ينتاب أغلب السوريين المقيمين في لبنان، والذين نزحوا إبان الحرب السورية، شعوراً حقيقياً وليس وهماً، أن ما يجري حولهم من أفعال الحرب البشعة التي تحصل في البلاد، قد عاشوها قبلاً بحذافيرها، مع اختلاف المكان ونوعية الصراع الحاصل في البلدين، حتى أن كل شيء يرونه أمامهم "ديجافو" فعلي، سبق لهم رؤيته في بلادهم بطرق مختلفة، وكأنهم الآن يعيشون الجزء الثاني منه في مكان آخر.
مشاهد النزوح
أبرز ما ميّزَ الحرب في البلدين هي مشاهد النزوح. تذكر الناس جيداً في سوريا كيف حملوا أغراضهم وهجروا ذكرياتهم ومدنهم متوجّهين نحو مناطق يُعتقَد أنها آمنة. كانوا متأملين بعودة قريبة، لكن ذلك لم يحصل حتى اليوم، وبقي الركام شاهداً على الحرب وأصحابها عالقون فيها بخيوط طويلة تمتد منها إلى مكان إقامتهم الجديد، في الداخل أو الخارج. بعضهم افترش الشوارع والحدائق والطرقات داخل البلاد، وآخرون لجأوا لخارجها في القوارب البحرية أو بطرق برية بحثاً عن حياة أفضل، لكنهم يتساءلون هل نحن سعداء حقاً؟
المشاهد تتكرّر اليوم في لبنان. أنظر إلى بيروت وهي مزدحمة بالناس، فهذه البلاد ضيقة المساحة، تلملم مهجّريها نحو مكانٍ يُعتَقَد أنه آمن. تختنق المساحة ازدحاماً واحتكاكاً بين النازحين. الجميع ينتظر أن تهدأ نار قلوبهم والنيران فوقهم. يدعو كثير منهم ألا يُقصَف المطار كي يسافروا من خلاله، والفرق الوحيد هنا هو أن اللبنانيين باستطاعتهم السفر إلى تركيا وقطر وبعض الدول الأخرى بدون فيزا، أما الجواز السفر السوري فهو مصنف على أنه الأسوأ في العالم، ويقول عنه بعض السوريين إنه "لا يستطيع إدخالنا حتى لبلادنا".
تذكر الناس جيداً في سوريا كيف حملوا أغراضهم وهجروا ذكرياتهم ومدنهم متوجّهين نحو مناطق يُعتقَد أنها آمنة. كانوا متأملين بعودة قريبة، لكن ذلك لم يحصل حتى اليوم، وبقي الركام شاهداً على الحرب وأصحابها
خراب المدن
ينظر اللبنانيون اليوم إلى مدنهم وقراهم وهي تقع أمامهم بالتدريج كأحجار الدومينو، البيوت، الآثار، الأحياء، كلها تحت التهديد والدمار. يبكي اللبنانيون حزناً على ما آلت إليه الأحوال، ينعون منزلاً أو أثراً أو ذكرى هدمتها الحرب، الجروح لا تندمل وتبقى نازفة في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت ومناطق أخرى.
في سوريا اختبرنا تلك المأساة، ونزفت الجروح حتى اليوم. كل رحلةٍ جميلة عشناها بين وادٍ أو غابة أو بستان أو مطعم أصبحت ذكرى أليمة حين نعرف أنها صارت حطاماً. لحقَ الخراب عدداً من أجمل المدن السورية، بعضنا شاهد الخراب بأم عينه، فبكى وهرب ونجا، وأخبرنا عن مدينة باتت حجارة، فنقول له: "الحمدلله على سلامتك، بالمال ولا بالأبدان"، كذلك يفعل اللبناني اليوم، ويقول: "المهم نحنا بخير وكلو بيرجع بيتعمّر".
بتنا أرقاماً
في كل اجتماع لمجلس الأمن، كان ينتظر السوريون أن تتوقف الحرب "بقدرة قادر"، أي بقرار، بمعجزة، بخَلاص، بأي شيء يُنهي هذا الكابوس، لكن تنكسر الآمال كل مرة على أعتاب عقوبات من هنا وڤيتو من هناك.
بعضنا صار شبه متأكد بأن طائرات الاستطلاع الإسرائيلية ترانا أكثر من الإله
فشلت الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وجميع المنظمات الدولية، في حماية أرواح السوريين من الإزهاق. قُتِل وفُقِد عشرات الآلاف، وباتت الصفحات السورية على وسائل التواصل مختصة أكثر بنشر النعوات وعدد شهداء اليوم وغداً وبعد غد. بتنا أرقاماً تحصيها نشرات الأخبار، حيث تستهل الخبر بعبارات مثل "بلغ عدد القتلى اليوم"، "بلغ عدد النازحين في تركيا"، "بلغ عدد المهاجرين السوريين في أوروبا"، فاقتصرت مهمة المنظمات الدولية على الإحصاء، والإدانة، والشجب، والاستنكار، والقلق، والدعوة إلى وضع حد للعنف.
في لبنان، ينتظر اللبنانيون وقف الحرب لإيقاف ما يجري من دمار، لكن يصمت المجتمع الدولي ويدعو لوقف العنف وإطلاق النار فقط، وكلها تبقى أقاويل بينما الناس يموتون في بيوتهم ويتشردون على الطرقات، لا يطيقون أن ينتظروا يوماً إضافياً في حين أن الكبار "يلهون" في المؤتمرات.
إصرار على الحياة
غريبةٌ باتت الحياة في سوريا بعد سنوات من اندلاع الحرب، مناطق يطالها الدمار وأخرى ملاصقة لها تعيش الحياة على طبيعتها. كان من الضروري بمكان ما التأقلم مع الواقع الجديد، لم تتوقف حياتنا، مدارسنا، عملنا، جامعاتنا، كلها بقيت مستمرة، نحمل أرواحنا على كفوفنا ونذهب خارج المنزل متأمّلين ألا ينفجر فينا شيء، أو ألا تسقط قذيفة مفاجئة فوق رؤوسنا.
رغم كل هذا وفي كل المناطق، كان للفرح مكان ضيق، الأعراس استمرّت "ع الضيّق"، السهرات استمرت "ع الضيّق"، اعياد الميلاد استمرت "ع الضيّق". نعبُر نحو لحظات نسلو فيها لننسى ما يحصل حولنا، رغم فقدان البلاد والمقربين منا، من راحلين أو مهاجرين، فالحياة أبشع وأجمل ما فيها أنها تستمر.
في لبنان، نحاول التماس الحياة في المناطق التي لم تطلها الحرب. أجدُ الناس منتشرين في المولات وأماكن السهر، محاولين نسيان ما يجري حولهم. هو ليس انفصال عن الواقع، بل محاولة لإثبات الوجود وإكمال الحياة أملاً بغد أفضل، بحياة لا يهدّدها رصاص ولا حرب أهلية ولا أحزاب متصارعة، بل فقط حياة كريمة طبيعية خالية من الموت، فهَلا تكرّمتم على السوريين واللبنانيين وسمحتم لهم بالحياة؟
بتنا أرقاماً تحصيها نشرات الأخبار، حيث تستهل الخبر بعبارات مثل "بلغ عدد القتلى اليوم"، "بلغ عدد النازحين في تركيا"، "بلغ عدد المهاجرين في أوروبا"، فاقتصرت مهمة المنظمات الدولية على الإحصاء، والإدانة، والشجب، والاستنكار، والقلق، والدعوة إلى وضع حد للعنف
الأمل والانتظار
لا نعرف كيف وُضِع في قلوبنا كل هذا الصبر، ربما هو اعتياد، إيمان أعمى، أو استسلام كلي للقدر، لأنه ما باليد حيلة أو وسيلة نفعلها أصلاً سوى الدعاء، أو ربما هو تفلّت من كل إيمان ونكران لوجود الإله نفسه، والتيقن من عدم سماعه لأدعيتنا كل هذه السنوات، حتى أن بعضنا صار شبه متأكد بأن طائرات الاستطلاع الإسرائيلية ترانا أكثر منه، لذا رسمنا فسحة أمل، كل شخص رسمها بطريقته وشرّع نافذة نحو مستقبل منشود، لا فاقد فيه ولا مفقود، نحو حياةٍ طبيعية عادلة لا يتخللها انكسار أو حدود، نحو شغفٍ أُطفِئ مليون مرة على مدار عقود، نحو رجاءٍ في أن ترانا الدول الكبرى على هذا الكوكب.
نحن في سوريا ولبنان ننتظر أملاً يأتي، ربما لا يأتي لكنه على الأقل يبقى مسكّناً للآلام، علّه يفضي إلى نتيجة ملموسة، توصلنا إلى خبز الغد، إلى انزياح الركام، إلى الأطفال الواقفين على تلال المجد وهم ينشدون نشيد بلادهم فخورين منتشين، إلى تلك البلاد التي ننظر إليها ونحبها حتى في خرابها الأخير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم