منذ سنوات بعيدة، في مدينة برج العرب، تلقيت دعوة للوساطة في بيع ماكينات متهالكة. في كل مرة، كانت المتعة الحقيقية بعد التعارف والاتفاق على السعر، وتجاوز كل ممارسات التفاوض، هي أن ترى قطع الخردة وقد تجمّعت ودبّت فيها الروح من جديد. كانت رائحة الزيت تملأ المكان، وصوت المعدن وهو تحتك ببعضه يشبه أنيناً خافتاً كأنه يُنشد حياة جديدة. إنها لحظة غامرة وقوية، مهما كانت درجة رقة، أو صلافة، البائع والمشتري، وأيضاً الوسيط.
في تلك الفترة، أخبرني أحد العمال عن ماكينة قديمة لصناعة الورق والكرتون، ما زالت تقاوم الزمن بأعجوبة، كأنها أسطورة حية بين جدران المصنع. عمرها يتجاوز المائة عام من التشغيل، ومع ذلك، لا تزال تعمل بكامل كفاءتها. هل كانت هذه الآلة مجرد قطعة حديد، أم أنها تحمل روحاً تسكنها، كأنها قد تكون قد نفذت من مطرقة إله قديم؟
في كل مرة يُذكر اسمها، يبدأ العمال في سرد أساطيرها، كما لو كانت الماكينة نفسها تحمل سرّاً لا يُفصح عنه إلا لأولئك الذين يلمسونها. حكايات تبدأ جميعها بسردية بسيطة، تصلح تمهيداً لطفولة بطل أسطوري. في البداية، كانت الماكينة مجرّد مجموعة من الخردة المتناثرة في فيلدبيرغ، بلدة صغيرة في منطقة الغابة السوداء بجنوب ألمانيا، وبالصدفة، تم انتشالها من العدم وبيعها، ثم شحنها على إحدى السفن.
اكتشف أحد البحارة كنيتها، وأحضرها إلى ميناء الإسكندرية، حيث أعاد تجميعها من جديد، ثم عُيّن طاقم من المهندسين والأسطوات المخضرمين لإيجاد بدائل للقطع الناقصة، حتى أصبحت في هيئتها الحالية.
في السنوات الأولى من عمل الماكينة، مرّ صاحب المصنع بضائقة مالية شديدة، فقد ضخّ كل ما يملك في بناء المصنع، واضطرّ لدفع أجور العمال برزم الورق بدل النقود. هذه البداية أسست لعلاقة إنسانية تتجاوز حدود العمل إلى نوع من العيش المشترك. لم يعد الحديث عن "الأجور"، بل استُبدلت بكلمة "المصروف"، إذ كان صاحب المصنع يشمل العمال برعاية شاملة، ويتحمل مصاريف الزواج والتعليم كما لو كانوا شركاء حقيقيين في بناء المصنع، أما الترقيات، فكانت تُمنح وفقاً للتضحيات، حيث كان صاحب المصنع يُفضل ترقية من أصيبوا أثناء العمل، معتبراً أنهم جزء من بناء المصنع الحقيقي. بدأ الجميع يعتقد أن هذا التلاحم هو سر الوفرة؛ لم يعد الأمر يتعلق بالأجر أو الوقت، بل بالتضحيات.
في تسعينيات القرن الماضي، وبعد التشغيل التجريبي، أصبح لديها كتالوج يحتفظ به مدير المصنع، الذي كان معروفاً بارتباطه الشديد بالماكينة. رغم تجاوزه السبعين، لم يفوت يوماً دون المرور على كل جزء فيها، مضيفاً ملاحظات جديدة في الكتالوج. بعد زواج أبنائه، انتقل للسكن في فيلا قريبة من المصنع، ليكون في متناول اليد في أي وقت.
قالت زوجته إنه في ليلة وفاته استيقظ من حلم مفزع، وأخبرها برغبته في غسل إطارات سيارته بجوار الملاحات. في الصباح وجدوه قد فارق الحياة، ولم يُعثر على الكتالوج الذي كان يحتفظ به في سيارته. قال شاهد عيان إنه رآه يلقي بالكتالوج في مجرى الملاحات. هل كانت الماكينة "تستدعي" صاحبها؟ هل كان هناك شيء ما في الكتالوج يتجاوز مجرد الملاحظات الفنية؟
فيما بعد، أصبح تشغيل الماكينة أو التعامل مع أعطالها أمراً بالغ التعقيد. يتحدّث الجميع عنها بنفس الوهج كأنها المخلّص، وأحياناً باعتبارها الوحش الذي التهم العديد من الزملاء والمعلمين القدامى بعد رحيل مدير المصنع.
أصبح تشغيل الماكينة أو التعامل مع أعطالها أمراً بالغ التعقيد. يتحدّث الجميع عنها بنفس الوهج كأنها المخلّص، وأحياناً باعتبارها الوحش الذي التهم العديد من الزملاء والمعلمين القدامى بعد رحيل مدير المصنع... مجاز
الآلة الحية: من الخردة إلى الطقوس
بعد عدة مرات من المشي حول المصنع، وتحديداً حول الماكينة، حيث كان يمكنني أن أمشي مسافة طويلة بين مجموعة من العمارات، بينها ساحة للعب، حديقة ومحل خردوات، كان من الممتع الانصات إلى صوتها والتسلل لمراقبة أجزاء منها من فوق تموجات البخار التي تخرج من السلندرات. مدينة برج العرب، تلك النسخة الرمادية من الإسكندرية، تشعر وكأنها تحت تأثير ضباب دائم، كما لو أن السماء ذاتها قد أفرغت ما فيها من ألوان، تاركة الأرض في حالة من الشحوب الذي يختلف عن صخب المدينة الساحلية، خاصّة وأنها في الليل لا تفصل، بل تبقي أفرانها موقدة، كأنها مصابة بأرق لا نهاية له، تشعُّ ضوءاً شاحباً ينعكس على جدران المنازل المبنية من الإسمنت والحجر الباهت.
جاءت أخيراً اللحظة التي استطعت فيها السير بداخلها أثناء وردية الليل، وهو وقت مثالي لهذه التمشية بعيداً عن تعقيدات الطاقم الإداري للمصنع خلال النهار، وتعاملهم بحذر مع وسطاء البيع. للوهلة الأولى، كانت تبدو مثل حيوان نادر، محنّط أو شبه ميت، لا تستهويه الحركة. بدت كآلة تشيخ باستمرار وتصاب بالتآكل، ما جعل أجزاء منها تتساقط، وهو ما غيّر شكلها الأول مقارنة بما كان معروفاً عنها.
تقع الماكينة بارتفاع ثلاث طوابق، وتم تصميم ممرات ودرجات سلم تسمح للعمال بالوصول إلى جميع أجزائها. يبدأ كل شيء بإلقاء المخلفات الورقية في فم الماكينة عبر سير يشبه السلم أو المخبز الكهربائي. وبسبب عدم انتظام شكل المخلفات الورقية، خاصة تلك التي لا تتعرّض للكبس أو الضغط، تم تكليف مجموعة من العمال المساعدين، مهمتهم أن يتجمعوا عند فوهة الماكينة ليدفعوا بالمخلفات إلى داخلها. كان مشهداً مهيباً، يشبه تقديم الأضاحي إليها، حيث يتساقط الورق في فمها كقربان، يُحمل بشقّ الأنفس من قبل العمال الذين كانوا يبدون وكأنهم يشاركون في طقس قديم.
تمر المخلفات الورقية بعملية طويلة حتى تتحول إلى فرخ كبير من الورق. تبدأ بصناعة العجينة من المخلفات الورقية، ثم تصفيتها من الشوائب والمياه، ثم عصرها وفردها وأخيراً تجفيفها على عدة مراحل. تدفعك ببطء للمشي بداخلها، لأنك كلما تقدمت في المشي داخل الماكينة، تقترب من الشكل النهائي والمثالي للورق.
كان العاملون في المصنع يواجهون حالة من الحصار، لا يعرفون إن كانوا سيعودون إلى بيوتهم أم لا. كانت الماكينة، بالرغم من صمتها، الشريك الوحيد في عزلتهم، وبينما كانت أصوات الاشتباكات بعيدة، كان الصوت المعدني للآلة يزداد بروزاً في الفراغ... مجاز
ما بين الجسد والمعدن
كانت ساعات العمل في المصنع تمتد إلى الليل، والعاملون يلتفون حول الماكينة الوحيدة التي تملك كل شيء بالنسبة لهم. رغم قدمها، كانت لا تزال تصدح بأصواتها المعدنية وتعمل بلا توقف. كان كل عامل يعرف مكامن قوتها وضعفها، وكل عطل فيها كان يفرض حالة من الترقب والقلق. مع مرور الوقت، أصبح تفاعلهم معها غامضاً؛ كانت الماكينة شيئاً معقداً يصعب تفسيره، كأنها تتجاوب مع كل حركة يد أو نظرة، وتقاومهم في أوقات أخرى. البعض كان يروي حكايات عن اللحظات التي كانت فيها الماكينة تتوقف أو تستجيب ببطء، وكأنها تمتلك شخصية.
في الأيام التي تلت فرض حظر التجوال بعد اندلاع ثورة يناير 2011، التي شهدت تضحيات عظيمة في سبيل الحرية والعدالة، أصبح المصنع معزولاً، والطرق بين المدن خطراً. لا أحد يجرؤ على الخروج، والجماعات الإجرامية بدأت تسيطر على بعض المناطق، بينما كانت المطاردات تملأ الشوارع. كان العاملون في المصنع يواجهون حالة من الحصار، لا يعرفون إن كانوا سيعودون إلى بيوتهم أم لا. كانت الماكينة، بالرغم من صمتها، الشريك الوحيد في عزلتهم، وبينما كانت أصوات الاشتباكات بعيدة، كان الصوت المعدني للآلة يزداد بروزاً في الفراغ.
وفي إحدى المرات، بينما كان العامل يقترب من فم الماكينة، كان هناك شيء غير معتاد في تلك المرة. كان هذا النوع من الورق أكثر كثافة، وله ملمس رطب وغريب، كأنه يحاول مقاومة آلة السحق. كان الورق هذا يحمل بقايا الطعام التي يجلبها العمال، ويختلط فيها القليل من الدهون والمواد اللزجة. قبل أن يضطر العامل لإلقائه في فم الماكينة، كان يلاحظ كيف يلتقط الآخرون بقايا الطعام العالق في المخلفات، يأخذون منها دون تفكير. لكنه كان يرفض بشدة هذا التصرف، حيث كان يراه نوعاً من رمزية لانحلال شيء أكثر نقاءً.
كانت الماكينة في حالة استجابة بطيئة، وكأنها تفحص هذا النوع من الورق المتراكم ببطء، ترفضه شيئاً فشيئاً. ومع مقاومة الماكينة، كان هناك نوع من التحدي ينمو داخل العامل. شعر كما لو أن الماكينة كانت تحد من قدرته على التحكم في الأمور. فحين دفع بيديه المخلفات في فم الماكينة، شعرت الآلة وكأنها ترفض هضم هذا المزيج الفوضوي، فانسابت المخلفات فجأة لتسقط على ساقه.
لم تكن النتيجة مجرد فشل تقني؛ بسقوط المخلفات على ساقه، تسببت في كسر عميق تطلب إجراء جراحة دقيقة. أصبح الحديد جزءاً من جسده، حيث تم إدخال عامود من البلاتين بين عظام ساقه المكسورة، يلتف حول العظم في ثبات مرعب، كأنما هو جزء منه منذ الأزل. كان الطبيب قد ثبت الشريحة في عمق العظام بمسامير معدنية كبيرة، لكن الألم كان أقوى من أي وصف. شعرت العظام وكأنها تنحني تحت الضغط، بينما كان البلاتين يلتصق بهما بقوة، كأنما هو الوصل الأخير بين الجسد والمعدن. في تلك اللحظة، شعر وكأن الماكينة قد ألصقت نفسها به إلى الأبد.
من بعيد، في ورشته المظلمة التي تملؤها ألسنة اللهب والدخان، حيث كان الحديد ينصهر في الأتون، كان هيفايستوس، إله المخلوقات الميكانيكية، يراقب مثل باقي الآلهة في صمت، الحروب تعصف بالعالم والمدن تنهار تحت وطأتها، والناس يفرّون... مجاز
سنوات العزلة والضوضاء
في هذه الأيام، وبعد سنوات من العزلة والضوضاء الدائمة للمصنع، اكتشف المهندسون والأسطوات المخضرمون أمراً غريباً: تحرّكت الماكينة، لبضع سنتيمترات، من مكانها. بدا الأمر في البداية وكأنه حادث غير مفسّر، لكنهم سرعان ما أدركوا أن ذلك ليس غريباً من منظور الفيزياء؛ فالمعادلات التي تحكم المعدن وأجزاءه لا تأخذ بعين الاعتبار سوى القوة والوزن والحركة. ومع ذلك، كان التحرّك شيء غير عادي، شيء ينبع من أعماق الحديد نفسه، كأنما يحمل في جوفه طاقة قديمة تسعى للتحرّك، رغم السكون الظاهر.
كنت أطل من مصنع مهجور، لم يتبق منه سوي عامل البوفيه، أشرب القهوة وأتابع رجل عجان الورق، المسؤول عن تصفية المخلفات قبل عملية التدوير، يمل وحيداً في هذا الجزء من الماكينة. في فترة استراحته كان يقف ناظراً إلى الفراغ، يتحرّك في نقاط تبدو أنها تعني له شيئاً، بينما تتساقط من جسده قطع عجائن الورق، ومن بعيد، في ورشته المظلمة التي تملؤها ألسنة اللهب والدخان، حيث كان الحديد ينصهر في الأتون، كان هيفايستوس، إله المخلوقات الميكانيكية، يراقب مثل باقي الآلهة في صمت، الحروب تعصف بالعالم والمدن تنهار تحت وطأتها، والناس يفرّون.
ورغم كل هذا، كانت الماكينات تظل كما هي، صامتة ورافضة للحركة، كأنما هي جزء من فوضى أوسع، لا تملك حتى أن تتحمل عبئها. لكن الماكينات تتحرّك، حتى وإن كان ذلك بمقدار سنتيمترات كل دهر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم