قبل أن ينتقل هذا الشّعار إلى أفواه المتضامنين مع القضيّة الفلسطينيّة في مظاهرات المدن الغربيّة، ردّده الفلسطينيّون لعقود مضت حين قالوا: "من الميّة للميّة فلسطين عربيّة".
مع بدء حرب الإبادة الإسرائيليّة على قطاع غزّة، تعالت أصوات المتضامنين والمناهضين للإبادة بشكل غير مسبوق حول العالم، وهتفوا شعاراً بدا في واجهة الشعارات التي تمثل المرحلة: "من النهر إلى البحر… فلسطين حرّة".
وفي المقابل، تأججت الحملات الإسرائيلية والغربيّة الداعمة لإسرائيل، لمناهضة الشعار، متهمة مردديه بمعاداة السامية، والدعوة لإزالة دولة إسرائيل عن الخارطة ولإبادة الشعب اليهوديّ. وهي تفسيرات تشابهت مع التفسيرات "الشعبيّة" القديمة التي قالت إنّ مردّدي هذا الشعار يريدون "إلقاء اليهود في البحر".
الأمر الذي سبب في تصاعد العقوبات ضده المتضامنين وفي قوننة منعه من أن يترّدد في الشوارع والمظاهرات والأحداث السياسيّة.
هل تحوّل معنى الشّعار لدى الفلسطينيين؟
"الشعار بالنسبة إلي هو شعار متوارث، ردده جدي أثناء المسيرات إبان الانتفاضة الأولى. ثم رددته أنا في الانتفاضة الثانية، والآن يردده أولادي في المسيرات الداعمة لغزة"، هكذا تقول سوسن (اسم مستعار) من مدينة طولكرم لرصيف22.
وتؤكد أن عائلتها، لدى استخدامها الشعار نفسه في سياقات زمنية مختلفة، قصدت فيه عدة معاني. "ربما لا تشرح الشعارات المرحلة، بقدر ما تختزلها. قصد جدي تحرير كل الأراضي الفلسطينية، أما أنا، فقصدت فيه تحرير ما تبقى من أراضي عام 67".
يرجّح المؤرخون الفلسطينيون أن التأصيل التاريخي لشعار "من البحر إلى البحر" (البحر المتوسط غرباً ونهر الأردن شرقاً)، جاء تزامناً مع قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947. إذ ردده الفلسطينيون رفضاً للقرار وتأكيداً على الهوية التاريخية والجغرافية كوحدة متكاملة وغير قابلة للتجزئة.
"لم يكن الشعار حكراً على فصيل أو جهة بعينها. فقد تبنته حركة فتح مع انطلاقتها عام 1965 مستخدمة إياه ضمن خطاباتها بشكل ملحوظ"، يقول الباحث عبد الله نجار لرصيف22.
ويردف: "في المراحل الأولى من تأسيس حركة فتح، شكل الشعار أحد الأسس التي تعبر عن المبادئ التأسيسية للحركة، وكان جزءاً من خطابها العام خلال الحروب التي شاركت فيها مثل حرب الأيام الستة 1967، وحرب الكرامة 1968. وحرب أكتوبر 1973، وحصار بيروت 1982، كنوع من التأكيد على الرفض القاطع للاحتلال، والدعوة إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني، بما في ذلك المناطق التي احتلت عام 1948".
الشعار بالنسبة إلي هو شعار متوارث، ردده جدي أثناء المسيرات إبان الانتفاضة الأولى. ثم رددته أنا في الانتفاضة الثانية، والآن يردده أولادي في المسيرات الداعمة لغزة
ويستدرك نجار: "لكن مع تغيير الإستراتيجيات السياسية لحركة فتح، خاصة بعد اتفاق أوسلو، تراجع استخدام شعار "من النهر إلى البحر" في الخطاب الرسمي للحركة، في ظل دعمهم لحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967".
ثم ورثت حركة حماس الشعار في خطاباتها، فردده خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الذكرى 25 لانطلاقة الحركة، قائلاً: "فلسطين من بحرها لنهرها، من شمالها لجنوبها، هي أرضنا ووطننا الذي لا تنازل ولا تفريط بأي شبر أوو جزء منه. لا يمكن أن نعترف بشرعية احتلال فلسطين".
كما تبنته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيانها الختامي الصادر عن أعمال مؤتمرها الوطني الثامن، الذي أكد على "الخيار الاستراتيجي بتحرير فلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر، وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الوطني ".
"على الرغم من اختلاف التوجهات الحزبية حول ماهية حدود فلسطين المحررة، لا يزال الشعار حاضراً كروح تحررية قائمة، خاصة في المناسبات الوطنية"، يقول النجار.
ويضيف: "لا يحمل الشعار برنامجاً سياسياً بالضرورة، كحل الدولتين، أو حل الدولة الواحدة. بل هو تعبير فلسطيني عن التحرير والحرية والمساواة في ظل الاحتلال العسكري".
ماذا يعني للمتضامنين؟
تقول الناشطة الأمريكية تمارا (44 عاماً، اسم مستعار) من مصر وتعمل محاضرة في جامعة أمريكيّة ، والتي شاركت في المظاهرات المنددة بجرائم الإبادة في قطاع غزة، في حديثها لرصيف22: "نحن في الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة في بنسلفانيا، ما زلنا نستخدم الشعار على الرغم من الصعوبات والضغوط من حولنا، سواء من جامعات ومنظمات وجهات أخرى هنا تسعى إلى إخراس الشعار وتصويرنا كمعادين للسامية".
وتردف: "الشعار يعني لنا الطريقة الطبيعية التي يجب على العالم أن ينظر من خلالها إلى الحدود الطبيعية، وبالتالي إلى فلسطين وحدودها التاريخية عام 1948. بغض النظر عن الاتهامات، إلا أننا سنظلّ نقول ما نريد أن نقوله بكل اللغات".
لا يحمل الشعار برنامجاً سياسياً بالضرورة، كحل الدولتين، أو حل الدولة الواحدة. بل هو تعبير فلسطيني عن التحرير والحرية والمساواة في ظل الاحتلال العسكري
أما بالنسبة لحجة معاداة الشعار للسامية، فتقول لرصيف22 المتضامنة الأمريكية إيميلي (33 عاماً، اسم مستعار)، التي تستخدم العبارة في مظاهرات لمناهضة جرائم الإبادة في قطاع غزة: "بدأت أسمع هذا الشعار في نيويورك كثيراً في السنوات الأخيرة. والآن، تحاول إسرائيل إضفاء معانَ على الشعار، مختلفة عن الأصلية، لتقوم بتجميده بقولها إنه معاد للسامية. لكن الأمر ليس كذلك، فهو ينادي بالنضال التحرري الفلسطيني ويجسّد رؤية فوق الأرض".
ترعرعت إيميلي في كاليفورنيا لعائلة يهوديّة تصفها بأنها "ليست داعمة مطلقة لإسرائيل"، إلا أن "البيئة المحيطة مُشبعة بالبروباغندا الإسرائيلية وفيها الكثير من الجهل"، تقول.
وتضيف: "أدعو من خلال الشعار إلى أن يتعامل جميع البشر بعضهم مع بعض بكرامة وإنسانية، كما أدعو إلى عدم بإلحاق العنف والضرر بالآخرين (الفلسطينيين)، كرد فعل على حزننا كيهود وصدمتنا من العالم".
كيف رد الإسرائيليون عليه؟
ردًا على تبني الشعار شعبياً ورسمياً على المستوى الفلسطيني في فترة الستينيات، صرح مناحيم بيغن خلال حملته الانتخابية أنه ليس هناك "بين النهر والبحر مكان سوى لدولة إسرائيل".
كذلك، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في حملته، أنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية بين النهر والبحر، وتفاخر بأنه ضد قيام الدولة الفلسطينية.
أما على المستوى العالمي، فقد عمل اللوبي الصهيوني على إعداد حملات مناصرة رسمية وشعبية لمعاقبة كل من يستخدم الشعار لكونه "لا يعترف بوجود إسرائيل ويدعو للإبادة الجماعية ويروج لخطاب الكراهية والعنف تجاه الشعب اليهودي".
تاريخيًا، كان شعار "من النهر إلى البحر" أحد شعارات الحركة الصهيونية التصحيحية التي أسسها فلاديمير جابوتنسكي عام 1925 بقوله: "الأردن له ضفتان، هذه لنا والأخرى أيضاً لنا". وهو ما يعبر عن فكرة إنشاء دولة يهودية قد تمتد إلى ما وراء نهر الأردن وتضم أجزاءً من سوريا كذلك، وفقاً لما ذكره عمير بارتوف، الأستاذ المتخصص بالهولوكوست والتطهير العرقي في جامعة براون.
"بالنظر إلى التصريحات السياسية اللاحقة، وشعارات الأحزاب الإسرائيلية اليمينية، ترفض إسرائيل ترسيم حدودها تاركة الباب مفتوحاً أمام التوسع والتمدد والسيطرة والضم"، يقول الباحث في الشأن الإسرائيلي عزم أبو العدس لرصيف22.
ويكمل: "بالنسبة للشعار، لم يتقيد به اليمين الإسرائيلي. والشعار المرفوع "إيرتس يسرائل هشليما أي "أرض إسرائيل الكاملة"، ليس واضح المعالم والحدود. ويتغيّر من خريطة مفترضة إلى أخرى".
لكن يمكن فهم تلك الصورة جيداً بالنظر إلى الصورة التي رفعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأظهر فيها خارطة دولة إسرائيل، فلم تظهر فيها فلسطين البتة لا بحدودها التاريخية لعام 1948 ولا بحدودها لعام 1967.
عقوبات بعد السابع أكتوبر
تصاعدت العقوبات المفروضة على ترديد الشعار بشكل غير مسبوق بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تحت ذريعة "معاداة السامية". ونتيجة لتصاعد نشاط اللوبي الصهيوني في العالم، أدانت أمريكا وألمانيا والنمسا والتشييك وأستراليا وإستونيا وكندا وغيرها، مستخدمي الشعار وفرضت عقوبات عليهم من ضمنها رفض منح الجنسية، وفرض غرامات مالية على مردديه ومستخدميه عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
على سبيل المثال، تتخذ السلطة التنفيذية في ألمانيا إجراءات صارمة، كتفتيش الشقق والاعتقالات بشكل متزايد ضد الأصوات المؤيدة للفلسطينيين.
تقول المتضامنة إيزابيلا (54 عاماً، اسم مستعار) لرصيف22: "عندما أتيت إلى فرانكفورت وانضممت إلى مجموعة التضامن مع فلسطين، لم يسمح لنا بترديد الشعار، إذ حاولت الشرطة الألمانية اعتقال المتظاهرين الذين يهتفون به، بادعاء أنه يدعم للإرهاب. لكن في الوقت نفسه، هناك الكثير من القرارات التي أصدرها قضاة تقول إن هذا الشعار له تفسيرات عديدة، كما أننا لا نرى أنه من القانوني أن تمنع الشرطة ترديده".
في سبيل حظر الشعار على المستوى التشريعي، حاولت بعض الدول كألمانيا تنسيب الشعار لحركة حماس وحدها، لكي يتسنى لها حظر استخدامه باعتباره رمزاً لـ"منظمة إرهابية". لكن لا يرى الكثير من القانونيين تلك العقوبات قانونية.
فوفقاً لما نشره أستاذ في كلية الحقوق بجامعة كامبريج هينينج خان: "صحيح أن القانون الجنائي الألماني حظر استخدام أو توزيع رموز المنظمات غير الدستورية والإرهابية، مثل حماس، في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، إذ ينص القانون بشكل خاص على شعار "من النهر إلى البحر". لكن لا يوجد ما يثبت أن الشعار تابع لحركة حماس بالأساس".
وفي الولايات المتحدة، تعرضت النائبة الديمقراطية الفلسطينية الوحيدة في الكونغرس الأمريكي في مجلس النواب رشيدة طليب، إلى توبيخ بسبب استخدامها للشعار في مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي.
على الرغم من عدم حظر الشعار عبر منصات "ميتا"، فإنّها دائماً ما تُتهم بتقييد المحتوى الفلسطيني وانتهاك الحقوق الرقمية الخاصة بالفلسطينيين، وقد بلغ ذلك أوجه بعد السابع من أكتوبر. حيث رصدت أكثر من 5100 حالة رقابة رقميّة
وفي بريطانيا، تم تعليق عضوية النائب البارز في حزب العمال آندي ماكدونالد، بعد ترديد الشعار في تجمع.
ليست تلك المرات الأولى التي تفرض فيها عقوبات على مستخدمي الشعار، إذ تعرض الصحافي مارك لامونت هيل للإقالة، بحجة معاداة السامية، من وظيفته من قناة CNN بعد أن ألقى خطاباً في الأمم المتحدة عام 2018 يدعو فيه إلى "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر" وسط تصفيق حار في اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
ثم نشر الصحافي توضيحاً عبر صفحته قائلاً: "لم تكن إشارتي إلى "النهر إلى البحر" دعوة إلى تدمير أي شيء أو أي أحد، بل كانت دعوة إلى تحقيق العدالة، سواء في إسرائيل أو في الضفة الغربية وغزة".
"ميتا": "الشعار لا ينتهك سياساتنا"
بعد مطالبات إسرائيلية عالية المستوى لمجموعة "ميتا" من أجل حظر استخدام الشعار عبر منصاتها، اعتبر مجلس الإشراف التابع لها أن الاستخدام المستقل لعبارة "من النهر إلى البحر" لا ينتهك سياسات المحتوى الخاصة بالشركة، إذ لم يخالف قواعد "ميتا" بشأن خطاب الكراهية والعنف والتحريض أو المنظمات أو الأفراد الخطيرين، ولا ينبغي أن يؤدي إلى إزالة المنشور على منصاتها.
على الرغم من عدم حظر الشعار عبر منصات "ميتا"، فإنّها دائماً ما تُتهم بتقييد المحتوى الفلسطيني وانتهاك الحقوق الرقمية الخاصة بالفلسطينيين، وقد بلغ ذلك أوجه بعد السابع من أكتوبر. حيث رصدت أكثر من 5100 حالة رقابة رقميّة وانتشار للمحتوى "الضار" عبر منصتي "ميتا" و"إكس"، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى أيلول/ سبتمبر 2024.
وكشف تقرير لمركز "حملة"، أن بعض المنصات على الانترنت تجني أرباحاً مالية من خلال نشر محتوى إعلاني ضار وتحريضي. وذلك بعد اكتشاف أن منصة فيسبوك التابعة لشركة "ميتا"، نشرت إعلانات تدعو إلى اغتيال أفراد، والطرد القسري للفلسطينيين من الضفة وغيرها من الحملات التي تبرّر العقاب الجماعي للفلسطينيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم