الساعة الآن تشير إلى السابعة صباحاً بتوقيت بيروت بينما أنا أشد الرحال إلى العاصمة الأذربيجانية باكو للمشاركة في قمّة المناخ كوب29، أحمل مع أمتعتي الكثير من الأسئلة التي طالما راودتني حول البيئة والمناخ، والكثير من الخوف والقلق على بلدي لبنان، الذي يعيش أبشع أيامه تحت العدوان الإسرائيلي المتواصل والوحشي عليه.
لم أتخيل أن وصولي إلى المطار سيكون بهذه الصعوبة، ليس بسبب القصف الإسرائيلي المحاذي له، وإنما لما هو أشد وأفتك… رائحة البارود والمواد الناتجة عن القصف الإسرائيلي التي تلوّث الهواء وتخنق من يشمّه. لم أستطع التنفّس البتة، وضعت كمامة وأغلقت نوافذ السيارة، لأقي نفسي موادّّ أعرف جيداً مدى خطورتها على الصحة. وهنا سألت نفسي، ما قيمة مؤتمرات المناخ إن لم تمنع كياناً مثل إسرائيل من قتل البشر بكل الوسائل المتاحة؟ وما قيمتها إن أرخت الرباط عن دول تتباهى بتصنيع وبيع الأسلحة؟ أسئلة كثيرة حملتها معي من لبنان إلى أذربيجان، وحاولت في هذا التقرير أن أحصل على أجوبة مقنعة لها.
الحروب تفتك بالمناخ
وصلت إلى مقر القمة المناخية التي تنظمها الأمم المتحدة في باكو، لكن أجواء الصراعات والحروب لم تكن غائبة عن المحفل البيئي الكبير. حضرت العديد من الوقفات والحملات التي رفعت خلالها الشعارات المؤيدة لوقف الحروب ولا سيّما في الشرق الأوسط، وفي مقدّمتها الحرب الإسرائيلية على لبنان وفلسطين. وكذلك حلقات النقاش التي تناولت بشكل علمي الصلة ما بين الحروب والانبعاثات القاتلة التي تؤدّي إلى مزيد من الاحترار العالمي.
تقول المديرة التنفيذية في منظّمة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، غوى النكَت، لرصيف22، إن الحروب والصراعات المسلّحة ليست مجرد كارثة إنسانية واقتصادية فحسب، بل أيضاً تهديد كبير للبيئة والمناخ. وعلى الرغم من أن الحديث عن هذه العلاقة ما يزال مُهمشّاً، فإن الأدلةّ المتزايدة تُظهر أن النزاعات تُفاقم التغيّر المناخي بطرق مباشرة وغير مباشرة
وفي هذا السياق، تقول المديرة التنفيذية في منظّمة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، غوى النكَت، لرصيف22، إنّ الحروب والصراعات المسلّحة ليست مجرد كارثة إنسانية واقتصادية فحسب، بل أيضاً تهديد كبير للبيئة والمناخ. وتشرح: "على الرغم من أن الحديث عن هذه العلاقة ما يزال مُهمشّاً، فإن الأدلةّ المتزايدة تُظهر أن النزاعات تُفاقم التغيّر المناخي بطرق مباشرة وغير مباشرة، ما يجعل معالجة هذه القضية أكثر إلحاحاً من أيّ وقتٍ مضى".
وتلفت غوى إلى أنه العمليات العسكرية والحروب مسؤولة عن 5.5% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية، وتُساهم الآليات الحربية مثل الدبابات والطائرات والسفن بشكل كبير في زيادة هذه الانبعاثات بسبب استهلاكها الهائل للوقود الأحفوري، وهذا يعني أن القطاع العسكري يُعد واحداً من أهم القطاعات التي تُفاقم الاحترار العالمي، وفق مرصد الصراع والبيئة البريطاني وسبع منظمات دولية.
وفي تقدير أولي ضمن الحرب الإسرائيلية على غزة، قُدّرت الانبعاثات الكربونية بـ536.410 أطنان من ثاني أكسيد الكربون، في أول 120 يوماً من الحرب فقط، 90% منها ناتجة عن القصف الجوي والاجتياح البري. هذا الرقم يتجاوز البصمة الكربونية السنوية لعدد من الدول التي تُعاني من آثار التغيّر المناخي، بحسب ما تؤكده غوى.
كذلك، تلفت المديرة التنفيذية في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أن تداعيات الحروب لا تقتصر على الانبعاثات فقط، بل تؤدي أيضاً إلى تدمير مصارف الكربون الطبيعية مثل الغابات والأراضي الرطبة، وهي أنظمة بيئية حيويّة قادرة على امتصاص الكربون وتخزينه، مشدّدةً على أن إزالة الغابات وتدمير المواطن الطبيعية أثناء النزاعات يُطلقان كميات كبيرة من الكربون المخزن في الغلاف الجوي، بما يُساهم في تسريع الاحتباس الحراري.
وتُردف غوى: "الحروب تؤدي إلى شلل الجهود المبذولة لمعالجة التغيّر المناخي. فعلى سبيل المثال، الحرب والحصار في غزة يعيقان تنفيذ مشاريع التخفيف من آثار تغيّر المناخ أو التكيف معها، وهو ما يُفاقم معاناة السكان ويُضعف قدرتهم على الصمود. كذلك، تؤدي النزاعات إلى استنزاف الموارد المادية والبشرية التي كان من الممكن استثمارها في مبادرات بيئية، ما يجعل التحدّيات المناخية أكثر صعوبة".
من جهته، يقول لرصيف22 مدير إدارة شؤون البيئة والأرصاد الجوية في جامعة الدول العربية، الدكتور محمود فتح الله، إن خطورة الانبعاثات التي تنتج عن استخدام الأسلحة تتمثّل في أن بعضها مصنّف بأنها شديدة الخطورة على البيئة بشكل عام، وكلها مواد تؤدي إلى إضعاف ما يتم الحديث عنه حول خفض نسبة الانبعاثات، معرباً عن دهشته من الحديث المكرّر حول الحد من الانباعاثات في الوقت عينه الذي تقوم فيه بعض الدول بحرق مئات الأطنان من المتفجّرات التي تؤدي إلى تلويث البيئة بشكل كبير، وتدمير الموارد الطبيعية.
ويشدّد فتح الله على أن التنمية المستدامة لا يمكن أن تكون إلا بالالتزام بالشق البيئي أيضاً، "فإذا دمّرنا البيئة فلن تكون التنمية مستدامة ولن يكون هناك تنمية بالأصل".
العمليات العسكرية والحروب مسؤولة عن 5.5% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية، وتُساهم الآليات الحربية مثل الدبابات والطائرات والسفن بشكل كبير في زيادة هذه الانبعاثات بسبب استهلاكها الهائل للوقود الأحفوري، وهذا يعني أن القطاع العسكري يُعد واحداً من أهم القطاعات التي تُفاقم الاحترار العالمي
وكانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر ICRC قد حذّرت في تقرير حديث إلى خطورة استخدام الأسلحة على البيئة حيث أكّدت أن وجود الألغام الأرضيّة وبقايا الحرب من مواد متفجّرة، بالإضافة إلى المواد الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية أو النووية المنبعثة، لها تأثيرات طويلة الأمد على البيئة، الأمر الذي يؤثّر على التنوّع البيولوجي ويعطّل النظم البيئية، ويجوز أن يمتد هذا التلوث بالأسلحة أيضاً إلى مصادر المياه، ما يشكل خطراً على الصحة والزراعة.
في الأثناء، يقول لرصيف22 عضو فريق المفاوضين اللبنانيين في كوب29، الباحث البيئي داني العبيد: "تصنيع الأسلحة إلى لحظة استخدامها، هناك كميات هائلة من الانبعاثات السامة بالإضافة للغازات الدفيئة التي تنبعث بسبب إنتاج واستخدام الأسلحة".
وهو يضرب لذلك مثالاً بما يحصل في لبنان من "إبادة إسرائيلية" -على حد وصفه- من خلال الاستخدام المفرط للقنابل التي يتم استعمالها، والتي من المرجّح وجود مواد خطرة بانتظار انتهاء الحرب للتحقّق من طبيعتها، فضلاً عن الفوسفور الأبيض الذي استعمل بشكل مفرط، والذي يضر بالتربة والمزروعات والحياة البرية والطبيعة بكل مكوناتها.
من جهته، يعتبر رئيس برامج المناخ في الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، جوناثان ستون، في حديثه إلى رصيف22، أن القانون الإنساني الدولي يوضّح تماماً مدى خطورة استخدام الأسلحة على البيئة الطبيعية، والمواد 43 و44 و45 منه على وجه التحدّيد تؤكّد ذلك بشكل لا لبس فيه، لافتاً إلى أن أغلب المتضررين من الحروب والتغيّر المناخي هم الفقراء والمهمّشين.
سباق التسلح على حساب المناخ والبشرية
ومطلع عام 2024، نشرت شبكة "بي بي سي" البريطانية تقريراً أكدت فيه أن مبيعات الأسلحة الأمريكية للخارج سجّلت رقماً قياسياً عام 2023، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، حيث ارتفعت مبيعات الأسلحة الأمريكية للخارج إلى 238 مليار دولار، بزيادة 56% عن عام 2022.
هذا الإنفاق الهائل على الأسلحة يدعو إلى التساؤل حول مصداقية الدول التي تدعو إلى وقف الحروب في العالم بينما تنتج وتبيع الأسلحة المدمّرة، وفي الوقت عينه السؤال عن مصير البشرية جراء التنصّل من أو رفض توصيّات قمم المناخ وتحديداً اتفاقية باريس، وعدم الالتزام بالتعويض عن الأضرار الناجمة عن التغيّر المناخي.
ويلفت فتح الله إلى أن صناعة الأسلحة واستخدامها في العالم له أكثر من تأثير، بدايةً من الإنفاق على الأسلحة والذي يكون على حساب التنمية، فدول العالم تتحدّث منذ عام 2009 عن تمويل مشاريع تخفيف آثار تغيّر المناخ ومشاكل هذا التمويل، بينما هناك مليارات تنفق على صناعة الأسلحة.
وهو يفصّل: "نحن نطالب بـ100 مليار دولار سنوياً، وهناك مشكلة في تأمين هذا المبلغ بينما نرى أمريكا وأوروبا والغرب ينفقون مليارات على دعم الحرب في أوكرانيا ودعم إسرائيل. هم يتباطئون ويتملّصون من الإنفاق على مشروعات تنموية تفيد البشرية وتحميها، وطبعاً أصبح الحديث عن التنمية المستدامة وعدم ترك أحد خلف الركب يبدو ساذجاً وفي غير محله لأننا نسمع هذا الكلام من دول تموّل الحروب، ما يعني الدمار وترك الناس خلف الركب".
بدورها، تلفت رئيسة قسم المناخ والنزاعات في مركز المناخ التابع للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، كاتالينا جايمي، لرصيف22، إلى أنه من خلال ملايين المتطوعين الموجودين في الميدان إلى جانب المواطنين، يمكن رصد مآسي هؤلاء الذين تأثّروا بشكل كبير جدّاً بالحروب والنزاعات، والذين يعانون من آثار التغيّر المناخي حول العالم.
وتضيف جايمي: "في الوقت الحالي، هناك الملايين والملايين من السكان المتأثرين بأنواع مختلفة من النزاعات، مثل النزاعات الشديدة أو العنف أو الحروب، والتي تنعكس بشكل أساسي على الصحة، ولا سيّما الصحة النفسية، ثم الصحة البدنية. فالملايين من الناس يعانون من الألغام الأرضية أو الذخائر غير المنفجّرة. ومن هنا يمكن الدخول إلى الآثار الاقتصادية للحرب التي تقلّل الفرص والأعمال التجارية والتعليم. كل هذه النكبات يضاف إليها مسألة الكوارث الطبيعية، خاصة إذا ما أضفناها إلى مخاطر التغيّر المناخي، كموجات الحر أو الفيضانات أو الجفاف، كل هذا يؤدي إلى معاناة الملايين في العالم".
"ينبغي أن تكون هناك وقفة جادة مع الإنسان، ويجب على الدول أن تنفّذ القرارات الأممية التي تؤكّد على السلام والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان والبيئة والمساواة، وأن لا تبقى هذه القرارات شعارات وكلاماً إنشائيّاً إذ لو نفّذنا 10% من هذه القرارات لكان الوضع أفضل بكثير ممّا هو عليه اليوم"
الحروب تهدّد الكوكب… فما العمل؟
ويشير اللبناني داني العبيد إلى أن الأسلحة بجميع أنواعها مؤذية، من خلال الإنفاق على التسلّح، ومن خلال النتائج السلبية على البيئة التي يتسبب بها استخدامها، والتغيّر المناخي هو حرب أكبر بكثير من الحروب التي نتعرّض لها اليوم، ولسوء الحظ الناس تتسابق على حروب صغيرة تصرف عليها كميات كبيرة من الميزانيّات، عوضاً عن إنفاقها على البشرية لكي تبقى صامدة أمام التغيّر المناخي من خلال إيجاد آليات جديدة للبقاء على قيد الحياة، خاصّةً في ظل التغيّر بدرجات الحرارة.
لذلك، والحديث ما يزال للعبيد، هناك ضرورة كبرى بإيقاف الحروب اليوم، وإنفاق الأموال على مشاريع بيئيّة تخفّف من الانبعاثات، وعلى مشاريع تزيد من إنتاج الأراضي الزراعية وتزيد من المساحات الخضراء.
أما فتح الله، فيؤكّد على أن الإنفاق على صناعة الأسلحة وإشعال الحروب بدلاً من تعويض الأضرار البشرية سيؤدّي بشكل كبير جداً إلى زيادة الانبعاثات الكربونية، وبالتالى زيادة مشكلة الاحترار العالمي. ولذلك ينبغي أن تكون هناك وقفة جادة مع الإنسان، ويجب على الدول أن تنفّذ القرارات الأممية التي تؤكّد على السلام والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان والبيئة والمساواة، وأن لا تبقى هذه القرارات شعارات وكلاماً إنشائيّاً حيث أنه لو نفّذنا 10% من هذه القرارات فسيكون الوضع أفضل بكثير ممّا هو عليه اليوم، وفق المتحدّث.
"الحروب تؤدي إلى شلل الجهود المبذولة لمعالجة التغيّر المناخي. فالحرب والحصار في غزة مثلاً يعوقان تنفيذ مشاريع تخفيف آثار تغيّر المناخ أو التكيف معها، ما يُفاقم معاناة السكان ويُضعف قدرتهم على الصمود.".
بدوره يشدّد ستون على أنه لا يقترح "أنه من خلال معالجة المناخ ستعالج الصراعات، أو من خلال معالجة الصراعات ستعالج أزمة المناخ. ولكن ربما يكون الاثنان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً لأنهما نتاج الطبيعة البشرية، وبرأيي كلّما تمكّنا من إظهار اللطف والحياد والإنسانية والنزاهة، كلما كان العالم أفضل، وفيه الكثير من التعاون والسلام الدائم".
في غضون ذلك تؤكد غوى النكت على أن هذه التداعيّات المدمّرة تُظهر الحاجة الملحّة لدمج الاعتبارات البيئية في تقييم آثار الحرب وفي السياسات لمواجهة الحرب والتعافي بعد الحرب، والتركيز على إعادة التأهيل البيئي كجزء أساسي من تحقيق العدالة والاستدامة، فالحروب ليست مجرد أزمات إنسانية فحسب، بل هي كوارث بيئية تُهدد مستقبل الكوكب.
ختاماً، في الوقت الذي تتملّص فيه الدول الكبرى من دفع الأموال لصندوق التعويضات والأضرار، نراها تنفق المليارات على تصنيع وبيع وتكديس الأسلحة، وإشعال الحروب التي لا طائل منها، سوى تدمير البشرية واستنزاف ما تبقّى من كوكب الأرض، الأمر الذي يتهدد البشرية جمعاء مع كل النظم الإيكولوجية الموجودة فيه. فهل يخرج كوب29 بقرارات جديدة تضع قضية السلاح والحروب على سلم أولوياتها أم يكون كغيره من القمم المناخية السابقة، جعجعة بلا طحين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...