين باشا -كما قال صادق- ومراياه المُثبتة في الجدران، وحديقته الصغيرة الموصولة به بباب صغير مفتوح، تنطلق بأركانها نخلات أربع، ويقوم في الوسط عدد من الموائد في صورة مُربع متساوي الأضلاع".
موت الزعيم سعد زغلول
تصور الرواية تأثير وفاة سعد زغلول على الأصدقاء الخمسة، فقد إشتعلت جوانحهم بنار الحزن والحسرات، وذهبوا إلى ميدان "الأوبرا"، وانحشروا في الجموع الحزينة الواجمة التي تنتظر، وعندما لاح النعش فوق المدفع ارتفعت صرخات الأسى إلى سماء أغسطس الصافية التي تقطر حرارة ورطوبة، وجرفهم التيار وراء الجنازة إلى شارع محمد علي، وهناك اختلطت الهتافات بأصوات المُطلَّات من النوافذ والشرفات، ورجعوا إلى العباسية صامتِين بلا سعد.
انهمرت على ركن "قشتمر" الأخبار المُثيرة: مصرع أحمد ماهر، حرب فلسطين، مصرع النقراشي، الحرب بين إبراهيم عبد الهادي وبين الإخوان، عودة الوفد، حريق القاهرة. بلغ الأصدقاء سن الأربعين، فبلغ صادق قمة ثرائه، وحمادة الحلواني أدرك الغاية في معالجة الفراغ بالإفراط في الطعام والشراب والمخدر حتى فاق طاهر في وزنه، وبلغ طاهر منزلة فريدة في عالم القلم، أما إسماعيل فقد حصل على الليسانس، فاستقال من عمله في دار الكتب وعمل في مكتب محامٍ وفديٍّ، غير أن أهم الأحداث العائلية جرت في الحريم أو من خلال الأولاد.
حديث الحركة المباركة
يصور محفوظ الأحداث السياسية وهى تسقط على أسماع الأصدقاء، لتعكس شعورهم، فهم عندما عرفوا بإلغاء المعاهدة تنسموا ذروة النصر، وعند حريق القاهرة سقطوا إلى الحضيض، وتعاقبت الأحداث وهُم فى حالٍ كئيبة من المرارة والسخرية. ثم هلَّ عليهم يوم 23 تموز/يوليو كالسحر المُبين، فشملتهم صحوة طاغية، وتتابعت الحوادث كالأحلام، فرحل الملك والإقطاع والألقاب، وبرز الفقراء والضائعون من القاع، فتربعوا على العرش، ولم يعُد لهم من حديثٍ في رُكنهم العتيد بقشتمر إلا حديث الحركة المباركة.
ومن بين أفراد مجموعتهم بزغ طاهر عبيد وانطلق في طريق النجاح، ودُعي إلى المشاركة في تحرير مجلة "الثورة". لماذا؟ لأن شِعره الشعبي القديم بشَّر بالثورة قبل أن تُوجَد، وزكَّاه أيضاً أنه عُرف ببُعده عن الأحزاب، ليكرَّس شِعره للثورة، فما من إنجازٍ أو نصر أو موقف نبض به قلب الثورة إلا وأعطاه المُعادل الشعري.
العباسية القديمة… هل بقيَ منها أثر؟
صور محفوظ التغيرات النفسية للأصدقاء الخمسة، كما صور التغير الجغرافي الذي جرى للعباسية مع تعاقب الأحداث السياسية؛ فقد شُقَّ شارع طويل عريض بين شارع العباسية وشارع الملكة نازلي، واخترق الحقل القديم الذي كان الأصدقاء يتمتعون فيه بجمال الريف بالإضافة إلى حضارة المدينة، وسكت نَعير الساقية، واختفت الخُضرة المُنعشة وحلت محلها على جانبَي الطريق الجديد خرابات قاحلة، وبيعت جملة من سرايات العباسية الشرقية المطلة على الشارع العمومي، وشُرع في إقامة عمارات شاهقة في مكانها، وأخذ يتمايل في الأفق منظرُ حيٍّ جديد مُكتظ بالسكَّان والدكاكين، ويطوي في نموه المتصاعد الحيَّ القديم بسراياته المعدودة وبيوته الصغيرة الأنيقة وسكانه المعدودين الذين تربط بينهم روابط الأسرة الكبيرة الواحدة.
صور محفوظ في "قتشمر" التغيرات النفسية للأصدقاء الخمسة، كما صور التغير الجغرافي الذي جرى للعباسية مع تعاقب الأحداث السياسية
هكذا ذهبَت في أدراج التاريخ عباسية الزمان الأول، بالهدوء والخضرة والسرايات والترام الأبيض، وانتشرت العمارات، وقامت الدكاكين على الجانبَين، وفاض الحي بسكَّانه، واكتظت الشوارع بالصِّبية والسيارات الخاصة والعامة، فعمّ الزحامُ والضوضاء والأنفاس المُتلاطمة. يربط محفوظ هذا المشهد بهزيمة 5 حزيران/يونيو، فيقول: "انتفضنا قائمين على صوت انفجارٍ كالبركان في يومٍ من الأيام عجيب اسمه 5 يونيو، دهشة وتساؤل وتعجب، حيرة وعدم تصديق، ثم دهشة وتساؤل وتعجُّب، تجرُّع لواقع لا مفرَّ منه، كيف؟!... لا ندري".
حُكم الزعيم الثاني
وصف محفوظ في "قشتمر" عصرَ الزعيم الثاني بأنه عامرٌ أيضاً بالمفاجآت، فهو عصر المنابر والنصر والسلام والانفتاح، وعصر أكبر درجات سجَّلها الفساد في تماديه واستفحاله. ويصف حال الأصدقاء يوم قتل الزعيم قائلاً: "يوم قُتل الزعيم فزعنا وتساءلنا عمَّا يُخبئه لنا الغد، ورغم الشيخوخة والروماتيزم والذبحة والبروستاتا والتصوف ذهبنا مُتوكئين على العصي إلى مركز الاستفتاء بالمدرسة القديمة بـ'بين الجناين' لننتخب الرئيس الجديد الذي تعلقت به آمالنا بقدْر تعلُّقها بالأمان والحياة".
في النهاية وفي زمن شيخوخة الأصدقاء، يتسائل الراوي قائلاً: "أين الحقول والحدائق؟ أين النخلة ومجلسها وغابة التين الشوكي؟ أين البيوت ذوات الحدائق الخلفية؟ أين السرايات والقلاع والهوانم؟ هل نرى اليوم إلا غابات من الإسمنت المُسلح، مظاهرات من المركبات المجنونة؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 6 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف