عشر سنوات من التردّد أمام كتابة هذه المدونة. أشعر بأن مشاعري تجاه هذه اللحظة أكبر من قدرة عقلي على صياغتها في كلمات، ربما سأكتبها لاحقاً، في شكل آخر، بوصف أدق، لكن وحتى ذلك الوقت، سأكتفي بهذه المدونة وأنا أقف بعيداً عن الحدث بعشر سنوات كاملة، وإن كنت لازلت أشعر أحياناً بأنه حدث أمس.
كان ديسمبر دوماً طيباً معي حتى تلك الليلة. فتحت تيليجرام لأرى رسالة من زميل في العمل: "أفنان، دكتورة رضوى توفت".
بدا الموت حدثاً عاماً حتى هذه اللحظة. عندما جاءتني الرسالة رفضت تصديقها لأول وهلة، ثم بكيت. بكيت بحرقة، وبغضب، كأني عقدت معها اتفاقاً ألا تموت الآن وخالفته. كانت مريضة، واستفحل المرض قبلها بشهور، مهّد لي الجميع ولم أصدق. "دفاعاتك أقوى مما تظنين"... ظللت أرددها كلما لمّح لي شخص أن أيامها صارت معدودة.
قرّرت بحسم الذهاب للجنازة، بدون تفكير، كأنه القرار الوحيد المنطقي. وصلت مع شقيقتي لمسجد "صلاح الدين" بالمنيل بجانب مستشفى القصر العيني، تتردّد كلمات أنها لازالت في المغسلة. أتردّد قليلاً أمام الفهم أنني واقفة أمام عتبة مغسلة الموتى، ورائحة الأوتوكلاف المعقم تخرج من أسفل عتبة الباب.
وقفنا بجوار "عمو مريد"، يبكي تارة، وينهنه تارة كطفل صغير. لا أتحدث إطلاقاً. عزته شقيقتي بينما نظرت له كأني أحاول الاحتفاظ بهذه الذكرى في رأسي للأبد، كأني أحاول أن أحتويها. ينظر لنا فجأة ثم يسأل: "أنتم اللي من بورسعيد؟ حكت لي عنكم كتير".
تعرض علي إحدى قريباتها إن كنت أريد أن ألقي نظرة الوداع على الجثمان قبل تكفينه. أرفض، لا أريد أن تكون هذه آخر صورها في ذاكرتي.
جاء المعزّون من كل حدب وصوب. من كل الطوائف، من كل المعتقدات والأديان. البعض يقرأ القرآن ويبكي، والبعض يدندن أغاني الشيخ إمام. الكل يبكي بحرقة، بصدق. هذا الميت ميتهم. هذا الميت ميت الجميع.
ظللت لأعوام أغيّر صورتي الشخصية على الفيسبوك لصورتها وهي تضحك، ترتدي قميصاً مشجّراً وتمسك فنجان قهوة بيدها في مكتبها. في مرة سألتني إحدى الفتيات من الجامعة: "والدتك؟"، أجبت: "حاجة زي كده"
تتفاجأ إحدى المصليات في مصلى النساء بهذا العدد من المعزيات اللاتي يبكين جميعاً، تسألنا: "هي دي مين؟ مامتكم كلكم؟"، بينما تجيب أختي: "أستاذتنا".
تتأثر السيدة وهي لازالت تنظر حولها متفاجئة: "ربنا يرحمها."
أعود بمفردي للمنزل في بورسعيد. لا أتذكر من رحلة العودة إلا موقعي جانب الشباك في الأتوبيس، لا أتذكر شيئاً عن الأغاني التي سمعتها ولا عن المحيطين بي. ولكني أتذكر رحلة الذهاب جيداً، والمراهقين اللذين جلسا خلفي أنا وشقيقتي، وقرّرا تشغيل أغاني مهرجانات عالية الصوت جداً من هاتف صيني ذي صوت رديء.
ظللت لأعوام أغيّر صورتي الشخصية على الفيسبوك لصورتها وهي تضحك، ترتدي قميصاً مشجّراً وتمسك فنجان قهوة بيدها في مكتبها. في مرة سألتني إحدى الفتيات من الجامعة: "والدتك؟"، أجبت: "حاجة زي كده."
ظللت أتهرّب من التحدّث عنها لشخص غريب، وشرح كيف شعوري تجاه موتها أنه حدث خاص، وأنه أخصّ الميتات في حياتي حتى ذلك الوقت، كي لا أتعرض لنظرات الاستغراب. وحدهم عائلتي وأصدقائي المقربون تفهموا حدادي وحزني. سألوا عني بعضهم البعض وعن حالي كما لم يفعلوا بعد موت جدتي: "هي أفنان كويسة؟".
انتهت الندوة قبل أن أصل لمريد، وقبل أن أوقّع أياً من الأعداد، ولم أقابله مرة أخرى لأنه سافر بعد ساعات لخارج مصر ولم يعد مرة أخرى. بقيت كتبها عندي، بيضاء، نظيفة، بدون توقيع، كما بقيت مفكرة خضراء اللون اشتريتها من "فرع الشروق" 2011، أثناء حضور حفل توقيع الطبعة الثانية من "الطنطورية"، فوقّعتها لي بالكثير من التمنّي بمصر تليق بي وحضن كبير، مع صورة غير واضحة تماماً لي، جالسة بقربها، مبتسمة بخجل، وأنتظر أن تنهي توقيعها لي.
لا أذكر تماماً عدد المرات التي قبَّلتني فيها واحتفت بي يومها لكوني في السادسة عشر وأقرأ "فرج". لم تعلّم أبداً أن "فرج" لا يزال كتابي المفضل بعد كل هذه السنين، وبعد كل هذه الكتب العظيمة التي قرأتها بعده. لم تعرف أبداً أنني في لحظات كثيرة من التوتر أو القلق، وفي حاجتي لنوع من الطمأنينة كنت أتجه مباشرة لفصل "الرسالة الناقصة"، وأقرأ ما كتبته مادلين لابنتها ندى ولم تكتشفه سوى بعد وفاتها.
يظل الجميع يردّد 30 نوفمبر 2014، بينما هو بالنسبة لي 1 ديسمبر. تلقيت الرسالة بعد منتصف الليل، حضرت الجنازة في اليوم التالي. رفضت تصديق أنها ربما غادرت قبل أن أعرف بساعة أو ساعتين، والآن مرّت عشر سنوات
كندى عبد القادر، أبحث بنفس النهم وسط مقالاتها المجمّعة في كتاب منشور باسم "لكل المقهورين أجنحة، الأستاذة تتكلم". أتوقف أمام مقال "جنازة نجيب محفوظ" وهي تحكي عندما قرّرت أن تذهب للجنازة، التي، وبسبب مكانة محفوظ العالمية، حضرها الرئيس والحاشية وسُئل الجمهور العادي عن دعاوي الحضور!
كتبت رضوى هذا المقال مباشرة بعد وفاة نجيب، وتنبأت فيها بجنازتها قبل ثمانية عشر عاماً من موعدها الحقيقي: "أما أنا فوجدت نفسي أردّد في ارتياح مفاجيء: الحمد لله أنني لا أحظى بشهرة واسعة، ولم ولن أحصل على جائزة نوبل، ولن يضع الإعلام قبل اسمي عبارة (الكاتبة العالمية) حتى لا تنقض الحكومة عليّ وتكتم أنفاسي حتى بعد موتي. أي نعمة ألا تكون نجماً لامعاً في مصر في هذا الزمان. وإن كانت الحكومة تكتم أنفاسي وأنا حية فعلى الأقل حين أموت ستتركني وشأني، ولن تقيم لي جنازة شعبية لا يشارك فيها أحد،ثم تنقلني إلى جنازة رسمية فيصلي عليّ الضباط دون أهلي وناسي. علي أن أكون شديدة الحرص من الآن فصاعداً فلا أنجز إلا في حدود، وألا أشتهر أكثر مما يجب فيصيبني ما أصاب نجيب محفوظ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم
Tester WhiteBeard -
منذ أسبوعtester.whitebeard@gmail.com