نولد أطفال شرق أوسط البحر المتوسط، جاهلين لمحيطنا ولماهية هويتنا، كباقي أطفال العالم، وكهؤلاء، نرضع من أثداء أمهاتنا لنتغذى، لكن، على خلافهم، حليبنا يتميز عن حليبهم، بتطعّمه إما بالبرتقال، أو بزيت الزيتون، أو بقطر الحلويات.
وعندما نكبر قليلاً، ونضجر من الحليب، نبدأ بتناول شتّى أنواع الطبخ المتوارث عن الجدّات، اللواتي يدندن لنا تهويدات. ومن ثم نكبر أكثر، ونبدأ بترديد تلك التهويدات، مكتسبين اللغة العربية، فنكلّم أهلنا، ونخاطب أقراننا بها لنخبرهم قصص ما قبل النوم، تلك التي روتها لنا أمهاتنا، فنتناقش بصحة وجود "أبو كيس" و"الغول"، وما نلبث أن نضجر منها وننتقل إلى لعب "الغميضة" أو "اللقيطة" اللتين توقظان الجوع في بطوننا، فنتركهما، ونتسابق إلى محل المنقوش، أو كل يلوذ إلى بيته، ليتناول طعاماً كانت قد أعدته أمه.
ومن ثم نكبر أكثر، فنبتعد عن البيت قليلاً، لنبدأ باكتشاف تفاصيل المدينة وأحياءها الصغيرة والكبيرة، وما خلّفه الفرنسي والإنجليزي والعثماني والمماليكي والصليبي والعربي والبيزنطي والروماني واليوناني والفينيقي والأشوري والمصري والكنعاني، وغيرهم. وما إن ننتهي من مدينتنا، حتى ننتقل لزيارة غيرها واكتشافها، وإن ضجرنا من ذلك، نذهب لنزور بحرنا الأبيض، فنكلّمه بصغيرنا وكبيرنا، ونأخذ رأيه بمشاكل حياتنا. أما أولئك الذين لا يحبون البحر، فيتوجهون إلى أشجار الصنوبر أو الأرز أو البلوط، فكما نضع نحن سرنا بين يدي البحر، هم يضعونه بين أغصان الشجر التي تحضنهم في كل المواسم.
كبرنا أطفالاً لا يعرفون إلا وجوه أمهاتهم الشرقيات، وكبرت فينا تفاصيل عالمنا الشرق أوسطي دون أن ندري. كبرنا في ظل إخفاء أهلنا عنا كل ما لا يضيف جمالاً إلى عالمنا، فالآباء، إجمالاً، يحاولون إخفاء حقيقة مأساتنا الشرق أوسطية، رغم تعلقهم غير الواعي بها. فيذكرون الحروب ذكراً عابراً، وكأنهم مرّوا بها في يوم مشمس لطيف، فألقوا عليها التحية وذهبوا في طريقهم.
يتذكرونها وكأنها ماضٍ بعيد لم يَصِم كيانهم، رغم جلوسها فيه متربّعة الأرجل، متناولة لبزر دوار الشمس، مشاهدة إياهم يتجاهلونها، وضاحكة على ثقتهم بغيابها. لكن من يلوم محاولاتهم غير الواعية لتجنّب آلامهم وتجنيبنا غوغاء ماضيهم؟ من يلوم محاولة إخفائهم لعنة الشرق الأوسط، وتعطيرهم إياها بماء الورد وماء زهر الليمون كي تتلقاها حواسنا بحب؟
ثم يأتي يوم، تنفجر فجأة فيه فقاعة الأمان التي حاول أهلنا عبثاً خلقها حولنا، انصياعاً لغريزة أبوية تدفعهم إلى حمايتنا جسدياً وعاطفياً ونفسياً. تنفجر فجأة الفقاعة، فينهال علينا الواقع ونكتشف تلك الخديعة. نكتشف ازدواجية الشرق الأوسط. نكتشف أننا لسنا كباقي أطفال العالم.
كبرنا في ظل إخفاء أهلنا عنا كل ما لا يضيف جمالاً إلى عالمنا، فالآباء، إجمالاً، يحاولون إخفاء حقيقة مأساتنا الشرق أوسطية، رغم تعلقهم غير الواعي بها. فيذكرون الحروب ذكراً عابراً، وكأنهم مرّوا بها في يوم مشمس لطيف، فألقوا عليها التحية وذهبوا في طريقهم
نفهم عندها أن كل الحروب التي أخبرنا أهلنا أنها ماضية سابقة، هي في الحقيقة حاضرة حالية، لم تنتهِ، فما زالت تنكّل بنا، وتغتالنا، وتغتال أحلامنا وآمالنا وطموحاتنا بشكل يومي. نفهم أن مع الجمال الذي كبرنا فيه قبحاً أكبر، متطعماً بالكراهية، والهمجية، والتعسف، والموت.
ونبصر اغتصاب إسرائيل لعروضنا بحجّة السامية، وتمتع بلاد الشمال بإباحية هذا المشهد وتصفيقهم لـ "رجولة" المغتصب، فتنجلي أمامنا حقيقة كذبة حقوق الإنسان التي لا تطبق إلا بشرط ابيضاض بشرتك، وازرقاق عينيك، واشقرار شعرك.
أكان يجب علينا أن نتجنّب الجلوس في الشمس، ولبس العدسات اللاصقة، وصبغ شعرنا الداكن، ليؤمن المجتمع الدولية بحقنا بعيشة كريمة؟ وإن فعلنا ذلك، أما كانت "ضاضنا" ستكشف حقيقة سمارنا؟
نكبر فجأة وبلا إنذار ونبدأ بالتفكير. فنتساءل، ونفهم، ومن ثم نتساءل من جديد عن الذنب الذي اقترفناه لنولد كشرق أوسطيين. نتساءل إن كنا فعلياً نفضّل لو ولدنا بعيداً في بلاد أخرى باردة كناسها، فلا نسأل عن غيرنا، ولا نكترث لهم أو نفكر بهم، أو بمعضلة الخير والشر البشري، أوهل لو خيرونا فعلاً لكنا اخترنا أن نولد في سحر ودفء الشرق الأوسط، في المنتصف ما بين الزعتر والجبنة النابلسية والبرازق الشامية والصفيحة البعلبكية من جهة، وبارودة ومدفع وقذيفة من جهة أخرى؟ أكنا سنختار أن تعطر أروحنا بروح سيدة عجوز لم نلتقها من قبل، ولكنها قررت إجبارنا على أن نُهْدى مكدوساً "شغل دياتها" بحجّة إلقائنا عليها التحية يوم مرورنا صدفة في ضيعتها؟ فلو خيرونا، أكنا سنختار أن يصبغ حاضرنا بدماء الشهداء وركام الأبنية التي انهارت فوقهم أو بارود بندقية قتلتهم؟ أكنا سنختار الولادة بين نعمة ولعنة الشرق الأوسط؟
تقف في المنتصف، بين نعمة عجوزك ولعنتها وتحدق في عينيها، وتبقى واقفاً في المنتصف، لأنك شرق أوسطي... لأنك رجل المنتصف
ففعلياً، أن تكون شرق أوسطي، يعني أن تفتخر بانتمائك إلى بلاد كانت مهداً للحضارات، إلى بلاد شاخت ليكبر عالمنا اليوم. تفتخر، من ثم يبكيك الطفل العاق الذي هُزّ في ذلك المهد، فبطش بسرير طفولته عندما كبر. تبكي تلك العجوز التي أعطت من أرضها ودمها وروحها لتغذّي ذلك الطفل الذي قوي فنكر معروفها واستغلّ ضعفها، فبطش وتلاعب بمشاعر ناسها كما تحلوا لأهوائه المتغيرة بحجّة تلاعبية متعالية وهي "معرفته لمصلحتها".
أن تكون شرق أوسطي يعني أن تفتخر بكل الألوان التي صبغت بلادك وهويتك عبر العصور، وأن تبكي تدميرها مرة بعد أخرى، فتسقي دموعك كل مرّة إسمنت العمار، فتبنيها مرّة بعد أخرى... لتدمر أيضاً، فتبكي بفخر قدرتك الهائلة على التأقلم مع الصعاب. تبكي بفخر وتشتم طائر الفينيق الذي ما طلبت يوماً أن تشبهه.
أن تكون شرق أوسطي يعني أن يساكن الموت منزلك غصباً، فتهديه غرفة صغيرة معتمة انتشر فيها العفن. تفعل ذلك ظنّاً منك أن بفعلتك هذه، تنفيه إلى غير رجعة. ومن ثم تنتظر كل صباح جلوسه على طاولة المطبخ معك، وتنتظر أن يحضر لك فنجان قهوتك اليومي، فتحتسيه مرّاً، ليوقظك من غفوة الأمان إلى قلق خسارة أحبابك اليومي برصاصة طائشة، أو غارة.
أن تكون شرق أوسطي يعني أن تكون دوماً في تساءل وحيرة وازدواجية ما بين حب بلادك وكرهها... فتقف في المنتصف. ما بين موتك وموتهم وموتها، واغتيالك واغتيالهم واغتيالها، وشهيد فشهيد فشهيد... فتقف في المنتصف
أن تكون شرق أوسطي يعني أن تسافر إلى بلاد باردة هرباً من حرّ ولدت فيه، ومن المساكن اللئيم ذلك، فتفتح هناك هاتفك محاولاً إقناع الأجنبي بجمال ودفء بلادك، متناسياً الحروق التي لم تلتئم جراحها بعد، فتدعوه لزيارتها في الصيف القادم، حين تزورها أنت لتتأكد أن أهلك ما زالوا يكبرون وحدهم، والأرض العجوز والبيت الذي بدأ الغبار عملية احتلاله، فتغريه بما لذ وطاب، وتخبره عن الآثار والبحار والمغائر، لتلتقط في ملامحه الدهشة والانبهار، فتمتلئ بإحساس الفخر، لكونك ابن تلك العجوز التي طردتك لفقدانها القدرة الجسدية والنفسية على الاعتناء بك.
أن تكون شرق أوسطي يعني أن تتساءل يومياً عن منطقية لوم العجوز هذه، أوهل من الصحيح لوم من هَرأ الدهر جسده، فأركعه أمام من نفخ فيه القوة؟ أو ليس من المنطق أن على أبنائها الشباب أن يهتموا بها بدل أن يهربوا منها إلى بلاد تصغرها عمراً، فتطلب اهتماماً أقل؟
أن تكون شرق أوسطي يعني أن تكون دوماً في تساءل وحيرة وازدواجية ما بين حب بلادك وكرهها... فتقف في المنتصف. ما بين جمالها وقبحها... فتقف في المنتصف. ما بين نارها ودفئها... فتقف في المنتصف. ما بين هجرها وحُضنها... فتقف في المنتصف. ما بين عجزك وعجزها، وفخرك وقهرها... فتقف في المنتصف. ما بين موتك وموتهم وموتها، واغتيالك واغتيالهم واغتيالها، وشهيد فشهيد فشهيد... فتقف في المنتصف.
تقف في المنتصف، بين نعمة عجوزك ولعنتها وتحدق في عينيها، وتبقى واقفاً في المنتصف، لأنك شرق أوسطي... لأنك رجل المنتصف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 3 ساعاتtester.whitebeard@gmail.com
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 5 أيامحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم