ذاك الشعور بالملل يكاد يقتلني. كل من أعرفهم تقريباً غادروا خارج العاصمة بيروت. أحياناً أجد ذاتي وحيداً في ذات المقهى… لا ليس تماماً، هناك عيون ترافقني دائماً، عيون الزبائن المعتادين، الذين يأتون ويأخذون ذات الطلبات يومياً، كأنه بات جزءاً لا يتجزأ من مهامهم اليومية، مثل العمل.
قرّرت أن استجمع كل ما أوتيت من قوة، وأن أدخل الحمام تحضيراً للخروج من المنزل. وبالفعل، فرَّشتُ أسناني، غسلت وجهي، ثم سرّحت شعري. نعم بهذا الترتيب هكذا أتذكر.
وجاءت اللحظة الحاسمة. خرجت من المنزل بنجاح.
لم أشعر أن المطر يومها كان شاعرياً، فأنا أُستفزُ من إضفاء شيءٍ شاعري لشيءٍ طبيعي، لكن شمسيتي كان لها بعض الآراء الأخرى، وصولاً إلى شارع "الحمرا" الرئيسي في المساء.
كل الريح التي وجدتها هناك كانت تدور عبثاً، تريد أن تصبح عاصفةً في لحظةٍ ما. مثلنا تماماً. غصت في هذا المفهوم، بينما أتمشّى كأنني أملك الشارع بما فيه من مارةٍ ومحلاتٍ وسياراتٍ جميلة، ومقاهٍ بين الفينة والأخرى.
لم أشعر أن المطر يومها كان شاعرياً، فأنا أُستفزُ من إضفاء شيءٍ شاعري لشيءٍ طبيعي، لكن شمسيتي كان لها بعض الآراء الأخرى... مجاز
لم أجد شيئاً يقاطعني! سوى جدةٍ تتمشى مزهوةً ببنت ابنها، أي حفيدتها. تتحدثان معاً على ذات المستوى من الوعي، كأنهما صديقتان قديمتان مضى عليهما ما مضى من شؤون الأيام وحكايا الأحلام.
"شوفي يا زينب… هيدا شارع الحمرا": هكذا لسعت الجملة الأولى أذني مع صفعة البرد. زينب لم تتردّد، على صغر سنها، بأن تنهال على الجدة بوابلٍ من الأسئلة التي لم يُحصر لها إجابات.
وعليه بدوت مهتماً للغايةِ بمعرفةِ هذه الإجابات. التي لم تكن شافيةً في أغلبها.
السؤال الأول: "ليه اسمو شارع الحمرا؟ ما شايفة شي أحمر فيه".
الجدة وعلى مهل: "يا تيتا من وقت ما وعينا على هالدنيا وهوي إسمو هيك".
"شوفي يا زينب. هون في مسرح إسمو مسرح المدينة". هنا استطاعت الجدة أن تهدم كل ما بنيته من أحكامٍ مسبقة. خففت خطوتي قليلاً، بينما كانت زينب تمرّر بين أصابعها أحد خيطان فستانها الأخضر وتلهو به.
"هون كان يشتغل خالك علي! كان بهيدا المحل وكان يبعتلنا…"
تقاطع زينب الجدةَ بحماسة: "وينو علي. ليه ما عاد شفتو".
أبداً… الإجابة كانت كتلك الإجابة التي كنا نحصل عليها عندما نتساءل عن كيف أتينا إلى هذا العالم.
"بس تكبري بخبرك": ردّت الجدة.
تستمر زينب في تمرير ذلك الخيط بين أصابعها لمرحلةٍ استفزتني للغاية. لا أريد لهذا الفستان البلاء، مع أنه لا يعنيني على الإطلاق، لكن هناك رابطةً ما اشتعلت بيني وبينه وبين زينب.
تستمر الجدة بالحديث: "شوي ومنوصل على البيت"
"بس هيدا مش بيتنا": زينب معترضةً على هذا الكلام التي رأته فارغاً من معناه.
"ليه اسمو شارع الحمرا؟ ما شايفة شي أحمر فيه"
الجدة: "مبلى وين أهلك هوي بيتك".
تستمر الجدة في هدم ما أبنيه من الأحكام المسبقة وبدأت أكره هذا. وتقول لزينب: "كان في كتير ناس تجي تغني هون. في واحد لما كنت صبية كان يغني يا هويدا لك. بس نسيت اسمو"
وبدأت الجدة بالدندنة "يا هويدا لك يا هويدا لك". ولم يقطع تلك الأغنية سوى صوت قصفٍ إسرائيلي على منطقة "مارالياس" القريبة.
حملت الجدة زينب. وأسرعوا الخطوات. نظرت زينب إليَّ مباشرةً وتأملتني من الأسفل إلى الأعلى، كأنها تقول: "هل أنت بخير!"، أجبتها بذات اللغة: "المهم إنتي!"
افترقنا أنا وزينب والجدة والفستان والخيط المستفز! وصلت إلى المقهى. جلست على الكرسي، ثم وصل من سيأخذ طلبي. فسألته سؤالاً واحداً: "هلق شارع الحمرا ليه إسمو شارع الحمرا وما في شي أحمر فيه؟"
فتشت عن زينب والجدة والفستان والخيط والاجابات، وأردت أن أخبر الجدة لمَ سُمّي شارع الحمرا بهذا الاسم. لربما توقفت زينب عن كرِّ خيط فستانها. لكنني لم أجد أحداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم