تصعب السيطرة على حضور 55 عملاً لكاتب واحد في مكتبتي. تنمو الكتب وتزحف، والجديد يتسلق القديم، ويضيق المكان؛ فيختفي كتاب هنا، ويحتجب كتاب هناك، ويُعار كتاب ولا يُسترد. الحل طرحته دار الشروق في طبعة جديدة لمنجز نجيب محفوظ، بأغلفة تسلتهم عوالمه وتحاورها برؤى بصرية طازجة. صدر حصاد ستين عاماً من الإبداع المتنوع في عشرة مجلدات، استباقاً لانتهاء عقد دار الشروق على نشر أعمال محفوظ، في نيسان/أبريل 2022. مغامرة الدفع بالأعمال الكاملة تراهن على استقرار محفوظ كاتباً إنسانياً يمثل مفهوم الإجماع على انتماء أعماله إلى الكلاسيكيات الأدبية.
عبر محفوظ عدة حواجز بدأت بتجاهلٍ نقديّ استمرّ خمسة عشر عاماً في بداياته، وتنافُس أبناء جيله، وغيرة أصحاب المهنة الواحدة، وتهوين عباس العقاد من فن الرواية، "شعر الدنيا الحديثة" في رأي محفوظ الذي اجتاز بالمثابرة تلك العقبات، وقفز إلى مساحة لا ينازعه فيها روائي عربي، وأسلم أعماله إلى أجيال لا تعنيها جائزة نوبل، ولا استلهامات درامية متوالية لأعماله، لأنها تبتغي العمل المكتوب، وتعثر في النص المحفوظي الراسخ على أيقونة لا تُعلّق مؤطرة مغلّفة كتميمة للزينة، ولا تنفد تأويلاتها، بفضل يقينِ محفوظ بأن الإبداع أسمى من أيديولوجيا تتوهج ثم تنطفئ. الأيديولوجيا والأحداث الساخنة وجبات سريعة، مؤقتة، لا تصلح زاداً للسفر الطويل.
المجلدات العشرة ضمت 55 عملاً إبداعياً، واستبعدت كتاب "مصر القديمة" ليظلّ وحيداً في طبعة تحمل اسم نجيب محفوظ وحده، وتوحي بأنه المؤلف، ولا تشير إلى المؤلف جيمس بيكي. ويحتفظ الموقع الإلكتروني لدار الشروق ببيانات المؤلف، رجل الدين الإسكتلندي المهتم بالآثار المصرية.
وقد ترجم محفوظ الكتاب عام 1932، حين كان يدرس الفلسفة في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة). ولعله كان ضمن أعمال فتنت محفوظ بمصر القديمة، فكتب عنها ثلاث روايات تاريخية.
في التصميم الجديد للأغلفة أربعة عناصر ثابتة أعلى المجلدات العشرة: اسم "نجيب محفوظ" بخط يده، وصورة له في نحو سن الخمسين، وتجاورهما كلمتا "الأعمال الكاملة"، ورقم المجلد
يقول المؤلف في بداية الكتاب: "كان حكماء المصريين يضعون الكتب التي نقرأها الآن. وفي الوقت الذي كانت بريطانيا جزيرة مجهولة مسكونة بالمتوحشين والهمج كأنهم لتوحشهم وهمجيتهم سكان جزر البحار الجنوبية، كانت مصر أمة متمدينة كثيرة المدن العظيمة عديدة المعابد والهياكل والقصور وكان سكانها من أعقل الرجال وأعظمهم علماً. وقد قصدت -في هذا الكتاب الصغير- أن أروي لك نتفاً من تاريخ هذه الأمة العجيبة وأبين لك نوعَ الحياة التي كان يحياها الناس في تلك الأيام الغابرة، قبل أن تبدأ الأمم الأخرى في الاستيقاظ وقبل أن يكون لها تاريخ".
كتاب "مصر القديمة" ذو الطبيعة العمومية العاطفية ليس نصّا مقدساً لكي ينشر كما كتبه جيمس بيكي (1866-1931) وترجمه محفوظ. وكان على الناشر أن يعهد به إلى متخصص في علوم المصريات، لإضافة هوامش شارحة. لا يسلم من له إلمام بطرف من تاريخ مصر القديمة بإعادة إنتاج المؤلف لأساطير الخروج، والطعن في رمسيس الثاني، وتفاصيل أخرى يختلط فيها الديني الأسطوري بالتاريخي.
بعد نشر الثلاثية كتب لويس عوض: "ما عرفت كاتباً رضي عنه اليمين والوسط واليسار، ورضي عنه القديم والحديث ومن هم بين بين مثل نجيب محفوظ... غدا في بلادنا مؤسسة أدبية وفنية مستقرة قائمة وشامخة... هي مؤسسة شعبية أيضاً يتحدث عنها بمحض الاختيار في المقهى والبيت وفي نوادي المتأدبين والبسطاء... فنجيب محفوظ عندي كاتب من أولئك الكتاب القلائل في تاريخ الأدب في الشرق والغرب كلما قرأته عشت زمناً بين أمجاد الإنسان".
ولا تزال أعمال محفوظ تحتفظ بقدرتها على مخاطبة القارئ العام والدارس المتخصص معاً. لعله الكاتب العربي الأكثر حضوراً في وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال تداول عباراته الدالّة، أو تلك التي أنطق بها أبطال أعماله، وتحولت إلى مأثورات، فأصبح في مصاف فلاسفة ومبدعين تسري مقولاتهم عابرة للأجيال واللغات. كما أن أعمال محفوظ لا تزال أيضاً تثير شهية التشكيليين ومصممي الأغلفة.
لسنوات طويلة، خضعت الأغلفة إلى نمط يتكرر من رواية إلى مجموعة قصصية. وفي عام 1959 نُشرت رسوم الفنان الحسين فوزي، لشخصيات رواية "أولاد حارتنا"، بمصاحبة النص الذي نشرته مسلسلاً صحيفة "الأهرام".
ثم نشرت الرواية، في بيروت، بغلاف نمطي لحارة بمفرداتها التقليدية: شرفات ومشربيات، بائع يدفع عربة يد خشبية، شيخ بعمامة شعبية يتعقب بعينيه امرأة شابة بمنديل رأس يكسوه الورد، وملامح أيقونية ونظرة حادة. الأغلفة التي رسمها الفنان جمال قطب اتسمت بالتبسيط والبعد الأحادي، إذ يلتقط مشهداً أو يختار شخصية أو أكثر، وينقلها إلى أغلفة لا تختلف عن ملصقات أفلام مأخوذة عن هذه الروايات. ملصقات الأفلام، الأفيشات، وسيلة جاذبة تستهدف إغراء الجمهور. وما أقسى نسف المسافة بين غلاف كتاب وأفيش فيلم.
لا تزال أعمال محفوظ تحتفظ بقدرتها على مخاطبة القارئ العام والدارس المتخصص معاً. لعله الكاتب العربي الأكثر حضوراً في وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال تداول عباراته الدالّة
ومنذ خمسة عشر عاماً، أنهى الفنان حلمي التوني ميراث الأسلوب الوصفي لأغلفة أعمال محفوظ، وقدم رؤية جديدة تحاور النص، مستعيناً بلوحات رسمها مستلهماً روح النصوص. وبالتأمل لهذه الأغلفة نرى انتماءها إلى عالم حلمي التوني أكثر مما تتماس مع الأجواء المحفوظية، على الرغم من وجود اسم المؤلف أعلى الأغلفة بخط أكبر من عناوين الكتب.
التجربة الثالثة، الحالية، أنجزها بجسارة الفنان أحمد اللباد بأغلفة تحاور عوالم محفوظ برؤى بصرية طازجة، كما ذكرتُ في أول المقال. الأغلفة تنتمي إليهما معاً، اللباد ومحفوظ، وفي التصميم الجديد للأغلفة أربعة عناصر ثابتة أعلى المجلدات العشرة: اسم "نجيب محفوظ" بخط يده، وصورة له في نحو سن الخمسين، وتجاورهما كلمتا "الأعمال الكاملة"، ورقم المجلد.
أما العنصر المتغير فهو محيّر، لأن المجلد الواحد يحتوي أعمالاً تضم ألواناً سردية مختلفة، كما تتفاوت أعداد الأعمال في كل مجلد بين أربعة وتسعة، باستثناء عمل واحد يمثل وحدة متجانسة ومتصاعدة درامياً هو الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) التي استأثرت بالمجلد الثالث.
غلاف المجلد الثالث لا يلجأ إلى الاستسهال فيصف أجواء ثورة 1919، في مواجهة قوات الاحتلال البريطاني. هنا تثبيت للزمن بالعلم المصري ذي الهلال والنجوم الثلاث، وفي الخلفية جموع غائمة الوجوه، شأن أي جموع، مع صورة فوتوغرافية واضحة الملامح لرضيع بهيّ يتخذ بجلسته هيئة المفكر، ومن عينيه تفيض نظرة ترقّب وحيرة. لحظة ولادة ساطعة ستنتهي بالجيل الثالث، أحفاد السيد أحمد عبد الجواد، وقد تفرقت بهم سبل المستقبل، لا لقاء بين ماركسي وإخواني.
أما غلاف المجلد الرابع (أولاد حارتنا، اللص والكلاب، السمان والخريف، دنيا الله)، فاستبعد عناصر الحارة. حضر شبح سيارة على خلفية سوداء، فضاء قاتم لا يضيئه لهب عود كبريت من علبة لم تستعمل، لأنها "ماركة التاج" رمز العهد الملكي البائد.
هذا المجلد يشمل رباعية ما بعد توقف محفوظ بضع سنوات عن الكتابة. عاد من سنوات الصمت مثقلاً بأسئلة وجودية، متسلحاً بتأسيسه الفلسفي وتأملاته لمصائر شعارات ثورة 1952. قفز محفوظ إلى مرحلة قلقة، بعصف فكري ووجداني وسياسي أحكم السيطرة عليه، وتناوله بأبعد سبل السرد عن السياسة.
اللهب الذي لم يشتعل، لانغلاق علبة الكبريت، اشتعل غضباً في السطور الأولى من "اللص والكلاب"، لحظة تحرر سعيد مهران من السجن: "مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجوّ غبار خانق وحرّ لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطوياً على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة... وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدراً، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحدياً. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة". وخسر سعيد مهران قضيته وحياته. فشلت ثورته المحدودة، لأنه واجه الجميع وحيداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...