اختارت التلفزة الرسمية التونسية أن تبثّ مسلسل "حرقة" الذي يمتدّ على مدى عشرين حلقة خلال السهرات الرمضانية لهذه السنة، وقد حقّق هذا المسلسل نجاحاً باهراً وأعلى نسب مشاهدة وردود أفعال إيجابية لم تحظ بها القناة الأولى الوطنية منذ سنوات عدّة.
فقد ظلّت هذه القناة لفترة طويلة منسية لا يتذكّرها التونسيون إلا للتأكّد من الأخبار الرسمية والأرقام الرسمية والخطابات السياسية الرسمية. أما خلال رمضان، فإنها كانت دائماً واقعة في هامش القنوات الخاصة، لا تقوى على منافستها رغم أن جلّ ما كان يُقدّم في تلك القنوات كان يعتمد الإثارة الفارغة والابتذال والمباشرة الفظّة.
نجوم قادمون من خشبة المسرح
المسلسل من إخراج التونسي الأسعد الوسلاتي، ونصّ عماد الدين الحكيم، وقد تقاسمت دور البطولة فيه وجوه تعوّد عليها المُشاهد التونسي مثل وجيهة الجندوبي، عائشة بن أحمد، مهذّب الرّميلي، عبد اللطيف خير الدّين بالإضافة إلى جوه أخرى تُعتبر جديدة، مثل رياض حمدي، مالك بن سعد، مريم بن حسن، ريم حمروني، أسامة كشكار، أيمن مبروك وغيرهم.
ويعود نجاح هذا المسلسل بالأساس إلى نجاح الكاستينغ، فكل الممثلين قادمين من المسرح التونسي بمختلف مشاربه، ومن الجنوب التونسي، مثل جرجيس وتوجان وبني خداش وبن قردان من حيث تنطلق الأحداث وتنتهي. هذا وتجدر الإشارة إلى أن ممثلين من جنسيات إفريقية مختلفة قد شاركوا في هذا العمل، ومنهم الإيفواري "أموس جون زادي"، السنيغالي المعروف "مماد باييل صار" وغيرهما.
اختارت التلفزة الرسمية التونسية أن تبثّ مسلسل "حرقة" الذي يمتد على مدى عشرين حلقة خلال السهرات الرمضانية لهذه السنة، وقد حقّق هذا المسلسل نجاحاً باهراً وأعلى نسب مشاهدة وردود أفعال إيجابية لم تَحظ بها القناة الأولى الوطنية منذ سنوات عدّة
ويقول الوسلاتي إن "مشاركتهم مهمة جداً ولا يمكن تجاهلها، لأن تونس أصبحت منطقة عبور لمواطني دول أفريقيا جنوب الصحراء، حيث أصبحت تستقبل المئات من المهاجرين غير النظاميين الأفارقة، الذين يأتون إلى تونس للعمل، ويتخذونها مطية للسفر إلى إيطاليا".
الحرقة: إبحار نحو جنة متخيلة
يعالج المسلسل أساساً قضية الهجرة غير النظامية، هذه الظاهرة الّتي تفاقمت في المجتمع التونسي على مدى العشر سنوات الأخيرة والتي تخص كلّ البلدان الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط. فركوب "قوارب الموت" يُعدّ الورقة الأخيرة التي يلجأ إليها شبّان وشابّات تونسيون من أجل الخلاص من وضعية الفقر والخصاصة والذل أيضاً التي يعيشونها في مجتمعاتهم.
"حرقة" والكلمة من "حَرَق"، في إشارة إلى حرْق المهاجرين غير الشرعيين لأوراقهم الرسمية قبل ركوب تلك القوارب، في حركة تدلّ على الاستغناء عن كل شيء يخصّهم والإلقاء بأنفسهم إلى مصير جديد، يبقى في عداد الصّدفة وحسن الحظ أو سوئه. كما قد تكون أيضاً حرق الحدود وأكباد الأهالي وحرق الانتظارات والآمال.
حبكة درامية متينة ولغة جارحة
اختار هذا العمل الدرامي الرمضاني إذن واحدة من القضايا الحارقة في البلاد، وإمعاناً في المصداقية، أشركَ أمّهات وآباء حقيقيين ممن خبروا تلك النار واكتووا بها إثر فقد أبنائهم أو بناتهم.
نعم، فالبنات صرن هن الأخريات يفكّرن في "الحرقة" وقد تجسّد ذلك من خلال شخصية "أمينة" التي التجأت إلى الهجرة غير الشرعية، مدفوعة بحبّها للشاب "كريم" الّذي سيتخلّى عنها فيما بعد، ليكون سبباً مُضاعفاً لمأساتها، بعد أن قررت الهروب مما ينتظرها وينتظر كلّ حامل لشهادة عليا من بطالة ومهانة، بالإضافة إلى هروبها من نفس مصير أختها "علياء"، الشابة التي دخلت السجن بسبب طعنها أحد المتحرشين.
يعالج مسلسل "حرقة" قضية الهجرة غير النظامية، هذه الظاهرة التي تفاقمت في المجتمع التونسي على مدى العشر سنوات الأخيرة. فركوب "قوارب الموت" يُعدّ الورقة الأخيرة التي يلجأ إليها شبان وشابات تونسيون من أجل الخلاص من الفقر والذل
كما تجسّدت "حرقة" النساء من خلال "هالة"، المرأة الحامل بطفل خارج إطار الزواج، في محاولة منها أن تُجنّب نفسها ما قد تعيشه أي أمّ عزباء في مجتمع مبالغ في انغلاقه وتجنيب طفلها مصير لا شك وأنه صعب.
ولنقل أيضاً إنّ عائلات تونسية بكاملها أصبحت تفكّر في هذا الضوء المُتوهّم الذي قد يتشبّث به كل من يعيش ظلمة النفق الطويل. وهو ما تجلّى في المسلسل من خلال "نعمة" (وجيهة الجندوبي) الأم التي لم تكفّ عن دفع ابنها المراهق إلى "الحرقة" كحل سحري كانت تراه للخروج بعائلتها من وضعيتها الصعبة، خصوصاً وأن زوجها مُقعد لا يفعل شيئاً سوى انتظار مصيره المحتوم.
انصاع "فارس" لطلب أمه بعد وفاة أبيه وركب "الشّقف" المترهّل ليشق البحر بطموحاته البسيطة: الخروج بعائلته الصغيرة من مصاعب الحياة اليومية. لكننا نتعقب الأم وهي تغرق في الندم في ما بعد، حين ترى جثث الشبان الذين لفظهم البحر في تقرير إخباري على شاشة الفضائية الوطنية.
بين سماسرة التهريب وتواطؤ الدولة
لك أن ترى من أمثال "فارس" الكثيرين وأنت تجوب الأحياء الشعبية التونسية، سيعترضك عدد كبير ممّن لا يعيشون إلا في انتظار توضيب "حرقته" الخاصة. سيقول لك: "أنا ميّت ميّت... هل ترى بأني حي؟" أما "الحرّاق"، أي صاحب المركب، أو "الشّقف" كما يحلو للبعض تسميته، فقد أصبحت حرفة تدرّ على صاحبها أموالاً طائلة. فـ"صاروخ" (مهذب الرميلي) قائد المركب ومساعده عيّاد (أسامة كشكار) لم يكونا سوى صورتيْن ملطّفتين لنوع من السمسرة بآمال وأحلام شبّان وشابّات ضاقت بهم السبل.
سمسرة قد يصل بها التدنّي الأخلاقي والإنساني إلى ارتكاب جرائم لا تُحصى ولا تُعدّ. هكذا إذن اختار هذا المسلسل الخوض بعمق في قضية تشغل الجميع وحاول معالجتها من زوايا عدّة، وهي قضية ملتقى لقضايا عديدة أخرى ومنها: تواطؤ الأمن وخفر السواحل أو ما يُسمّى حرس الحدود، في إشارة لتواطؤ الدّولة وسياساتها في هذه القضية، هذا إلى جانب تجارة المخدّرات والبيروقراطية التونسية...
"حرقة" والكلمة من "حَرَق" في إشارة إلى حرْق المهاجرين غير الشرعيين لأوراقهم الرسمية قبل ركوب تلك القوارب في حركة تدل على الاستغناء عن كل شيء يخصّهم والإلقاء بأنفسهم إلى مصير جديد يبقى في عداد الصُّدفة وحسن الحظّ من سوئه
اجتمع على المركب إذن فارّون عديدون من: العمل الشاق من قساوة المجتمع وعنصرية مضاعفة، ولنا هنا أن نعرّج على ما يعيشه الأفارقة القادمون من جنوب الصحراء في بلد مثل تونس أو مثل ليبيا من تمييز عنصري، ومن شبح الحروب الأهلية، وآخرون من السجن، وهي قضايا مركزية تتفرّع إلى أخرى متسرّبة إلى عمق أعماق المجتمع التونسي خصوصاً والإفريقي عموماً، ومنها المركزية في تونس في علاقة بالجهات الداخلية المهمّشة وتعامل المحامين الوصوليين مع عدّة قضايا وتهميش بعض الفنّانين المتجسّد في "خميس"، هذا المسرحي الذي اختار التظاهر بالعمى على مدى الرحلة بعد أن فقد عمله ومكانته أمام تغيّر الذائقة الجديدة.
كما نجد قضايا أخرى منها تلاعب المجتمع المدني، وصولاً إلى ما يُسمّى "الشّنترو"، أو مراكز إيواء المهاجرين غير النّظاميين على الضفة الأخرى، الذي يُعدّ هو الآخر بؤرة لمشاكل لا تُحصى، أهمها التلاعب بآلام الناس والاتّجار بها، وقد جسد المسرحي التونسي الإيطالي أيمن المبروك دور ذلك المتلاعب بآلام أبناء وطنه التونسيين وقارّته الإفريقية لصالح مزيد من تركّزه وإثبات ذاته في المجتمع الإيطالي.
مقبرة الغرباء
ورد الحوار في هذا المسلسل متنوّعاً ولمّاحاً، ميّزه تنوّع اللهجات التونسية من جنوبها إلى شمالها، لتمتدّ إلى لهجات أخرى من القارة السّمراء وصولاً إلى اللغة الإيطالية.
وقد غلبت على المحاورات صفة العفوية والعمق وذلك يعود دون شكّ لقدرات الممثلين القادمين من خشبة المسرح ممن يعرفون ممكنات الصوت وقدراته، لا كما ينتشر في مسلسلات أخرى من تغليب نجوم صنعتهم سطحية ما يقدمونه على مواقع التواصل الاجتماعي أو ما يطلق عليهم جزافاً تسمية 'صانعي وصانعات المحتوى'".
ويشير تصريح لمخرج العمل إلى أن ثلث العمل قد صُوّر في البحر بتقنيات سينمائية من شأنها أن تغذّي عنصر التشويق، وهو ما أفرز عدّة مشاهد مؤلمة وصادمة تنبع لا محالة من الواقع الذي تعيشه المناطق الساحلية التونسية، مثل مدينة جرجيس الجنوبية التي لا يمرّ يوم دون أن تلفظ جثث المهاجرين على شواطئها. وقد عرّج المسلسل في هذا الصدد على هذه المسألة التي دفعت بمواطن تونسي أسال حبراً كثيراً وأدار كاميرات أكثر بعد أن تبرّع بقطعة أرض وتكفّل بدفن ما يلفظه البحر من جثث في مقبرة أسماها "مقبرة الغرباء".
في تلك المقبرة يرقد الشاب مثقلاً بأحلامه الخائبة، بعد أن تحوّل حوض البحر الأبيض المتوسط بامتداده إلى مقبرة كبيرة تتلقّف أجساد الحالمين على سواحله، وبعد أن كان بحراً استراتيجياً تلتقي حوله الحضارات وتزدهر المبادلات التجارية للموانئ.
كان مُخرج العمل واعياً بهذا المعطى، لذلك اكتسبت المشاهد منحى درامياً أحياناً، تراجيدياً أحياناً أخرى وعميقاً. لم يكتف المسلسل بمجرّد تصوير ونقل ما يحدث بل راح يبلور، منذ أوّل حلقة إلى آخرها، موقفاً واضحاً من هذه الهجرة الباحثة عن "إلدورادو" على الضفة الأخرى من البحر، لذلك صوّر بدقة خيبة المهاجر ومجانية ركوبه مخاطر البحر وأهواله.
فـمركز الحجز الذي يصل إليه المهاجرون غير النظاميين عبارة عن سجن أكثر قساوة من الوطن الذي اختاروا الهروب منه، والأم والأب المنتظران على الحافة الأخرى لا ينتظران خلاصاً مادياً ولا سيارة ثمينة، بل عودة الابن أو الابنة على قيد الحياة، في إشارة إلى أن الحياة تظل القيمة الأسمى.
أبطال المسلسل يشاهدون الحلقة الأخيرة في السجن
وقد بُثّت الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل في سجن برج العامري الواقع على أطراف العاصمة التونسية بحضور عدّة ممثلين، وفي ذلك السجن من قُبض عليه بسبب محاولة تجاوز الحدود خلسة، وهي محاولة من منظمات المجتمع المدني للتوعية باعتماد الفعل الفني والثقافي، بعد أن اكتشفت جدوى الفعل التوعوي وإفلاس الفعل الزجري.
انتهى مسلسل "حرقة" على شاشة الفضائية التونسية ولم تنته أحداثه على أرض الواقع، فالمهاجرون السريون التونسيون لا يكفون عن التزايد، فهم آلاف مؤلّفة في السنة. ولم يكفّ هذا النوع من الهجرة عن إفراغ القارة العجوز من شبانها وطاقاتها
انتهى مسلسل "حرقة" على شاشة الفضائية التونسية ولم تنته أحداثه على أرض الواقع، فالمهاجرون السريون التونسيون لا يكفون عن التزايد، فهم آلاف مؤلّفة في السنة. ولم يكفّ هذا النوع من الهجرة عن إفراغ القارة العجوز من شبانها وطاقاتها، حتى أن أحد خفر السواحل صرخ ساخطاً ذات يوم أمام جحافل المهاجرين الوافدين على الحدود الإيطالية: "علينا أن نوقف كلّ أحداث الولادة التي تتمّ على الناحية الأخرى من البحر الأبيض المتوسط حتى تتوقف هذه الكارثة".
دائرة مفرغة
كانت الحلقة الأخيرة من مسلسل "حرقة" تترجم هذا الحلقة المفرغة التي لا تكفّ عن التكرر ما بين بلدان الهروب وبلدان الوصول، احترق "الشنترو" وفرّ لاجئوه ليصلوا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، عازمين على العودة إلى أوطانهم الأصلية بعد خيبة مسعاهم، وحلّ مهاجرون سريون آخرون على السواحل الإيطالية فارّين من أوطانهم الأصلية، في محاولة لتحقيق بعض مما يحملون من أحلام. هكذا هي الحركة إذن، دائرية ومفرغة، مثلها مثل الحياة التي ليست أكثر من بحث وانتظار متواصلين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...