شغلت الحكايات النسائية مساحةً مميزةً من برنامج الدورة السابعة لمهرجان "الجونة" السينمائي (24 تشرين الأول/أكتوبر-1 تشرين الثاني/نوفمبر)، سواءً بحضور المرأة على الشاشة كمحور للأحداث تتشابك حولها خطوط السرد، أو من خلال جلوسها على مقعد المخرج تُعيد تشكيل العالم بعيونها. تنوعت المعالجات المطروحة والأساليب الفنية، لكن برزت ثيمة تجمع بين أفلام عدة تسلّط الضوء على تآزر النساء في مواجهة المحن والتحديات الصعبة، وكأنهن يسلّحن أنفسهنّ بتجاربهنّ المشتركة، ويفتحن أبواب الأمل لبعضهن البعض.
يتجلى هذا التضامن النسائي في أشرطة سينمائية من شتى أنحاء العالم، لكننا سنتوقف عند قصص قادمة من الشرق، تحكي عن نساء يتقاسمن الكثير من الهموم والأحلام، برغم اختلاف الجنسيات والانتماءات العقائدية والفكرية، ويتشابهن في مقاومتهنّ المستمرة ضد السلطة الأبوية.
"رفعت عيني للسما"... فتيات الصعيد يحلمن برغم القيود
ارتبطت الصورة الذهنية الأولى لهذا الفيلم بمشاهد لشابات مصريات يغنّين ويرقصن في الشوارع المحيطة بمهرجان "كان" السينمائي، احتفاءً بعمل يروي حكايتهنّ، تُوّج في نهاية المطاف بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ77. لكن خلف رحلتهنّ المذهلة من قرية صغيرة في محافظة المنيا إلى المدينة الساحلية الفرنسية، حكاية تمرّد وثّقها الثنائي ندى رياض وأيمن الأمير، على مدى 4 سنوات، ساعيين إلى استكشاف عالم قلّما توجهت نحوه الكاميرا باهتمام وإخلاص حقيقيين.
شغلت الحكايات النسائية مساحةً مميزةً من برنامج الدورة السابعة لمهرجان "الجونة" السينمائي، سواء بحضور المرأة على الشاشة كمحور للأحداث تتشابك حولها خطوط السرد، أو من خلال جلوسها على مقعد المخرج تُعيد تشكيل العالم بعيونها
تقع الحكاية في قلب صعيد مصر المهمّش، حول فتيات قبطيات نشأن في بيئة محافظة تفتقر إلى الكثير من الامتيازات التي تحتكرها العاصمة وبعض المدن الكبرى. وبرغم ذلك، أحببن الفن وأردن ممارسته للتعبير عن الذات وإحداث تغيير في الأوضاع الراهنة، فأسسن فرقة "بانوراما برشا" وقررن الانطلاق في الشوارع بآلات بدائية وإكسسوارات بسيطة لتقديم عروض مسرحية تتحدى في شكلها عادات وتقاليد المجتمع، وتطرح في مضمونها قضايا مثل التحرش والزواج المبكر وحق النساء في الحب واختيار شريك الحياة.
ينتمي "رفعت عيني للسما" إلى نوعية أفلام الـComing of age، التي تركّز على اكتشاف الذات والمرور بتجارب حياتية تساعد على فهم العالم ونضوج الشخصيات. ينجح المخرجان في تحديد أبطال حكايتهما، ومن بين المجموعة يختاران ثلاث فتيات هنّ: ماجدة، ومونيكا، وهايدي، لتتبّع مغامراتهنّ الشجاعة التي تصطدم حتماً بواقع الحياة، حيث تبدأ الفتيات محمّلات بأحلام لا حدود لها، مؤمنات بقدرتهنّ على تحقيق المستحيل معًا. لكن بمرور الوقت، يجدن أنفسهنّ محاصرات بقيود السلطة الأبوية التي تتخفى عادةً وراء ستار الحب والحماية، فيختبرن العزيمة وصدق الإرادة، وتصبح كل واحدة منهنّ مطالبةً باختيار مسارها؛ إما الرضوخ للمنظومة أو التشبث بالحلم، خاصةً في ضوء محدودية الواقع وسياقاته التي تعيق العثور على مسار ثالث.
تبدو الحكاية السينمائية في أبهى لحظاتها حين نتابع عفوية وشغف الفتيات وهن يحتمين ببعضهن أمام نظرات الاستهجان والكلمات المسيئة والتطاولات المستمرة في الشارع، فنراهنّ يواصلن الكتابة، والتدريب، وأداء العروض، متحديات كل الأفكار البالية التي تفرض على النساء نمط حياة معيّناً. وتتحول جلساتهنّ إلى فضاء للبوح عن جروح تركت آثارها في النفوس، وكوابيس أرّقت العيون في الليل، وأحلام بوصول فنهنّ إلى أبعد مكان، دون أن تخلو من خفّة دم وسخرية من الأقارب والمعارف الذين ينتقدون حبّهنّ للمسرح وسلوكياتهنّ السابحة عكس التيار. هذا الرابط العميق الذي يجمعهنّ، لا ينقطع حتى مع تغيّر المسارات؛ حيث تنشغل مونيكا بزواجها ومسؤولياتها، وتقرر هايدي الابتعاد عن الفرقة بإرغامٍ من خطيبها، بينما تحاول ماجدة ملاحقتهما واستقطابهما من جديد، وهي تتأرجح بين الغضب والتفهم للتحولات التي يعشنها جميعاً.
يحمل الفيلم لغةً شاعريةً وتأمليةً تتماهى مع حلمٍ يتطلع إلى عون الخالق ليصبح حقيقةً برغم الصعاب. بدايةً من اللقطات الافتتاحية التي تظهر فيها الفتيات يضحكن ويجرين في الحقول الخضراء وأمام مياه النيل الواسعة، مروراً بلقطات الحمام المحلّق في السماء، والحيوانات الحاضرة في أماكن التصوير كجزء من البيئة وشاهد مثلنا على الأحلام والإحباطات. ترصد الكاميرا تفاصيل البيوت البسيطة والوجوه المحملة بالقصص والطرقات المُهملة، بينما تأتي أصوات البنات وطبولهنّ مثل طاقة نور تبشّر بالأمل في حياة أفضل. هذه الحالة تستمر حتى مشهد النهاية المؤثر، مع ظهور جيل جديد من الصغيرات يحملن الراية ويواصلن الحلم.
وبرغم الهيمنة الذكورية التي تسود الواقع، لا يكتفي الفيلم بتقديم نماذج سلبية من الرجال مثل شقيق ماجدة، وخطيب هايدي، اللذين اتسمت أحاديثهما بالرجعية والافتعال أمام الكاميرا. في المقابل، يظهر والد هايدي، كمثال إيجابي لرجل منفتح يُقدّر الفنون، ويرفض انصياع ابنته لحبيبها وينصحها بعدم التخلّي عن حلمها ومواصلة التمرد والمغامرة. ففي النهاية، يرى صنّاع "رفعت عيني للسما"، أن دعم الرجال الأسوياء يُسهّل على النساء التحليق عالياً.
"شكرًا لأنك تحلم معنا"... التحايل على النظام البطريركي
كل ما حققته النساء من مكتسبات، كان ذات يومٍ حلماً بعيد المنال، تطلّب الكثير من النضال والمثابرة. لكن ماذا لو أن بعض الأحلام أصعب من غيرها، لكونها تصطدم بالقوانين البطريركية المتوارية خلف النصوص الدينية؟ هذا ما تطرحه المخرجة الفلسطينية ليلى عباس، في فيلمها الروائي "شكراً لأنك تحلم معنا"، الذي ينتقد قوانين المواريث المستمدة من الشريعة الإسلامية.
تغامر المخرجة في عملها الأول بتقديم حكاية جريئة تبتعد عن الطابع السياسي الذي يسيطر على غالبية الأفلام الفلسطينية، وتميل نحو الدراما الاجتماعية الممزوجة بالكوميديا. صحيح أن هناك إشارات متواصلة تعكس أثر المحتل على واقع أهل رام الله، إلا أن تفاصيل هذه الحكاية يمكن أن تُروى في أيّ من بلادنا الشرقية، بل تسهل ملاحظة تقارب حالته مع الفيلمين الأردنيين "بنات عبد الرحمن"، و"إن شالله ولد"، وإن تباينت المعالجات.
تدور الأحداث حول شقيقتين متباعدتين، لكن وفاة والدهما تدفعهما لتجاوز الخلافات والتخطيط معاً للتحايل على القانون الذي سيمنح أخيهما المهاجر نصف التركة، برغم عدم مشاركته في رعاية الأب في أثناء مرضه وغيابه عنهما لسنوات طويلة. تقترح نورا على أختها الكبرى مريم، إخفاء خبر الوفاة قليلاً حتى تتمكنا من الحصول على أمواله البنكية، وتنطلقان في مغامرة تتسابقان فيها مع الزمن لتحقيق غايتهما.
يُبرز الفيلم التباين بين الشقيقتين الأربعينيتين في مظهرهما الخارجي وخياراتهما الحياتية؛ ويكشف عن بواطنهما عبر حوارات تفضي أحياناً إلى مونولوجات قصيرة. مريم، ربّة المنزل ذات الملبس المحتشم، تركت دراستها بسبب مسؤوليات الزواج لكن حياتها لم تسِر كما تمنّت، حيث باتت عالقةً في دوامة من المهام المنزلية، يطوّقها شعور بالاختناق جراء خيانة زوجها وهموم تربية ابنيها. أما نورا صاحبة الطلّة اللافتة، فقد حلمت بالسفر إلى أمريكا، ولم تجد من يدعمها، وانتهى بها المطاف في وظيفة لا ترضي طموحها، وعلاقات عاطفية متخبطة لم تنقذها من أبيها الذي لم يكن سهل المعشر قبل المرض. تجمعهما خيبة الأمل، والضيق، والغضب المكتوم؛ تلك المشاعر المتوارثة بين نساء العائلة، ويلعب الرجال دوراً في ترسيخها. ومع ذلك، تقرر الأختان كسر الدائرة والبحث عن سبيل للنجاة، حتى لو تطلب الأمر القليل من المراوغة والتلاعب.
لكن السيناريو لا يحررهما بسهولة من قبضة الرجال، وإنما يدفعهما للبحث عن رجل ينتحل شخصية والدهما في أثناء المكالمة التي يجريها البنك قبل صرف المال. تنتج عن هذا مواجهات تشتبك مع النظام الأبوي الذي يمنح الرجال امتيازات أكثر من النساء، ويتيح لهم فرصة التنصل من المسؤوليات المادية التي تأتي معها، حيث تهاجم ليلى عباس بنهج مباشر قوانين عتيقةً لا تتناسب مع واقعنا، وإنما تسهم في إخضاع المرأة وكبح طموحاتها. وتختار في النهاية، أن تحقق بطلتاها حلمهما بدعم نسائي برغم السيطرة الذكورية.
يتمتع "شكراً لأنك تحلم معنا"، بفكرة جذابة تورطك من البداية مع خطة خطِرة، لكن تخفت الحماسة تدريجياً ويصير إيقاع الفيلم متخبطاً بسبب عدم التوازن بين الخطوط الفرعية والحبكة الأساسية، مثل الخط المتعلق بنجل مريم، المراهق صاحب الأسرار التي لا تعلم عنها شيئاً، حيث تنخرط في البحث عنه في سياق يكشف لنا عن معاناتها، لكن في الوقت نفسه يمثل عبئاً على الدراما. يستعيد الفيلم زخمه في المشاهد التي تجمع الأختين وحدهما، حيث نشهد توطد علاقتهما وتكامل جوانب ضعفهما وقوتهما، ودعمهما المتبادل عند الضرورة.
"بذرة التين المقدّس"... سقوط السلطة الأبوية
إذا كان الفيلمان السابقان يتحديان بعض الأطر المجتمعية والقوانين السائدة، فإن الفيلم الإيراني "بذرة التين المقدس" لمحمد رسولوف، يتجاوز ذلك، ثائراً على النظام البطريركي وممارساته المرسخة للقمع وكبت الحريات. والحقيقة أن جرأته لا تقتصر على نقد الوصاية المفروضة على هوية وأجساد النساء، وإنما تمتد أيضاً إلى كواليس صناعته الملهمة، التي تمّت بفريق عمل صغير وبسرّية شديدة، في ظل تربص السلطات الإيرانية بمخرجه واضطراره إلى الهروب أخيراً بعد الحكم عليه بالسجن لمدة 8 سنوات.
يسرد الفيلم حكاية أسرة تمرّ بلحظة فارقة عندما يُرقّى الأب إلى منصب محقق في المحاكم الثورية الإيرانية، على بعد خطوة واحدة من أن يصبح قاضياً. تأتي الوظيفة بامتيازات مادية تسعد زوجته، وتفرض التزامات على ابنتيه في مظهرهما وتعاملاتهما مع الآخرين. لكن التحول الذي تعيشه الأسرة، يكون جزءاً من تحوّل أكبر تشهده البلاد مع اندلاع انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية"، التي أشعلها مقتل الشابة "مهسا أميني" لعدم التزامها بمعايير الحجاب الإسلامي.
تمزج الحكاية بين أنواع سينمائية مختلفة تتضافر جميعها لتحكي سرديةً قاسيةً عن العنف والكراهية ضد النساء. ففي النصف الأول نشاهد دراما عائليةً تتداخل معها المادة الوثائقية للاحتجاجات التي تتعامل معها الشرطة بوحشية. يُصبح البيت هو مركز الأحداث الذي نرى من خلاله وقع ما يحدث في الشوارع على الأسرة، وتحديداً على الزوجة وابنتيها اللتين تجمعهما التكوينات البصرية باستمرار. فالزوجة متماهية مع أفكار زوجها الموالي للسلطة وقيمها الأبوية، أما البنتان المراهقتان، المتباينتان في طباعهما بين وضوح الكبرى ولؤم الصغرى، فإنهما متعاطفتان مع الانتفاضة وشعاراتها.
كل ما حققته النساء من مكتسبات، كان ذات يوم حلماً بعيد المنال، تطلّب الكثير من النضال والمثابرة. لكن ماذا لو أن بعض الأحلام أصعب من غيرها، لكونها تصطدم بالقوانين البطريركية المتوارية خلف النصوص الدينية؟
لكن الانتفاضة تجد طريقها إلى البيت مع إصابة صديقة الابنة الكبرى، وتصبح الزوجة عاجزةً عن رفض مساعدتها أو إخفاء مشاعر الشفقة نحوها. وفي مشهد مؤلم، نراها تجلس محتضنةً وجه الفتاة النازف، تلتقط منه الشظايا، وحولها بنتاها المتأثرتان من هول الحادث، في صورة حزينة عن تكاتف النساء. تزداد بعدها حدة المشاحنات داخل الأسرة، وتتأزم الأمور أكثر مع اختفاء سلاح الأب.
ننتقل في النصف الثاني من الفيلم، إلى أجواء غموض وإثارة تصل حدّ الرعب، وذلك مع ازدياد أعباء العمل على الأب وثقل شعوره بالذنب تجاه الأحكام المتسرعة التي يُصدرها ضد المحتجين. يؤدي اختفاء السلاح من البيت إلى إصابته بالذعر، ثم الانجراف تدريجياً نحو الجنون مستعداً لفعل أي شيء في مقابل الحفاظ على منصبه وسلطته. يصبح البيت مجازاً عن إيران نفسها، ولكي تنجو نساء الأسرة بحياتهنّ يجب أن يتّحدن معاً. هنا تبدأ الزوجة بمراجعة موقفها، خاصةً مع تلقّيها لوماً من ابنتيها بأن استسلامها الدائم هو ما أوصلهنّ إلى هذا الظلام.
في الجزء الأخير، يقودنا رسولوف إلى مطاردةٍ بين الأب ونسائه في متاهة خربة، بما تحمله من دلالة مباشرة على تداعي النظام، حيث تأخذ الأحداث منحنى خطيراً: إما هو أو هنّ، لا خيار ثالثاً في مواجهة هذا الجنون. تأتي النهاية مباشرةً وواضحةً على يد الابنة الصغرى التي تنتمي إلى جيل متمرد لا يصدق أكاذيب النظام وإعلامه، ولا يقبل بالسلطة الأبوية، وعليه، يجب إسقاطها نهائياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 ساعاتتم
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.