لسان حال الكثيرين الآن يكاد يستعير هذيان أنيس زكي، بطل "ثرثرة فوق النيل"، الصارخ بلا صوت: "فيا أي شيء افعلْ شيئاً فقد طحننا اللاشيء!". ولو عاد أنيس إلى الحياة اليوم لطحنته أشياء، واعتبر اللاشيء ترفاً. لم يكن الخوف، في الستينيات، يمس تفاؤل الشعب، وثقته بتأمين حاجته إلى الطعام. تلك معادلة لخّصها رام بطل رواية وجيه غالي "بيرة في نادي البلياردو" (ترجمة: هناء نصير) بقوله: "الهند: الناس هناك تجوع لتدفع ثمن الديمقراطية المنشودة. وفي الصين: لا تجوع الناس على الإطلاق لأنه تحكمهم دكتاتورية شيوعية. أما نحن، فلدينا أسوأ ما في النظامين معاً: الدكتاتورية والجوع، بالإضافة إلى عدم وجود مستقبل نتطلع إليه".
في رأي شهود ستينيات القرن العشرين أن المنصب الرئاسي المحكوم بقواعد دستورية شغله رجل مهيب، حلا له القيام بمهام الأب. وما دون رب العائلة يستحقون الرعاية والوصاية. وسبق لكمال عبد الجواد في "السكرّية"، أن وصف المشهد عام 1935، قبل أن يعود حزب الوفد إلى الحكم، قائلاً: "تلك السلسلة المشؤومة من الطغاة التي تمتد إلى ما قبل التاريخ، كل ابن كلب غرّته قوته يزعم لنا أنه الوصيّ المختار وأن الشعب قاصر".
"في الصين: لا تجوع الناس على الإطلاق لأنه تحكمهم دكتاتورية شيوعية. أما نحن، فلدينا أسوأ ما في النظامين معاً: الدكتاتورية والجوع، بالإضافة إلى عدم وجود مستقبل نتطلع إليه"
وفي رواية "ثرثرة فوق النيل" رأى رفاق العوامة أنهم أكبر وأنضج من أن يكونوا أطفالاً، فاختاروا الفرجة، والهروب إلى عوالم يصنعونها. ويندهش أنيس زكي: "العجيب أن فرعون آمن بأنه إله".
الهروب احتجاج صامت، واستعلاء مضاد. في الرواية يقول الناقد الفني علي السيد: "نرى أن السفينة تسير من دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا، وأن التفكير بعد ذلك لن يجدي شيئاً، وربما جرّ وراءه الكدر وضغط الدم".
أعرضوا عن الشأن العام، وتركوا ما للحاكم للحاكم. لم يزعموا بطولة، ولو لفظية تأسيا بأحد أسلافهم المحفوظيين، ياسين عبد الجواد، عام 1944 في "السكرّية"، إذ صرخ بعد صولاته الاشتهائية: "كيف نكون أمة متحضرة والعساكر تحكمنا؟!". وقد نشرتُ في 10 آذار/مارس 2020 في صحيفة العرب اللندنية مقالاً عنوانه "اِنسَ ميدان التحرير والمسلّة.. البلد بلدهم"، ناوياً الإعراض التام، لولا الزوبعة السابقة على إزالة قبر طه حسين.
هذا الأسبوع، فوجئت أسرة طه حسين بعلامتيْ (x)، باللون الأحمر الدامي، تحاصران بوابة مقبرة العائلة. (x) علامة اقتراب الإزالات، عنوان إعصار، راية سوداء بلا عباسيين. الدكتورة مها عون حفيدة كل من أمينة طه حسين ومحمد حسن الزيات قالت إن المقبرة مدفون فيها أيضاً أمينة طه حسين، وهي من أوائل خريجات الجامعة المصرية وزوجها محمد حسن الزيات وزير الخارجية السابق.
لكن الجرافة لا تميز، والشعب خارج المعادلة لا يعبر عنه برلمان حقيقي، ولا يُستشار في تجريف عمومي صحّر كل شيء حتى الشعور بالتصحّر. وفي السابق كان الشعب يعترض بالسخرية، رافعا شعار "البلد بلدهم". ولهذا الصمت أمثلة للعبرة في أعمال نجيب محفوظ.
في قصة "الخوف" كانت نعيمة بنت عم الليثي بياع الكبدة مخطوبة لشاب طيب اسمه الحملي. فسارع دعبس فتوة حي آخر إلى خطبتها، وأذعن أبوها، وأبلغ خطيبها الحملي، "فحزن الولد ولكنه لم يتكلم ثم ذهب". وبعد ساعتين تقدم جعران فتوة حي آخر يريد الفتاة، فانذعر الأب ووافق. لا يمكن للفتاة أن تتزوج الاثنين، وزواجها من أحدهما "هو الموت".
وفي اليوم التالي بدأت الحكومة تأسيس نقطة شرطة، لإنهاء الفتونة، وجاء العساكر يتقدمهم الضابط عثمان الجلالي يطمئن الأهالي: "لا تخافوا.. الحكومة معكم". وتجوّل وسط توجس الناس الذين يرون الفتوات أقوى من الحكومة. وتخلى عن الزي الشرطي، وارتدى جلباباً ونازل الفتوات وصرعهم، فاكتسب ثقة.
أصبح الضابط أسطورة. وكلما صادف فتوة اعترضه وأذلّه، وطالبه بالاعتراف أمام الناس بأنه امرأة. هكذا رحل الفتوات، وتفاءل الضعفاء، وأكبروا الضابط. ثم لاحظ صبي القهوة نظرات الضابط إلى نعيمة، وهو "يأكلها بعينيه"، وتجنبها الشبان "حباً في السلامة". وقال الصبي إنه رآهما معاً في الخلاء، فشعر الأهالي بالخزي والعجز، "كيف يجيء ذلك من الرجل الذي وهبهم السلام". وسأل أحدهم: والعمل؟ فقال آخر: "قل (أنا مَرَة)!".
في رواية "ثرثرة فوق النيل" رأى رفاق العوامة أنهم أكبر وأنضج من أن يكونوا أطفالاً، فاختاروا الفرجة، والهروب إلى عوالم يصنعونها. ويندهش أنيس زكي: "العجيب أن فرعون آمن بأنه إله"
وأحاطوا نعيمة بالصمت والازدراء. ولم تعد تخاف الاعتداء، مع وجود الضباط "فتوة الفتوات"، ولكنها عانت الوحدة، وذبلت روحها، وصارت أعصابها عارية، فتتشاجر وتنفجر بالسباب لأقل احتكاك، وتصيح في وجه ضحيتها: "أنا أشرف من أمك". وافترستها الشيخوخة.
كابوسٌ أن ينقلب منقذ، فيعيد إنتاج جرائم الذين خلّص الناس من شروهم، أن يحمي أحداً ثم يعتقله. فما العمل؟ لن يكون بالطبع مثل اقتراح العاجز في قصة "الخوف" بالقول الذليل: "أنا مَرَة". لا يعدم الضعفاء وسائل للمقاومة للاحتيال على المحتالين أنفسهم.
في قصة "حلم منتصف الليل" يقدم نجيب محفوظ وعداً بالأمل. بطلة القصة أم عباس، أرملة جميلة لم تعرف إلا الحب والتكريم، وتمتلك عمارة من أربعة أدوار وثلاثة دكاكين أحدها لابنها عباس، وهو في العشرين "طيب القلب جداً"، ويبتسم كطفل، ويميل إلى الصمت. وتتزوج حسنين الفتوة غير المحبوب، فيغيب عباس أياماً ويأتي حزيناً لا يتخيل أن يحل رجل مكان أبيه.
اتخذ عباس من الدكان الذي يبيع فيه الحلوى مسكناً، ورفض تودد زوج أمه فانقلب فظاً، أساء معاملة عباس، وطالبه بدفع إيجار الدكان، وأهان أمه: "أنا سيد البيت... أنا سيد الكل". وفي المساء ينطلق عباس "يجود حيثما ذهب ببسمات رائقة وتحيات حارة في سعادة ملائكية".
في قصة "حلم منتصف الليل" يقدم نجيب محفوظ وعداً بالأمل
واستبد حسنين فضرب أم عباس، وأمرها ببيع العمارة له بيعاً صورياً. وعند الفجر عثر بيومي اللبان على حسنين في القبو مقتولا. سئل عباس، في التحقيق، أين كان وقت الجريمة؟ قال: "مع الخضر". وبدد دهشة المحقق متسائلاً: "ألا تعرف سيدنا الخضر؟!". وظل الحادث لغزاً. وتزوجت أمه جزاراً فقيراً دون الثلاثين. ورفض عباس أن يحل رجل مكان أبيه.
ارتاب الحكومة أن تكون للعريس، عبده، علاقة بقتل حسنين. وثبتت براءته، ومنح المرأة حبا، وأحسن معاملتها، وخطب ودّ عباس، فلم يستجب. بدا عبده ودودا يوزع كرمه على عباس، وعلى أهله الذين أتاح لهم شقة في العمارة، وخفّض الإيجار للفقراء، وكلما خلت شقة أسكنها أحد أقاربه. ثم استقدم أمه وأختيه فأقمن في شقته. ولم تعد أم عباس سيدة بيتها مع هذا الجزار "حريري الملمس". كما استأثر بدكانين أزال الجدار بينهما، وأصبح أكبر جزار في الحي. واستبدل بالنظرة الوديعة ثقة وحزماً وغطرسة. وحاولت المرأة استرداد "حقوقها في بيتها"، فقال إنه بيته، ولها أن تخرج. وفض نزاعاً بين أمه وزوجته التي ضربها، وطردها.
هامت أم عباس حتى آوتها أسرة فقيرة تمت بقربى إلى زوجها الأول، والد عباس. وخاف الجيران سطوة عبده الذي وصف عباس بأنه "الغلام المعتوه". وكان عباس سعيداً لامبالياً. أما الجيران، كما جاء في "أولاد حارتنا" فيخافون، "يهتفون للمنتصر أياً كان المنتصر، ويهللون للقوي أياً كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت، يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم. غموس اللقمة في حارتنا الهوان. لا يدري أحد متى يجيء دوره ليهوي النبوت على هامته". ثم علا في الفجر صراخ، وهرعوا إلى القبو، ورأوا بيومي اللبان يرتجف، ورأس عبده يغوص في الدم. لغز جديد. وفي الدكان قال اللبان لعباس إن عبده نطق باسم قاتله.
ولم يبال الشاب، وتناول عشاءه، وتأهب للمغادرة لبدء جولته الليلية. وسأله بيومي: "من أنت يا عباس؟! وماذا يقول لك سيدنا الخضر كل ليلة؟!". تنتهي القصة، وأضيف إليها سطور الآمال الأخيرة من "أولاد حارتنا": "واستحوذ الخوف على الناظر ورجاله، فبثوا العيون في الأركان، وفتشوا المساكن والدكاكين، وفرضوا أقسى العقوبات على أتفه الهفوات، وانهالوا بالعصي للنظرة أو النكتة أو الضحكة، حتى باتت الحارة في جو قاتم من الخوف والحقد والإرهاب. لكن الناس تحملوا البغي في جلد، ولاذوا بالصبر. واستمسكوا بالأمل، وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: لا بدّ للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 19 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...