مدرسة في القاهرة كانت تدرس النشل (السرقة) وفنونه، اقتحمتها قوات الأمن عام 1944، ومن الأشياء المضبوطة فيها "عارضة أزياء" خشبية مغطاة بقطعة قماش وسترة تم خياطة عدة أجراس صغيرة عليها من الداخل.
يُدرّب "الطلاب" على إخراج المحفظة من جيب السترة الداخلي دون دق الأجراس، واستخدام "شفرة حلاقة" لقص الورق على سطح الماء في الحوض دون أن يبلل سطحها الخارجي.
هذا ما رواه عبد الوهاب بكر في كتاب "الجريمة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين: الشوارع الخلفية"، وهو ما استدعى لذاكرتي فيلم "جعلوني مجرماً"، بإخراج عاطف سالم (1954).
المعلمة دواهي
في هذا الفيلم، يلتقي الشاب السلطان (فريد شوقي) بالمعلمة "دواهي" التي تدير مدرسة لتعليم الأطفال فن النشل، ثم يعمل معها مدرساً لتعليم الأطفال هذه المهارة. ثم يدور حوار حول ذكرياته مع المعلم (المتوفى) الذي كان يدير مدرسة قديمة، تدرس فنون النشل، وهي المدرسة ذاتها التي تخرّج منها سلطان.
مدارس النشال لديها تخصصات.
مدارس النشال لديها تخصصات، مثل النقل والمخازن والدوائر الحكومية والحدائق والمستشفيات والشوارع والميادين، ولكل مجموعة طريقتها الخاصة، سواء النشل باليد أو باستخدام موسى الحلاقة. وبعد اجتياز التدريب، يرافق الطالب زميل ذو خبرة أو المعلم نفسه لتدريبه ميدانياً ثم يتخرج الطالب كنشال محترف.
في 26 يونيو/حزيران 1955، اقتحم رجال الأمن إحدى تلك المدارس في منطقة الدرب الأحمر، وهي متخصصة في نشل الركاب على خطوط الترام، يديرها شخص يُدعى عبد الحليم، ووجدوا داخلها "سبورة" كبيرة معلقة على الحائط، إضافة إلى بعض الملابس التنكرية، وعارضة أزياء خشبية تحتوي على أجراس، وهذه كلها من لوازم التدريب.
اعتاد "المدير" عبد الحليم أن يُدرس طلابه ساعتين كل يوم بعد العصر، وبعد الدرس النظري ينزل بهم إلى خط الترام 19 للتدريب العملي، حيث ينفذ عمليات النشل بنفسه أمامهم. وفي النهاية يقتصر دوره على جمع "إيراد" السرقة أو يقف بعيداً كحارس، فإن واجه أحدهم مأزقاً تدخل.
كانت لغجر تلك القرية قوانينهم الخاصة التي يلتزم بها الجميع، أهمها ألا يسرقوا بعضهم بعضاً، ويُحظر عليهم مصاهرة الفلاحين، ولا يسرقون الأخرس ولا الأعمى لأن إحساسهما أعلى
كان الشتاء هو الموسم المفضل للسرقة، إذ يتدثر الناس بالمعاطف والملابس الثقيلة ما يعوق إحساسهم بيد النشال، والمفارقة أن موسم الشتاء تنخفض فيه باقي الجرائم ذات الطابع الدموي مثل القتل والشروع في القتل. يفسر الدكتور حسن صادق الرصفاوي في كتاب "الإجرام والعقاب في مصر" ذلك بأن الناس في الشتاء أكثر هدوءاً وأقل انفعالاً، وبالتالي لا يقتلون، لكنهم يسعون إلى التماس الدفء وسط الزحام، ما ييسر عمليات السرقة.
يشهد يناير/ كانون الثاني انخفاض نسبة عمليات القتل، وارتفاعها في السرقة، أما في أغسطس/ آب الحار فتنعكس الآية، بحسب الكتاب.
تلميذ ثم مُؤسس
للنشالين الفضل في تطور مفهوم "التشكيل العصابي" كما نعرفه بالشكل الحالي، فلم تعد مهمة النشل مُقتصرة على شخص واحد، بل أصبحت تقوم على مجموعات، مثل طريقة "الثلاث ورقات"، ويرتكبها ثلاثة أشخاص، أحدهم يجلس على الطريق وفي يديه ثلاث ورقات، "الولد والبنت والشايب" ويلعب بها في خفة، مدعياً أن من يكشف الصورة يكسب مبلغاً مالياً، ثم يلتف حوله شركاؤه ويلعبون ويربحون حتى يقع أحد المتفرجين في الفخ ويخسر نقوده.
من هنا بدأ ظهور مفهوم "التشكيل العصابي"، المعروف باسمه حتى الآن لدى الأجهزة الأمنية.
وتطور الأمر لأن يصبح هناك "اتحاداً" للنشالين في القاهرة، كما نشرت "المصور" في سنة 1954، وكان عدد أعضاء الاتحاد نحو خمسة آلاف بينهم أربعة آلاف رجل وألف من النساء.
والطريف أن الاتحاد أرسل تهنئة لمحافظ القاهرة حينها بمناسبة تعيينه في المنصب.
وجذبت المتعلمين
النشال لا بد أن يتحلى بالذكاء الحاد، فهو المجرم الوحيد الذي يواجه ضحيته، ولا يفصل بينهما إلا سنتيمترات قليلة، والنشل هو الجريمة الوحيدة التي يتقمص فيها المجرم شخصيتين في نفس الوقت، ويقوم بدورين منفصلين، فهو يمارس السلوك العادي أثناء ارتكابه السرقة، بالإضافة إلى عملية النشل نفسها، كما يقول عبد الوهاب.
الشاب عطوة في فيلم "المحفظة معايا" تحول من شاب جامعي إلى نشال، قصته هذه تشبه قصة "المعتصم" التي رواها الصاغ سيف اليزل خليفة، عن شاب صعيدي من حملة التوجيهي (الثانوية)، ويدعى المعتصم.
لم يستطع المعتصم الالتحاق بالجامعة لظروفه المادية السيئة، فقرر امتهان النشل وكان بارعاً، ويحكي سيف اليزل أنه بعد القبض عليه تمكن من سرقة ساعة الضابط خلال التحقيق.
طريقة "الثلاث ورقات"، هي بداية ظاهرة "التشكيل العصابي"، ويرتكبها ثلاثة أشخاص، أحدهم يجلس على الطريق وفي يديه ثلاث ورقات، "الولد والبنت والشايب" ويلعب بها في خفة...
وإلى جانب البراعة، تفرض المهنة على مزاولها حُسن المظهر، إذ يدخل النشال وسط الطبقات الراقية في أماكن السهر وأمام شبابيك السينما، مرتدياً ملابس سوداء فاخرة مع ساعته والسلاسل الذهبية، وسُمي هذا النوع من النشل باسم "جيبسيه"، إذ يضع النشال يداً تحت المعطف، وهي التي يسرق بها، بينما يمد الأخرى من فوق رأس ضحيته إلى شباك التذاكر.
لذا طالبت المعلمة دواهي الشاب سلطان في فيلم "جعلوني مجرماً" أن يعتني بمظهره وهندامه، تمهيداً لوضعه وسط طبقات أعلى.
رغم ذلك تبقى جريمة النشل جريمة حضرية بامتياز لأن طابعها مادي، وتختلف عن طبيعة الجريمة في الريف إذ يغلب عليها العاطفة، خاصة في القرن الماضي، إذ كانت الهوة بين الريف والحضر شاسعة.
تعقيدات النشّال الريفي
في كتاب "النسخة النادرة من مذكرات توماس راسل حكمدار القاهرة 1902 / 1946"، يكتب راسل عن الفلاح المصري، بلغة تشوبها الاتهام والعنصرية، بأنه شخص مسالم وهادئ، يحترم القانون ويعمل بجدية ولديه إحساس عظيم بالفكاهة، وآخر شيء يمكن أن نتهمه به هو أن يكون مجرماً، لكن بعد أيام قليلة نكتشف تعقيدات هذه الشخصية الهادئة المسالمة، والتي قد تتحول في لمح البصر إلى قاتلة.
معظم جرائم الريف في النصف الأول من القرن الماضي يغلب عليها الطابع الانتقامي، كما تتسم ردود أفعال مرتكبيها بالسلبية، أي ميلهم إلى عدم الإبلاغ، ليس خشية من بطش الجاني، بل توجس من تعطيل مصلحة ذاتية، والنفور من بذل جهد ضئيل في أمر لا يهمه.
تخصصت نساء القرية في السرقات الخفيفة، والتزمت المحترفات منهن تدريب الأقل احترافاً، إذ تلتحق الفتاة بمدرسة النشل في سن السابعة لتتعلم سرقة الدواجن. وفي المرحلة الثانية من سن الـ15 حتى سن الـ20، تتعلم سرقة المواشي والدراجات والنشل
سجل توفيق الحكيم هذا السلوك في كتاب "يوميات نائب في الأرياف"، إذ يحكي قصة "بلاغ" أتاه في مكتبه عن جريمة قتل مزارع بطلق ناري مجهول، فأشار إلى نفسه بأن الأمر بسيط، ولن يستغرق الأمر ساعتين، لأن الضارب مجهول، والخفير النظامي- الذي سمع صوت العيار وذهب إليه متباطئاً وخائفاً- لم يجد سوى جثة، أما العمدة فسيزعم حالفاً بالطلاق أن القاتل ليس من أهالي المنطقة "الناحية"، بينما أهل الضحية لن يتحدثوا حتى يأخذوا بثأرهم، كما لم تكن معظم جرائمهم تُرتكب بأيديهم، بل بأيدي مجرمين آخرين يتم استئجارهم.
تطورت الأمور حتى باتت هناك تسعيرة مُحددة تعتمد على درجة خطورة الجناية، والحالة المادية للمستأجر، ومكانة الضحية، ودرجة إتقان الجريمة.
ولا يخلو الأمر من الطرافة. ذات مرة أشفق أحد المجرمين المحترفين على رجل ريفي لجأ إليه للانتقام، بعد أن شكا إليه بؤس حاله، فوعده المجرم "بقتل غريمه احتساباً لوجه الله" بلا مقابل.
أما من حافظوا على النشل، ثقافته وتقاليده، بين القرويين، فهم الغجر، وكانت مدارسهم في النشل ذات طبيعة خاصة.
غجريات قدمن من الجزيرة العربية
تقع قرية "طهواي" في محافظة الدقهلية المصرية، وهي قرية صغيرة لا يوجد اتصال بينها وبين القرى المجاورة، وسكنتها مجموعة من الغجر من نسل قبيلة "بلي" التي رحلت من جنوب الجزيرة العربية في أوائل القرن التاسع عشر.
طبيعة الغجر المعزولة خلعت عليهم سمات خاصة، ولهم في النشل حتى مدارس.
تخصصت نساء القرية في النشل، والتزمت المحترفات منهن تدريب الأقل احترافاً، إذ تلتحق الفتاة بمدرسة النشل في سن السابعة لتتعلم سرقة الدواجن. وفي المرحلة الثانية من سن الـ15 حتى سن الـ20، تتعلم الفتاة كيفية سرقة المواشي والدراجات والنشل.
كانت السرقة للنساء فقط، أما الرجال فيكتفون بالحماية ورعاية البيت، وقيمة الفتاة عندهم كانت تُقدر بقيمة ما تسرق.
ويورد حكمدار القاهرة توماس راسل في مذكراته أن غير قليل من نساء الغجر كن يبعن أنفسهن لكبار القوم، بينما يتنحى الزوج الخانع جانباً.
وكانت للغجر قوانينهم الخاصة التي يلتزم بها الجميع، أهمها ألا يسرقوا بعضهم بعضاً، كما لا يعودون بالمسروقات إلى القرية بل يجب عليهم تصريفها، أي يبيعونها قبل العودة، ويُحظر عليهم مصاهرة الفلاحين، ولا يسرقون الأخرس ولا الأعمى لأن إحساسهما أعلى، وكانت لهم مجالسهم العرفية الخاصة لفض منازعاتهم دون أن يتدخل في شؤونهم أحد من خارجهم.
لكنهم رغم ذلك كانوا مسالمين، ولا يدخل العنف في قاموس إجرامهم٫ بل أحياناً كانوا يساعدون الشرطة في الإرشاد إلى المسروقات.
"فن ضائع"
لا يستوي شخص يرفع علينا سكيناً ليسرقنا، وشخص آخر يرتكب الطعن ببراعة دون أن نشعر، لطالما حظي النشال بالإعجاب، ومجدته أفلام مثل Harry in Your Pocket الذي جسد الجاذبية الجنسية للنشال الكلاسيكي، والمفارقة أن بطل الفيلم "جيمس كوبيرن" تدرب على النشل استعداداً لدوره في الفيلم داخل مدرسة حقيقية للنشل في سياتل.
أما فيلم Heartbeat فقد صوّر النشال على أنه الرجل النبيل الذي يسعى لتعليم تلاميذه الرقيَّ، ونطقهم الإنكليزية بطريقة صحيحة.
والآن، لم يعد هناك نشالين بالشكل الذي اعتدناه، تلك الجريمة التي يعتبرها عالم الجريمة ماركوس فيلسون "فناً ضائعاً"، وربما بسبب تغير الأمور والتحول نحو أساليب أخرى تتماشى مع التطور التكنولوجي مثل عمليات النصب الإلكتروني والاحتيال وسرقات الهويات، وربما بسبب انهيار طابعها "المهني" الذي قامت عليه لقرون.رغم ذلك، تبقى صورة النشال "المسالم والذكي وسريع البديهة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...