منذ عقود، والعراق عالق في دوامة النفوذ المتشابكة، تتداخل فيه أجندات الدول الكبرى والجوار الإقليمي في آن واحد. ومع تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل، يجد العراق نفسه في موقف صعب، قد يحوّله إلى ساحة معركة غير مباشرة بين الخصمين، خاصةً بعد فوز المرشح الأمريكي، دونالد ترامب، بولاية رئاسية ثانية، نظراً إلى ما عُرف عن توجهاته القاسية ضد إيران.
هذه السياسة القاسية، عبّر عنها مبعوثه السابق في الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، في مقال كتبه عقب فوز ترامب في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، قال فيه إن مفتاح فهم عقلية ترامب، هو الخطاب الذي ساعدت في كتابته وألقاه في الرياض في عام 2017، وأكد فيه على ضرورة إنهاء نفوذ إيران بشكل كلي في المنطقة.
ترامب الذي بنى سمعةً قويةً في سياسته المتشددة تجاه إيران وأذرعها، ونفّذ عمليات جريئةً عدة ضدها، يعكف على الاستمرار على النهج نفسه.
سياسة ترامب المؤيدة لإسرائيل والمناهضة لإيران، تزيد من صعوبة الموقف العراقي، بسبب هيمنة الإطار التنسيقي الشيعي المقرب من طهران، عليه.
سياسة ترامب الأولى
خلال ولايته الأولى (2017-2021)، وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، العراق في صلب إستراتيجيته باعتباره نقطةً محوريةً من أجل تحجيم النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، واستغل البلد عبر مجموعة من التحركات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية لتعزيز هذه الإستراتيجية.
ترامب الذي بنى سمعةً قويةً في سياسته المتشددة تجاه إيران وأذرعها، ونفّذ عمليات جريئةً عدة ضدها، يعكف على الاستمرار على النهج نفسه. سياسة ترامب المؤيدة لإسرائيل والمناهضة لإيران، تزيد من صعوبة الموقف العراقي، بسبب هيمنة الإطار التنسيقي الشيعي المقرب من طهران، عليه
على سبيل المثال، فقد خفض عدد القوات الأمريكية في العراق، تماشياً مع خطته لتقليص التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، ومع ذلك، حافظ على وجود عسكري محدود في مواقع إستراتيجية، مثل قاعدة "عين الأسد" في الأنبار، ليظل العراق قاعدةً أمريكيةً متقدمةً لرصد التحركات الإيرانية في المنطقة.
وفي خطوة أكثر جرأةً، اتخذ ترامب قراراً باغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي "أبو مهدي المهندس"، في كانون الثاني/ يناير 2020، في قصف طالهما على طريق مطار بغداد الدولي.
من جهة أخرى، اعتمد ترامب على الضغط الاقتصادي كورقة مؤثرة ضد العراق، حيث فرض عقوبات غير مباشرة على بعض المصارف العراقية بتهمة المساهمة في تمويل الجماعات المسلحة المقربة من إيران وتهريب العملة الصعبة لها.
كان هذا التوجه، جزءاً من سياسة اقتصادية أوسع تهدف إلى التضييق على مصادر التمويل الإيرانية في العراق.
كما دعم الاحتجاجات الشعبية ضد حكومة عادل عبد المهدي، في 2019، والتي أدّت في نهاية المطاف إلى استقالة عبد المهدي، في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام ذاته، ودعم تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي، في أيار/ مايو 2020، التي واكبت رغبته في تقليص الهيمنة الإيرانية، وتعزيز التعاون مع المحيط الطبيعي العربي.
ومن أجل الحفاظ على هذا المسار، شجع ترامب الشركات الأمريكية على الاستثمار في قطاعات النفط والطاقة العراقية، بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي مع العراق، واعتبارها بدائل عن الشركات الإيرانية والصينية المهيمنة على السوق الاستثماري العراقي وقتها.
ترامب وحليفه التاريخي
يأتي فوز دونالد ترامب بالولاية الثانية في خضم تغيّرات جذرية تشهدها المنطقة، فبالإضافة إلى العدوان الإسرائيلي على غزّة ولبنان، تعتقد الإدارة الأمريكية الجديدة، أن التراخي الذي عانت منه السياسة الأمريكية، في أثناء عهد سلفها، جو بايدن، كانت سبباً في تطور الأزمة وتنامي النفوذ الإيراني.
قبل الخوض في هذا المنظور، يجب تسليط الضوء على اتفاقية الإطار الإستراتيجي، التي تمثّل حجر الأساس في العلاقة العراقية-الأمريكية، إذ تغطي هذه الاتفاقية مجالات عسكريةً وسياسيةً واقتصاديةً وثقافيةً عدة، ما يضفي عليها صفة الاستقرار، وعدم خضوعها لتغيّر الإدارات، وبرغم ذلك، فإن من حقّ الطرفين تعديل بعض تفاصيلها وفقاً للمتغيرات الراهنة.
مثالاً على ذلك، ففي بيان مشترك صدر في 27 أيلول/ سبتمبر الماضي، أُعلن عن خطة لانسحاب القوات الأمريكية من العراق، بحلول أيلول/ سبتمبر 2025، والانتقال إلى شراكات أمنية ثنائية، تركز على التدريب والدعم اللوجستي.
ومع عودة ترامب للرئاسة الأمريكية، قد يلجأ إلى تأخير هذا الانسحاب، من أجل منع طهران من استخدام الأراضي العراقية في الاعتداء على حليفته تل أبيب.
ولن تعترض الحكومة العراقية على هذه الخطوات فهي تدرك أن نفوذ الجماعات المقربة من طهران قد يشكل تهديداً جدياً أمام استمرارها على رأس السلطة، أو تعرّضها لهجمات إسرائيلية تهدد سيادتها.
ففي خطاب ألقاه ترامب، في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أمام تجمّع انتخابي، قال إن على إسرائيل أن تضرب أي تهديد أمامها، بما في ذلك المنشآت النووية الإيرانية، ما يعكس تحولاً أمريكياً، من الجهود الدبلوماسية التي اعتمدها سلفه، نحو إستراتيجيات عسكرية قد تشمل ضرب إيران وأذرعها في المنطقة.
في فترة رئاسته الأولى، اعتمد ترامب على الضغط الاقتصادي كورقة مؤثرة ضد العراق، وفرض عقوبات غير مباشرة على بعض المصارف العراقية بتهمة المساهمة في تمويل الجماعات المسلحة المقربة من إيران وتهريب العملة الصعبة لها. كجزءاً من سياسة اقتصادية أوسع تهدف إلى التضييق على مصادر التمويل الإيرانية في العراق. فما الذي يخفيه للعراق في فترة حكمه الثانية؟
تل أبيب سبق أن دعت بغداد إلى ردع لوقف الأنشطة العسكرية للفصائل المسلحة التي تنشط في أراضيها، وهددت باستهدافها، بعد رصد عمليات نقل صواريخ باليستية ومعدات إيرانية الى العراق، تشكّ في استخدامها في هجوم محتمل ضدها، وفقاً لتقرير نشرته "إسرائيل تايمز"، في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، ولكن "كتائب حزب الله" نفت صحة مثل هذا الاتهام.
وأشار التقرير إلى أن تل أبيب، حددت بالفعل أهدافاً في الأراضي العراقية قد تقوم بضربها في حال استمرت الفصائل العراقية المدعومة من إيران في هجماتها ضد أراضيها.
موقف ترامب العسكري القادم
بحسب مصدر في هيئة مستشاري رئاسة الوزراء العراقية، فإن الحكومة فشلت في إقناع الفصائل المسلحة بوقف عملياتها العسكرية ضد إسرائيل، ولجأت إلى طهران من أجل إقناع الفصائل، لكن الوفد الأمني العراقي الذي زار طهران لم يُستقبَل بحرارة، وأكد الجانب الإيراني أن هذه الجماعات تعمل وفق قرارها الخاص، وهي غير مسؤولة عن قرار هذه الجماعات.
وبسبب فتور الرد الإيراني، توجهت حكومة بغداد إلى واشنطن، وفق تصريح المصدر لرصيف22، وطلبت من المسؤولين الأمريكيين التدخل لإعلام إسرائيل بالموقف العراقي وعدم علاقته بهذه الفصائل، وأبدت واشنطن تفهماً لهذا الأمر، وأعلنت أنها ستسعى لإيصال الرسالة إلى تل أبيب.
ومع اقتراب تغيير الإدارة الأمريكية، فإن الوضع الذي تمرّ به الحكومة العراقية أصبح أكثر تعقيداً، في ظل اعتقاد سائد بأن برودة الموقف الإسرائيلي الحالي إزاء الهجمات التي تشنّها ضدها الفصائل المسلحة العراقية، ترجع إلى انتظارها تسلّم حليفها ترامب منصبه، وشنّ حملة عسكرية مشتركة ضد الجماعات العراقية المقربة من طهران.
كانت المقاومة الإسلامية في العراق، قد هددت مراراً باستهداف المصالح الأمريكية في العراق، وآخرها كانم البيان الذي نشرته كتائب حزب الله، وحمّلت فيه الولايات المتحدة مسؤولية تسهيل الهجمات الإسرائيلية على إيران، واتهمت واشنطن بالهيمنة على الأجواء العراقية لتمكين هذه الضربات، بل أعلنت عن استعدادها للانتقام.
وقالت الكتائب في بيانها: "استخدام الأجواء العراقية لتوجيه ضربات لمنشآت إيرانية، وتكرار هذه الهجمات، يُعدّ سابقةً خطيرةً لم تتعرض لها إيران من قبل، وهذه الضربات قد تمت باستخدام الأراضي الأردنية وصحراء الحجاز كممرات للطائرات أيضاً"، وأكدت أن "هذه العمليات لم تكن لتتم دون اتفاق مسبق مع الولايات المتحدة، التي تهيمن على الأجواء العراقية"، وطالبت بضرورة محاسبة من أسهم في هذا العدوان، محذرةً من أن على "الأمريكيين والصهاينة" دفع ثمن ما أسموه "استفزازهم".
مثل هذه التهديدات تعزز الرأي القائل بأن نهج الولاية الثانية لدونالد ترامب، سيكون أكثر عدوانيةً. يؤكد ذلك أستاذ العلوم السياسية المتقاعد، عثمان الموصلي، ويقول إن ترامب سيستفيد من الدعم السياسي داخل فريقه الذي يضم شخصيات عسكريةً متماشيةً مع توجهاته.
وتضم كابينة ترامب المقترحة عدداً من الشخصيات البارزة، مثل ماركو روبيو، وهو معروف بقربه من إسرائيل ومواقفه المتشددة ضد إيران والصين، والضابط السابق الذي خدم في أفغانستان والشرق الأوسط، مايك والتز، بالإضافة إلى المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران، براين هوك، الذي يُعتقد أنه هو من أقنع ترامب بفكرة تصفية قاسم سليماني بهدف تقليص تأثير إيران في المنطقة، ويُعدّ من مهندسي سياسة العقوبات الاقتصادية ضد طهران.
ويشير الموصلي، في تصريحه لرصيف22، إلى أن واشنطن قد تقود عمليات استهداف منظمة ضد الفصائل العراقية المقربة من طهران، أو تكرار سيناريوهات مشابهة لعملية اغتيال قاسم سليماني، واغتيال شخصيات جديدة بارزة في الحشد الشعبي أو الجماعات المسلحة.
عقوبات اقتصادية محتملة
"وول ستريت جورنال"، قالت في تقرير نشرته في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، إن ترامب جاد في مواجهة إيران ليس بسبب عدائه السياسي ضدها فحسب، ولكن بسبب اعتقاده بتورطها في محاولة اغتياله الأخيرة، ويشير ميك مولروي، وهو أحد كبار مسؤولي البنتاغون لشؤون الشرق الأوسط في ولاية ترامب الأولى، إلى أن الناس تأخذ هذه المحاولات على محمل شخصي بغض النظر عن أي عداء آخر.
ونقل التقرير عن مصادر مقربة من ترامب، أن فريقه سيتحرك سريعاً من أجل خنق إيرادات النفط والغاز الإيرانية بما في ذلك شحنات الغاز التي يستوردها العراق ضمن حملة تخفيف العقوبات على طهران والتي وافقت عليها إدارة جو بايدن.
ومن المحتمل أن يدفع ترامب من أجل تحييد العراق عن السياسة الإيرانية، نحو مزيد من التدخل في القطاع النفطي العراقي، عبر دعم الشركات الأمريكية أو منع الحكومة من الوصول إلى واردات النفط التي يستلمها البنك الفيدرالي الأمريكي بدلاً من وزارة المالية العراقية.
كما يُرجّح أن تستمر سياسات ترامب في دعم الدولار الأمريكي، فبرغم علاقة ترامب المتوترة مع الفيدرالي الأمريكي، إلا أنّ هذا الدعم يعني تراجع قيمة الدينار العراقي أمام الدولار، وتقلّب أسعار الفائدة في البورصة العراقية تالياً، بالإضافة إلى احتمالية فرض عقوبات جديدة ضد بعض المصارف العراقية الخاصة أو الحكومية ومنعها من التداول بالعملة الصعبة.
السياسة العراقية ستجد نفسها بين الدفة والموج، وتتعرض لضغوط الجانبين، ولكنها لن تستطيع الموازنة بينهما، فترامب لن يسمح باستمرار سيطرة طهران، وسيعاني البلد بسبب ذلك من زلازل سياسية قد تؤدي إلى انهيار نظامه السياسي، أو تعرّضه لضربات وخروق سيادية كبرى
أذرع سياسية أمريكية
تحظى الولايات المتحدة منذ عام 2003، بعلاقات متشعبة مع شخصيات سياسية عدة، تشاركها في تطلعاتها السياسية، مثل زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود برزاني.
ترامب سيحافظ على هذه العلاقة مع حليفه الكردي، باعتباره بوصلةً رئيسيةً ثابتةً للعلاقات الأمريكية في العراق، ولكن الإدارة الجديدة تدرك حاجتها إلى أذرع أخرى، من أجل تحقيق طموحها.
من الصعب التكهن بهوية هذه الأذرع الجديدة، نظراً إلى التقلبات المستمرة التي تشهدها الساحة السياسية العراقية، وتعتبر واشنطن أن العلاقة مع السياسيين السُنّة لن تأتي بمفعولها، في ظل تقلّبهم المستمر وضعف دورهم السياسي.
شيعياً، فإن هناك توجهاً لدعم رئيس الوزارء العراقي، محمد شياع السوداني، وبرغم إدراك ترامب ضعف موقفه أمام خصومه، إلا أنه الخيار الأمثل مقارنةً بباقي الشخصيات المهيمنة على الساحة السياسية الشيعية.
ويؤكد ذلك، الاتصال الهاتفي الذي جمع رئيس الوزراء بالرئيس الأمريكي المنتخب، عُقب فوزه، وأبدى خلاله الأخير رغبته في التعاون الإيجابي مع العراق.
المالكي وبرغم قوته السياسية في العراق، ورقة محترقة بالنسبة لترامب.
وبحسب تصريح مصدر مقرب من الإطار التنسيقي، فإن المالكي وبرغم قوته السياسية في العراق، ورقة محترقة بالنسبة لترامب. ويضيف المصدر لرصيف22، أن إدارة ترامب على علم بعلاقته مع خصومها الديمقراطيين مثل مسؤول ملف العراق، بريت ماكروك، وليندسي غراهام، وتيد وكروز، وهي شخصيات لن تجد محلاً لها في الإدارة الجديدة، وتالياً قد تتراجع قوة المالكي إلى الحدود التي كانت عليها إبان حكومة ترامب الأولى.
العراق، الذي يسعى للحفاظ على سيادته واستقلاله، يواجه تحدياً كبيراً في تجنّب أن يصبح ساحة صراع بين أكبر قوتين في المنطقة، إيران والولايات المتحدة.
وفقاً لذلك فإن السياسة العراقية ستجد نفسها بين الدفة والموج، وتتعرض لضغوط الجانبين، ولكنها لن تستطيع الموازنة بينهما، فترامب لن يسمح باستمرار سيطرة طهران، وسيعاني البلد بسبب ذلك من زلازل سياسية قد تؤدي إلى انهيار نظامه السياسي، أو تعرّضه لضربات وخروق سيادية كبرى.
وجدير بالذكر، أن مجلس القضاء العراقي قد أصدر في كانون الثاني/ يناير عام 2021، مذكرة إلقاء قبض على الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وفقاً للمادة 406 من قانون العقوبات العراقي، بتهمة المساهمة في اغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، "أبو مهدي المهندس"، ومن معه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع