في شهر كانون الأول/ديسمبر عام 1970، جلست امرأة أنيقة ذات وجه مشرق وشعر جميل، مرتديةً بدلةً بيضاء، أمام جامعة طهران، ووضعت أمامها صندوقاً مليئاً بالعلكة والوجبات الخفيفة والسجائر وتذاكر اليانصيب لتبيعها. بعد فترة قصيرة، اقترب منها جميع المارة والطلاب الخارجين من الجامعة، وراقبوها بذهول وتعجب، ليس لمظهرها الذي لا يشبه مظهر البائعات المتجولات فحسب، بل لأن وجهها كان مألوفاً ومعروفاً لجميع هؤلاء الأشخاص. في تلك الأثناء اجتمع عدد كبير من الناس حولها، لا سيما أنه كان أمراً غريباً بالنسبة لهم أن يروا واحدة من أكبر نجمات السينما الإيرانية تبيع العلكة على رصيف الجامعة.
أسئلة كثيرة طرحت نفسها هنا، أبرزها: هل أصبحت هذه النجمة، فقيرةً لدرجة أنها اضطرت إلى بيع العلكة والوجبات الخفيفة؟ أم إنها كانت مشاركة في عمل خيري؟ هل هذا مشهد من فيلمها الجديد؟ أما الحقيقة لم تكن مثلما ظنوا؛ حيث أن تلك المرأة التي تألقت قبل عامين في الفيلم الأكثر مبيعاً في السينما الإيرانية "سلطان القلوب"، وأصبحت من أهم الممثلات في السينما، كانت جالسةً في ذلك اليوم، احتجاجاً على وضع السينما الإيرانية في تلك الفترة، وكانت رسالتها أنه إن كان هذا هو حال السينما لدينا، فإنها ستفضل بيع العلكة والسجائر على التمثيل.
آذَر شِيوا، أول امرأة احتجت على آلية السينما الإيرانية، وكان ذلك اليوم بداية صمتها الطويل؛ الصمت الذي لم تكسره حتى الآن
تلك المرأة كانت آذَر شِيوا، أول امرأة احتجت على آلية السينما الإيرانية، وكان ذلك اليوم بداية صمتها الطويل؛ الصمت الذي لم تكسره حتى الآن.
من معاناتها في الطفولة إلى استقلالها في الشباب
وُلدت آذر شيوا (أو شيفا، كما تُلفظ الواو في الفارسية)، في تموز/يوليو عام 1940 بمدينة طهران. كان والدها الدكتور شيوا، طبيباً ثرياً من أسرة نبيلة وغنية، لكنه كان يعاني من الوسواس القهري، حيث كان مرضه وهوسه بالنظافة كبيراً لدرجة أن والدة آذر، هجرته بعد سنوات قليلة من ولادة ابنتها، وتركت طفلتها وحيدةً مع والدها المستبد والمريض.
مرضُ والد آذر، تفاقم مع بداية دراسة ابنته في المدرسة، إذ أضيفت الحساسيات المتعلقة بالواجبات المدرسية وأمور المدرسة إلى عقوباته وتذكيره بنظافة ابنته وجمالها. حينها تضاعفت صعوبة الوضع بالنسبة لآذر، وكل هذه القيود وإصرار والدها على أن تصبح طبيبةً أو ممرضة، أجبرتها على الزواج من أحد أقاربها، عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. وبرغم مخالفة والدها، إلا أنها اتخذت قراراً متسرعاً في الزواج من ذلك الشاب، هروباً من منزل والدها وصعوباته.
لكن كما يمكن التخمين، فشل هذا الزواج بسبب إدمان زوجها وبطالته، فغادرت آذر منزلَ زوجها وهي حامل، وبعد ذلك عاشت بمفردها دون دعم من والدها أو أي شخص آخر. وفي عام 1956، أي في السادسة عشرة من عمرها، أنجبت آذر ابنتها وأسمتها مانْدانا.
لا تتوفر الكثير من المعلومات حول كيف عاشت هذه الفتاة الصغيرة بمفردها ودون دعم في ذلك العمر، وكيف قامت بتربية طفلتها بمفردها، ومع ذلك، بعد عامين من هذه الأحداث، تغيرت حياتها تماماً، حيث يقال إن الممثل و المخرج الإيراني رفيع وَحدَتي، التقى بِآذر عام 1958، وسمع صوتها لأول مرة وأُعجب به، وبعد ذلك دعاها إلى العمل في الراديو، وبما أن آذر لم تكن قد درست المسرح والسينما، فقد بدأت مسيرتها في الإذاعة ليس من خلال الأداء المسرحي الإذاعي، ولكن من خلال التواجد في الراديو والدبلجة.
لقد نظم العمل في الراديو، ظروف آذر المعيشية، ومكنها من مواصلة دراستها، لكن الشيء المثير للاهتمام هو أنها بعدما مرّت بكل التقلبات، وتحملت كل المصاعب للهروب من قيود والدها، اختارت في النهاية المجالَ المفضل لوالدها، ودرست التمريض، وعملت ممرضةً لعدة سنوات. وقد ذكرت ذلك في مقابلة أجرتها معها مجلة "زَنان" (النساء)، في 12 كانون الأول/ديسمبر 1970. فبرغم عملها في الإذاعة والصعوبات في رعاية ابنتها الصغيرة، إلا أنها تمكنت في ذلك الوقت من الحصول على درجة البكالوريوس في التمريض.
وبما أن آذر شيوا لم يكن لديها مقابلات صحافية كثيرة، فإن الشيء الوحيد الذي نعرفه هو أن هذه السيدة حلت مشاكلها المالية في تلك السنوات من خلال العمل في الإذاعة والمستشفى، وتغلبت على التحديات التي واجهتها بمفردها منذ سن السادسة عشرة، وعلى الرغم من كل الصعوبات، إلا أنها جذبت انتباه أصحاب السينما وهي في سن الحادية والعشرين، وذلك بسبب جمال وجهها وصوتها.
السينما… الانتقال من القرية إلى المدينة
آذر التي التقت بالعديد من الفنانين والسينمائيين من خلال عملها في الإذاعة، دعيت من قبل الكاتب والمخرج مجيد محسني، للتمثيل في فيلم "أغنية القرية" عام 1961، وبحسب بعض من أقاربها، فإن العمل في السينما والانشغال بالتمثيل منع آذر من قضاء الوقت مع ابنتها ماندانا، لذلك طلبت من واحدة من قريباتها أن تأتي إلى منزلها وتعتني بطفلتها.
تزامن دخول آذر إلى السينما، مع التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية الكبيرة في نهايات خمسينيات وبدايات ستينيات القرن الماضي في إيران، ففي تلك السنوات، كانت السينما بحاجة إلى وجوه جديدة، في أعقاب التغيرات التي طرأت على الفضاء المعيشي والتطور في المدن والقرى.
ولم يكن لدى آذر خبرة كبيرة في السينما، وحتى صوتها الشجي لم يُسمع لغاية تلك الفترة، ومعظم أعمالها كانت تقتصر على الدبلجة السينمائية. وبرغم ذلك ظهرت على شاشة السينما لأول مرة، في دور امرأة قروية في فيلم "أغنية القرية".
بعد هذا الفيلم، شاركت آذر في أربعة أعمال بين عامي 1962 و1964، جسدت في جميعها دور فتاة القرية، ويمكن القول إن شخصية المرأة التي صورتها آذر في هذه الأفلام كانت بعيدة كل البعد عن شخصيتها الحقيقية، لأنه في ذلك الوقت، وعلى الرغم من الإصلاحات الزراعية في البلاد والتغيرات في أسلوب حياة القرويين، كانت المرأة القروية في الأفلام لا تزال امرأة بسيطة وغير واعية.
بعد هذه التجربة، كان عام 1965 عاماً مهماً ومثمراً بالنسبة لها، إذ ظهرت في هذا العام في أربعة أفلام وابتعدت فيها بشكل كبير عن أدوارها السابقة، حيث أدت دور امرأة يمكنها القيادة أو المرأة المديرة التي تعيش في المدينة وتصنع قرارات مستقلة لحياتها. وفي عام 1966، أظهرت آذر وجهاً جديداً من خلال ظهورها في فيلم كوميدي بعنوان "العريس الهارب"، من إخراج إسماعيل رياحي، كما يمكن اعتبار هذا العام عاماً مزدهراً أيضاً بالنسبة لها، إذ شاركت خلاله في أربعة أفلام.
عام 1968، يعتبر أهم عام خلال مسيرة آذر شيوا الفنية، ففي هذا العام صنع فيلم "سلطان القلوب"، الذي حقق نجاحاً فريداً في السينما الإيرانية، ومن الممكن اعتباره الفيلم الأكثر تميزاً وشهرةً في إيران حتى يومنا هذا. كان الفيلم من إخراج وتمثيل النجم السينمائي الشهير، محمد علي فَردين.
النقطة المهمة في هذا الفيلم، هي أن السرد يأتي من خلال شخصية أنثوية وبطلة القصة لها أهمية كبيرة ودور فاعل في الفيلم، على الرغم من تكرار الميلودراما فيه، لكنه كان فيلماً مهماً جداً في سياقه الزمني. أصبح فيلم "سلطان القلوب" هو الفيلم الأكثر مبيعاً لعام 1968، ارتفع من خلاله محمد علي فردين وآذر شيوا إلى مرحلة النجومية.
"هل فَهِمَ أحدٌ ما قلته وما أردت أن أفعله؟"
كما ذكرنا، في نهايات ستينيات وبدايات سبعينيات القرن الماضي، ظهر اتجاه جديد في السينما الإيرانية، لم يكن متوافقاً مع الهيكل الرئيسي للسينما في ذلك الوقت، ومن هذا المنطلق كان هناك اختلاف في الرأي بين السينمائيين، وفي الوقت نفسه، كان الشخص الوحيد الذي احتج علناً ضد التيار السائد في السينما الإيرانية هي آذر شيوا، حيث اعتزلت السينما عام 1969، وفي السادس من كانون الأول/ديسمبر عام 1970، صرحت في صحيفة "كيهان" أنها اعتزلت السينما، احتجاجاً على "سينما السكاكين والدعارة" كما أسمتها، متأملةً أن يخلق اعتزالها الاحتجاجي جواً أفضل في السينما الإيرانية.
تزامن دخول آذر إلى السينما، مع التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية الكبيرة في نهايات خمسينيات وبدايات ستينيات القرن الماضي في إيران، ففي تلك السنوات، كانت السينما بحاجة إلى وجوه جديدة، في أعقاب التغيرات التي طرأت على الفضاء المعيشي والتطور في المدن والقرى
قبل يوم واحد من نشر هذا التصريح، خرجت في الشارع، وجلست أمام جامعة طهران بمعطفها الأبيض وشعرها المسرح ووجهها الجميل، لتبيع العلكة والسجائر وغيرها من البضائع كبائعة متجولة. يومها سألها طالب من جامعة طهران عن سبب فعلتها هذه، فردّت عليه: "أليس من حق الإنسان أن يصرخ؟ ألا يصرخ أحدكم عندما ينزعج؟ ألا تغضب وتحتج؟ إذا كان عملي هذا لا يجعلك تشعر بهذا، فاسمح لي أن أقول إن هذا العمل هو نوع من الاعتراض بالنسبة لي، فأنا لست بحاجة إلى أن أصبح مشهورةً بهذه الطريقة…".
أصبح خبر احتجاج آذر على حالة السينما الإيرانية هو العنوان الأول للصحف. وفي مقال مفصل نشرته صحيفة "اطلاعات" في 7 كانون الأول/ديسمبر 1970، اعتبرت الصحيفة أن سبب احتجاجها هو خلافها مع منتجي أفلامها، وفي ذلك المقال أكد ممثلون مثل إيرَج قادري والمخرج صموئيل خاتشيكيان تضامنهم معها.
بعد ذلك انضم كثير من الأشخاص من الوسط السينمائي لآذر واحتجاجها، حيث أثار التكاتف الفني هذا، غضبَ صانعي الأفلام والمنتجين، ورداً على الاحتجاجات، بدأوا بتدمير سمعتها وسمعة مؤيديها. بعد ذلك تقدمت آذر بشكوى وسلمتها إلى وزارة الثقافة والفنون آنذاك، ومن الواضح أن هذا الإجراء كان عديم الفائدة، لأن منتجي الأفلام كانوا أصحاب سلطة كبيرة على هذه الوزارة.
بذلك تم استبعاد آذر تماماً من السينما الإيرانية، دون أن يصل صوتها الاحتجاجي إلى آذان كثيرة أو أن يؤثر في عملية إعداد وإنتاج الأفلام. بعد تلك الأحداث، غادرت آذر شيوا إيران نحو فرنسا. ويقال إنها تخلت عن هويتها الإيرانية بعد استقرارها في فرنسا، وبعد فترة من هجرتها، فقدت ابنتها ماندانا في حادث مشبوه، وبهذه الطريقة حدثت النهاية المريرة لقصة هذه الممثلة، التي اختارت العزلة والصمت المستمر إلى يومنا هذا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...