غيّرت الحرب السورية خلال السنوات العشر الماضية في العديد من المعايير التي تخضع لها قرارات السوريين حين يتعلق الأمر بشؤونهم وحياتهم الخاصة، فاحتلت الاستثناءات مساحة كبيرة من أحاديثهم عن المسقبل، وغزتها المبررات المرتبطة بشكل جوهري ومباشر بتداعيات وظروف الحرب لتفسير بعض السلوكيات التي تتناقض وأفكارهم أو عاداتهم.
إلى ذلك، وجد العديد من السوريين أنفسهم مُجبرين على تغيير طرق تفكيرهم ومعاييرهم التي قد لا تتوافق والعادات السائدة حول الزواج لا سيما التقليدي منها، فباتوا يقدمون تنازلات فكرية ويبسطون شروطهم إلى حد إلغائها تماماً، فلم يعد التوافق الفكري والانجذاب الجنسي وضرورة التجربة المشتركة للطرفين على أرض الواقع، أولوية في قراراتهم أو نظرتهم للزواج، فالظرف الاستثنائي الحالي لا يمنح هؤلاء رفاهية التشبث بالمواقف والآراء وإبداء اللّاءات على إثرها، بل التكيف والمرونة والتعامل مع معطيات المرحلة كما هي للاستمرار بالعيش.
الزواج كمصلحة مشتركة
وكغيرها من الظواهر الجديدة أو المتجددة التي أتت بها الحرب، بدأت ظاهرة الزواج عن بعد بالازدياد تدريجياً مع هجرة العديد من السوريين خلال العقد المنصرم، واستقرار نسبة كبيرة من الرجال العازبين في الخارج، تزامناً مع تداول تقارير وإحصاءات رسمية تؤكد ارتفاع عدد الإناث في سورية مقارنة بعدد الذكور، إضافة إلى ازدياد الحديث عن ارتفاع عدد "غير المتزوجات" منهن، الأمر الذي عده البعض المحرك الأساسي لازدياد ظاهرة الزواج عن بعد في المجتمع السوري.
رصيف22 استمزجت آراء عدد من السوريات والسوريين الذين تراوح أعمارهم ما بين 20 و30 عاماً، بعضهم يقيم في الخارج والبعض الآخر في سوريا.
تبين أن معظم آراء هذه العينة العشوائية حول ظاهرة الزواج عن بعد تستند -بغض النظر عن قبولهم أو رفضهم لهذا النوع من الزواج- إلى فكرة مفادها أن الشاب المقيم في الخارج يلجأ إلى هذه الطريقة بهدف الزواج لا أكثر مع عدم الرغبة بالارتباط بامرأة أجنبية إما لأسباب دينية أو لتراجع رغبة الأخيرات بالزواج من سوري، أما الفتاة التي تقبل بالزواج من رجل لم تعرفه فغالباً ما تكون قد تعرضتْ لضغط عائلي، أو بقرار ذاتي منها خوفاً من عدم الزواج أو بهدف السفر والاستقرار في الخارج فقط.
الشاب المقيم في الخارج يلجأ إلى هذه الطريقة بهدف الزواج لا أكثر، مع عدم الرغبة بالارتباط بامرأة أجنبية إما لأسباب دينية أو لتراجع رغبة الأخيرات بالزواج من سوري
الصحافي الشاب أحمد مذيب (26 عاماً) يصف ظاهرة الزواج عن بعد المنتشرة حالياً في المجتمع السوري بأنها زواج صالونات ولكن مع تحديث يوائم العصر، ويضيف أن "هذه الطريقة في الزواج تستند بالمطلق إلى مصلحة مشتركة، حيث أن الشاب يريد من الفتاة علاقة زواج، والأخيرة تريد السفر".
وبحسب رأيه فإن شاباً -مثله- يقيم في أربيل حالياً لن ينجح في جذب الفتيات المقيمات في سوريا للزواج منه والاستقرار في مدينة كأربيل، إذ تلعب طبيعة المدينة أيضاً دوراً في قبول أو رفض الفتاة.
أما سالييت درغام (27 عاماً) وهي صحافية سورية ومقدمة برامج إذاعية فتقول: "الفتيات اللواتي يقدمنَ على الزواج بهذه الطريقة يرغبن بالهروب من المجتمع الذي نشأن فيه أكثر من أي شيء آخر، ومن هنا فإن خيار الزواج عن بعد هو ورقة رابحة للفتاة سواء أكان زواجاً ناجحاً أم فاشلاً لطالما كان الهدف الأساسي منه هو الاستقرار في الخارج".
إمكانية أكبر للتزييف وإخفاء الحقائق
سالييت ممن يعتقدون أن الزواج عن بعد هو خيار خاطئ، وتعلل رأيها بأنه حتى الزيجات التي تتم بعد أشهر وربما سنين من المعرفة تقع أرضاً وتفشل بسبب تفاصيل وأمور مخفية عن أحد الطرفين أو لتزييف كامل للحقائق في حالات أخرى، وتشير بعلامات استفهام كبيرة حول الحقائق التي يمكن تزييفها عن بعد، أو الأمور الكبيرة التي لا يمكن اكتشافها ومعرفتها إلا بالاختلاط.
من جهته يرى موفق عماد الدين (28 عاماً) وهو إعلامي وصانع محتوى رقمي أن التطور التكنولوجي قد ينجح في نقل صورة الطرف الآخر وأسلوب كلامه وأفكاره بواسطة المحادثات والمكالمات الصوتية أو بطريقة الفيديو، ولكن تبقى هنالك أمور لا يمكن التغاضي عنها وتؤثر في العلاقة بين شخصين كرائحة هذا الشخص على سبيل المثال، أو خفة الدم التي قد لا يظهر عكسها إلا على أرض الواقع.
سالييت... خيار الزواج عن بعد هو ورقة رابحة للفتاة سواء أكان زواجاً ناجحاً أم فاشلاً لطالما كان الهدف الأساسي منه هو الاستقرار في الخارج
ترفض آنا علي حسين (22 عاماً) طالبة جامعية، أن تخوض في علاقة عاطفية عن بعد، وتقول حول ذلك "من السهل أن يصنع الإنسان عالماً كاملاً وشخصية أخرى له عبر الإنترنت ولهذا لا يمكنني أن أخوض في علاقة من المُحتمَل أن يكون كل شيء فيها مبني على الكذب والتزييف".
لكن الحب عن بعد ليس كالزواج عن بعد
تتفق الطالبة الجامعية جود الصفوك (21 عاماً) مع الآراء السابقة حول إمكانية التزييف التي يتيحها الإنترنت، ولكنها وبحسب تجربتها العاطفية التي تخوضها منذ حوالى العامين، تقول إن التكنولوجيا مكنتها من اختبار مشاعرها كما لو كانت تعيشها على أرض الواقع فأتاحت لها المكالمات بطريقة الفيديو معرفة كل تفاصيل حياة خطيبها المقيم في ألمانيا حالياً وأدق تحركاته اليومية.
تصف جود قصة حبهما -كما تصفها- قائلة: "عرفت خطيبي عبر فيسبوك وبالطبع ترددت كثيراً في البداية من الغوص بالعلاقة أكثر أو الانتقال بها إلى مرحلة جدية ستؤسس للزواج مدى الحياة، إلا أنني اليوم بت متأكدةً جداً من قراري، أعرف شريكي حق المعرفة وأدرك محاسنه ومساوئه وأحبها جميعها.. هو يدعمني في أحلامي وأفكاري ويحيطني بكل الاهتمام والرعاية وهذا جل ما أحتاجه".
تقول جود إن التكنولوجيا مكنتها من اختبار مشاعرها كما لو كانت تعيشها على أرض الواقع فأتاحت لها معرفة تفاصيل حياة خطيبها المقيم في ألمانيا
وحول تخيلاتها للحظة اللقاء التي ستجمعها بخطيبها في ألمانيا تقول: "لا أفكر ما إن كنت سأحبه على أرض الواقع أم لا، ولست خائفة أبداً.. كل ما يراودني من تخيلات حين نلتقي للمرة الأولى هي تخيلات جميلة".
قصص من الواقع
تزوجت نور (28 عاماً) وهو اسم مستعار من شاب سوري يقيم جنوب أفريقيا، تروي جزءاً من تجربتها: "لم أعرف زوجي جيداً خلال فترة تعارفنا عبر الإنترنت وقد تم الزواج بسرعة كبيرة، إذ كل ما كنت أفكر فيه حينها هو السفر مع تزايد ضغوط الحياة في سورية على الرغم من كوني موظفة في إحدى الشركات بالعاصمة ومرتبي يكفي لتغطية حوائجي الشخصية، ولكن الأمر لم يعد يخص ما يمكننا من عيش اليوم بل لا بد من التفكير في المستقبل أيضاً".
وتتابع: "لم أتردد قبل السفر، كنت أدرك أن زوجي إنسان طيب ولطيف ولكنني حين قطعت حدود سورية باتجاه لبنان إلى المطار بدأت أستشعر الخوف وحشاً قادراً على التهامي دفعةً واحدة، وحين التقيت بزوجي لأول مرة بدا لي أن كل ما أعيشه هو كابوس مؤلم وثقيل، أما اليوم الأول في مدينة أفريقية مختلفة كلياً عن كل ما عرفته طوال حياتي في دمشق فقد كان هو اليوم الأسوأ على الإطلاق، عشته واختبرته مع رجل لطيف غريب تماماً عني، اليوم بعد مضي حوالى الشهرين على وصولي إلى هذه البلاد لا أستطيع الجزم ما إن كنت نادمة أم لا، ولكنني أكافح يومياً ولست سعيدة".
من جهته، يقول زوجها عمران (30 عاماً) وهو اسم مستعار ويعمل في شركة تسويق، إنه يكافح يومياً بكل ما لديه من طاقة وصبر لتتمكن نور من التأقلم على الحياة الجديدة معه في جنوب أفريقيا.
ويضيف: "في هذا النوع من الزيجات قد تعيش مع الشريك صعوباته الجديدة كمغترب للمرة الأولى عن أهله وناسه، وهنا تجد نفسك مطالباً باحتواء سلوكياته غير المسبوقة وموجات حزنه وغضبه وحتى تقلباته التي تنذر بإنهاء العلاقة والعودة إلى الوطن، إلا أن هذا الأمر بوجهة نظري يرتبط بالمشاعر التي تخلفها الأشهر الأولى من الغربة وليس الزواج بحد ذاته وهي حالة عامة تتطلب من الطرفين بعض الصبر والتحمل".
نور... لم أتردد قبل السفر، كنت أدرك أن زوجي إنسان طيب ولطيف ولكنني حين قطعت حدود سورية باتجاه لبنان إلى المطار بدأت أستشعر الخوف وحشاً قادراً على التهامي دفعة واحدة، وحين التقيت بزوجي لأول مرة بدا لي أن كل ما أعيشه هو كابوس مؤلم وثقيل
أما آية الباكير (22 عاماً) فمتزوجة من شاب سوري ويقيمان حالياً في تركيا منذ عام ونصف، تروي قصتها بدءاً من التعارف الذي تم من خلال مكالمة فيديو بتنسيق وإشراف العائلة وصولاً إلى الزواج. تقول: "استمرتْ فترة خطوبتنا ستة أشهر ولكنني كنت مصرة على اللقاء به ورؤيته قبل أن نصبح شريكي حياة، وإلى ذلك اتفقنا على اللقاء في أرضٍ محايدة، بيروت، بحكم صعوبة زيارته لسوريا حالياً، فسافرت أنا وبعض أفراد عائلتي لاستقباله هناك، وكانت الخيبة، إذ لم أنجذب له نهائياً، وصارحته بمشاعري الحقيقية على الفور وطلبت فسخ الخطوبة".
وتضيف: "كان متفهماً لما أقوله ولم يبدِ أي اعتراض ولكنه طلب مني فرصة أخيرة فقبلت، وأمضينا عدة أسابيع في بيروت استطاع خلالها أن يغير مشاعري تجاهه كلياً وأن أعجب به، اليوم أنا ممتنة لهذه الفرصة التي وهبتها لنفسي قبل أن أهبها له هو، نعيش حياة زوجية رائعة وما أعانيه اليوم من صعوبات في العيش لا تتجاوز كونها مشقات التأقلم مع البلاد الغريبة واللغات الغريبة وتأسيس حياة جديدة فيها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...