في لحظاتٍ يتناثر فيها الحطام، وتصرخ السماء بصوت القذائف والانفجارات، يغيب الأمل وتضيع البسمة بين آلام الدماء، لكن وسط هذا الظلام الدامس، حيث يسود الخوف وتختنق الأنفاس، ينبض قلبان معاً في تحدٍّ صامت، ويصارعان الموت بالحياة والعتمة بالنور.
ثورة داخل القلب
الحبّ في زمن الحرب ليس مجرّد شعور عابر، بل هو ثورة داخل القلب، ونضال ضد الألم والدمار، وأحياناً هو كل ما تبقّى.
في خضم العدوان الإسرائيلي على لبنان، هناك من اختار أن يخوض معركةً من نوع آخر: معركة الأمل.
علي الربعة، شاب في مقتبل العمر، يعيش في مدينةٍ لا تعرف سوى صوت الرصاص والانفجارات. كان يستفيق، كل صباح، على صوت الصواريخ التي تدّمر الضاحية الجنوبية لبيروت. وكانت الحرب قد أخذت كل شيء منه: الأمان، المنازل، وحتى الأصدقاء، لكنها لم تأخذ منه شيئاً واحداً: "الحبّ"، الذي يستطيع وحده أن يروي الأرواح الجافّة، ويُعيد الأمل إلى القلوب التي كاد يقتلها الخوف.
الحبّ في زمن الحرب ليس مجرّد شعور عابر، بل هو ثورة داخل القلب، ونضال ضد الألم والدمار، وأحياناً هو كل ما تبقّى
وفي لحظة من اللحظات، كان عليّ يعيش يومه وهو يحمل في قلبه حلماً واحداً: أن يكتب كتابه على خطيبته، ليجعل منها شريكته رسميّاً في الحياة، برغم أن كل شيء حوله كان ينهار. وفي أحد الأيام، حين توقّفت القذائف مؤقتاً، وهدأت السماء ولو قليلاً، اختار أن يذهب إلى منزل عائلتها برغم الخوف الذي كان يعتصر قلبه. كان يقود خطواته بنيّة واحدة: أن يواجه الحاضر ويخطط للمستقبل، مهما كانت الظروف.
وصل أخيراً إلى منزلها ومعه الشيخ لتوثيق زواجهما، حيث كان الهواء مشبعاً بالغبار، وكل شيء حولهم كان يلفّه الحزن. جلست روى، بجانب عليّ في زاوية صغيرة من منزل عائلتها في منطقة الأوزاعي في ضاحية بيروت: "بينما كانت أصوات الطائرات والقصف تعلو في السماء، كان الإيمان بالحب هو ما جمعنا في هذه اللحظة"، وفق ما تقول العروس روى، لرصيف22.
وتضيف: "أعلم أن البعض قد يتساءل: كيف يمكن لعروسٍ أن تحتفل في زمنٍ كهذا؟ كيف يمكن للفرح أن يزهر وسط الخراب؟ الحقيقة أن الفرح اليوم ليس كما كنا نتصوّره. لكن عقد قراني ليس مجرّد ورقة، وليس مجرّد احتفال كما كان متوقعاً، بل هو نوع من الصبر والمقاومة. فبينما يعصف القصف بكل شيء، ما زلتُ أؤمن بأن لدينا الحق في أن نعيش، وأن نحب وأن نلتزم ببعضنا البعض. ومهما طالت الحرب فإنها لن تهزمنا، ولن تأخذ منّا ما نحن فيه الآن".
لطالما حلمت روى بيومها الخاص مع حبيبها. كانت قد تخيّلت كل التفاصيل: الزهور، الضحكات والحلم بالزواج الذي سيبدأ في قاعة مليئة بالفرح. ولكن الحرب، التي اجتاحت حياتها بشكل مفاجئ، سلبت منها كل شيء: "كنت دائماً أحلم بذلك اليوم... حتى أنني كنتُ أضع خططاً لتجهيز منزلي، من اختيار الأثاث إلى تنسيق الألوان، كما لو أنني أعدّ لمستقبل سعيد. لكن الآن، كل شيء تغيّر. فاليوم، لم أعد قادرةً على تصوّر هذا كله، لذلك قرّرت أن أتوقّف عن تجهيز البيت، فكيف يمكن أن تبني شيئاً في عالم يتداعى من حولك؟ كيف يمكن أن تملأ جدراناً بالألوان بينما لا تعرف ما إذا كانت هذه الجدران ستبقى في مكانها غداً؟".
"هنتجوّز يعني هنتجوّز"
"لو ضربتونا بصواريخ، هنتجوّز يعني هنتجوّز، والخراب مش هيوقفنا"؛ جملةٌ ردّدها محمد هنيدي في فيلمه "معسكر في المعسكر"، وطبّقتها ريما شباطي وزوجها محمد خليل، فعلياً في لبنان. فعلى وقع الدمار وصوت الصواريخ والانفجارات الإسرائيلية التي كانت تُحاصرهما من كل جانب، قررت ريما وزوجها تحدّي الحرب بالحب والقفص الذهبي. وعندما جاء يوم الزفاف، اختار محمد أن يأخذ ريما بفستانها الأبيض الذي لا يتناسب مع كل ما يحيط بهما، إلى مكان التصوير في وسط بيروت. كان الطريق طويلاً ومليئاً بالمخاطر: غارات حولهما، وتحذيرات إسرائيلية بالإخلاء... لكنهما وصلا في النهاية.
"بينما كانت أصوات الطائرات والقصف تعلو في السماء، كان الإيمان بالحب هو ما جمعنا في هذه اللحظة"
"كنتُ أشعر وكأنني في حلم، أو ربما في كابوس"، هذا ما عاشته ريما في ذلك اليوم، وفق ما تروي لرصيف22.
وتضيف: "ربما تكون الغارات قد حوّلت هذا اليوم إلى جحيم، لكننا اخترنا أن نعيش في لحظة الحقيقة، وأن نحتفظ بتلك الذكرى برغم كل شيء. في فستاني الأبيض، وعلى أنقاض مدينتنا، كان حبنا أقوى من الحرب. وبينما كنّا نلتقط الصور وسط الحطام، ابتسمتُ لأنني أدركت أن هذه اللحظة، برغم قساوتها، كانت لحظة انتصار. انتصار على الحرب والخوف. كانت ابتسامتي تحديّاً لكل ما كان يحدث حولنا، ورسالةً إلى العدو والعالم بأننا لن نتوقّف عن الحياة، مهما كانت الظروف".
الحب ينتصر
كل عروس في لبنان لها حكاية قد تكون موجعةً، لكن الحب ينتصر فيها في النهاية. مثال على ما سبق قصة الشابة سارة التي لم تكن قد تخيّلت يوماً أن حياتها ستسير بهذا الاتجاه.
كانت قد أعدّت نفسها لحياةٍ جديدة مع أحمد، خطيبها الذي كان ينتظرها على بُعد آلاف الأميال. كانا قد قرّرا الزواج في يوم قريب، وأعدّت فستان الزفاف الذي لطالما حلمت به، ورتّبت جميع التفاصيل الصغيرة التي ستجعل هذا اليوم مثالياً. لكن الحرب، كما هو الحال دائماً، كانت أقوى من أي حلم. فنزحت مع أسرتها من بلدة عين قانا، إحدى قرى قضاء النبطية، وتركت خلفها بيتها، وأثاثها، وذكرياتها، وكل شيء كان يُحاكي حياتها التي كانت ستبدأ مع أحمد.
وحين دقّت ساعة الرحيل، لم يكن هناك وقت للترتيب، ولا لفحص الأوراق الثبوتية، فرحلت مسرعةً، تاركةً خلفها حتى الأوراق الرسمية التي كانت بالنسبة لها مجرّد ترف في لحظة النجاة.
"في فستاني الأبيض، وعلى أنقاض مدينتنا، كان حبنا أقوى من الحرب. وبينما كنّا نلتقط الصور وسط الحطام، ابتسمتُ لأنني أدركت أن هذه اللحظة، برغم قساوتها، كانت لحظة انتصار. انتصار على الحرب والخوف. كانت ابتسامتي تحديّاً لكل ما كان يحدث حولنا، ورسالةً إلى العدو والعالم بأننا لن نتوقّف عن الحياة، مهما كانت الظروف"
شقيقتها "أمل"، تكشف لرصيف22، عن معاناة سارة حتى وصلت إلى أحمد في إفريقيا. تقول: "في اليوم الذي كان من المفترض أن تُعقد فيه قرانها على أحمد، لم يكن هناك حفل كما توقعت، ولا استقبال حار من الأهل والأصدقاء، ولا مكان جديد يبدآن فيه حياتهما معاً. عُقد القران في منزل ليس منزلها وعبر الإنترنت. لم تكن قد أعدّت تجهيزات العروس التي لطالما حلمت بها، ولم يكن هناك زهور أو ضيوف. كان كل شيء مُختصراً إلى أقصى درجة، وكل ما كان يحيط بها هو الصوت المتواصل للغارات التي تدوي في الخارج".
ورغم ذلك كان أحمد هناك في قارة أخرى، حاضراً ويبتسم، وإن عبر الشاشة. فعلى الرغم من المسافة، كان صوته يصلها بوضوح، كأنما يهمس في أذنيها: "سأنتظركِ، مهما طال الزمن."
وفعلاً، وصلت سارة إلى أحمد، لكن "بطلوع الروح" وفق تعبير شقيقتها أمل: "فقد عانت حتى حصلت على بدائل لأوراقها المفقودة، وعندما حصلت على جواز السفر، تعرّض محيط مطار رفيق الحريري لبيروت لقصف إسرائيلي ما أثرّ على حركة الطيران، وعلى دقات قلبها وأعصابها".
التحديات العاطفية في أثناء الحرب
خلال الحرب، يمرّ الأفراد بتجارب مشحونة بالعديد من المشاعر المتناقضة والتحديات الصعبة. فالحب في زمن الحرب يصبح تحدياً نفسياً وعاطفياً، ليس فقط بسبب الظروف المحيطة من عنفٍ وتدمير، بل أيضاً بسبب الضغوط النفسية التي تضعها الحرب على الأشخاص والعلاقات.
وفي هذا الشأن، تشرح المعالجة النفسية ستيفاني كعدي، لرصيف22، وضع العلاقات حالياً: "يعيش الشركاء في هذه المرحلة حالةً من القلق المستمرّ، فالخوف على حياة وسلامة الطرف الآخر يظلّ يشكّل تهديداً دائماً، ما يعكر صفو مشاعرهم ويصعّب عليهم عيش لحظات الفرح كما اعتادوا، بالإضافة إلى القلق من المستقبل، حيث تصبح العلاقة بين الشريكين مليئةً بالتساؤلات عن المستقبل الضبابي: هل سيجدون مكاناً للعيش معاً؟ هل سيتمكنون من بناء حياتهم بعد الحرب؟ وهذا الخوف من المجهول يصاحبه شعور عميق بالإحباط".
وتضيف: "في اللحظات الصعبة، عندما لا يستطيع أحدهم فعل شيء للآخر سوى أن يكون موجوداً بجانبه، يصبح التضامن العاطفي هو السند الأقوى. فالعشّاق يتشاركون معاً في العزلة والخوف والأمل، وتظل كلماتهم هي الشيء الوحيد الذي يمكنهم التمسك به. الحبّ هنا يتحوّل إلى قوّةٍ تساندهم في مواجهة هذا الكابوس اليومي. في بعض الأحيان، تكون الرسائل أو المكالمات الصوتية أو حتى النظر إلى بعضهما عبر الشاشة هي الطريقة الوحيدة للتواصل، ولكنها تصبح سلاحاً قوياً ضدّ العزلة".
"البعض قد يتساءل: كيف يمكن لعروسٍ أن تحتفل في زمنٍ كهذا؟ كيف يمكن للفرح أن يزهر وسط الخراب؟ الحقيقة أن الفرح اليوم ليس كما كنا نتصوّره. لكن عقد قراني ليس مجرّد ورقة، وليس مجرّد احتفال كما كان متوقعاً، بل هو نوع من الصبر والمقاومة. فبينما يعصف القصف بكل شيء، ما زلتُ أؤمن بأن لدينا الحق في أن نعيش، وأن نحب"
وقد يضطرّ بعض الأفراد، وفق كعدي، في حالاتٍ معيّنة إلى اتخاذ قرارات صعبة، مثل الابتعاد عن بعضهم البعض من أجل سلامتهم، أو الانفصال بسبب أن الأحلام المشتركة التي كانا يخططان لتحقيقها معاً أصبحت بعيدة المنال في ظل الحرب. لكن تلك التضحيات قد تصبح سبباً في تعزيز الحب، لأنها تظهر مدى قدرة الحب على التحمل والصمود برغم كل الصعوبات.
وتؤكد المعالجة النفسية، أنه في ظل الحرب حيث يعيش الناس تحت تهديد الموت والدمار، يصبح الحب ملاذاً عاطفياً يساهم في تخفيف الألم النفسي الناتج عن القصف والدمار. وقد يُظهر الحب قوّةً غير متوقعة. فالعشّاق أو الأزواج يتعاونون لمواجهة التحدّيات، سواء كانت ماديةً (مثل الحصول على الطعام أو الأمان)، أو عاطفيةً (مثل دعم بعضهم في الأوقات النفسية الصعبة). التمسّك ببعضهما البعض يساهم في تقوية العلاقة ويمنحهم القوّة للاستمرار.
هكذا عندما يُحاصَر الناس بالخراب، يصبح الحبّ هو القوّة التي لا يمكن لأي عدوّ أن يهزمها. يبقى هو أقوى من كل شيء، أقوى من صواريخ العدو، وأعلى من الخراب الذي يحيط بنا. قد تمزّق الحرب أرضنا، وقد تهدم المدافع منازلنا، وقد تفرّقنا عن أحبتنا، لكن حبّنا هو الذي سيكتب النصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم