مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تتغيّر موازين القوى في السياسة الدولية، ويعود الشرق الأوسط إلى واجهة المشهد العالمي. فوز ترامب على منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، لم يكن مجرّد تحوّل في القيادة الأمريكية، بل إعلان عن عودة رئيس يجيد اللعب على أوتار الصفقات والتحالفات المثيرة للجدل.
في هذا السياق، تتجه الأنظار نحو القاهرة، حيث يقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمام لحظة فارقة. العلاقة بين ترامب والسيسي ليست وليدة اللحظة؛ إنها علاقة براغماتية، تجمع بين رجلين يعتمدان سياسة "الرجل القوي". السؤال الآن: هل تشكّل عودة ترامب فرصة للسيسي لتعزيز موقع مصر الإقليمي والدولي، أم أنها ستلقي بالنظام المصري في دوامة جديدة من الضغوط والتحديات؟
من واشنطن إلى القاهرة، ومن غزة إلى الخليج، يبدو أن لعبة التحالفات تتخذ منعطفاً جديداً، حيث ستُرسم خريطة الشرق الأوسط القادمة بألوان المصالح المتشابكة وتحديات الواقع السياسي المتغير.
ترامب والسيسي: شراكة براغماتية بأبعاد جديدة
في عام 2019، وخلال قمة مجموعة السبع في فرنسا، أطلق دونالد ترامب تعليقاً أثار الجدل عالمياً، عندما وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بـ"ديكتاتوري المفضل". ربما بدت العبارة في ظاهرها فكاهية، لكنها كانت نافذة إلى نمط العلاقة بين ترامب والقادة الذين يعتمدون على السلطة والقوة لترسيخ مكانتهم. بالنسبة لترامب، السيسي لم يكن مجرّد حليف، بل شريك أساسي في لعبة التوازنات التي تحكم الشرق الأوسط.
رأى ترامب، المعروف بنهجه البراغماتي البحت، في السيسي نموذجاً للرئيس الذي يستطيع مواجهة الأزمات الداخلية والإقليمية بإجراءات حاسمة. من جانبه، لم يدّخر السيسي جهداً في استثمار دعم ترامب لتثبيت أركان حكمه داخلياً وتعزيز صورة مصر، كلاعب محوري، في ملفّات المنطقة.
في عام 2019، وخلال قمة مجموعة السبع في فرنسا، أطلق دونالد ترامب تعليقاً أثار الجدل عالمياً، عندما وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بـ"ديكتاتوري المفضل"
شكلت ولاية ترامب الأولى فترة ذهبية للتعاون المصري الأمريكي، خصوصاً في مجال التعاون العسكري. كانت مصر واحدة من أكبر مستوردي الأسلحة عالمياً، حيث استفادت من المساعدات العسكرية الأمريكية لتعزيز قدراتها الدفاعية، ما رسّخ العلاقة بين البلدين.
لكن مع تزايد الضغوط الدولية وتغير ديناميكيات المنطقة، بدأت القاهرة في تنويع مصادر تسليحها، بالاتجاه نحو روسيا وأوروبا. يعكس هذا التحوّل رؤية مصرية أوسع، عمادها التخفيف من الاعتماد المفرط على واشنطن وفتح آفاق جديدة للتحالفات العسكرية والاقتصادية.
لم تكن العلاقة بين ترامب والسيسي مجرد علاقة ودية، بل تحالف معقد تحكمه المصالح المشتركة، ففي الوقت الذي يسعى فيه ترامب لتوسيع نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وجد في السيسي شريكاً يمكن الاعتماد عليه في تحقيق أهدافه الاستراتيجية.
ومع ذلك، فإن هذا التحالف يواجه تحديات كبرى، فتغيّر موازين القوى الدولية، وصعود النفوذ الروسي والصيني، قد يصعّبا على واشنطن استعادة موقعها المهيمن، ما يضع مصر في موقف حسّاس، حيث يتعين عليها تحقيق توازن دقيق، بين تعزيز شراكتها التاريخية مع الولايات المتحدة واستكشاف تحالفات جديدة تخدم مصالحها. لكن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تفتح فصلاً جديداً في العلاقة بين القاهرة وواشنطن.
حقوق الإنسان: ملف صامت في عهد ترامب
عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان، يبدو هذا الملف دائماً ما يجد نفسه في هامش اهتمامات الإدارات الأمريكية، لكنه يتخذ أبعاداً مختلفة وفقاً لمن يشغل المكتب البيضاوي. في عهد ترامب، لم تكن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر عقبة كبيرة أمام تعزيز العلاقات الثنائية. ترامب، الذي يفضل الصفقات والبراغماتية، اختار أن يغضّ الطرف عن تقارير المنظمات الحقوقية، موجهاً تركيزه نحو المصالح الاقتصادية والاستراتيجية.
إدارة بايدن، التي جمّدت جزءاً من المساعدات الأمريكية لمصر بسبب تدهور أوضاع حقوق الإنسان، وضعت هذا الملف في مقدمة تعاملاتها الدبلوماسية مع القاهرة، لكنها لم تصل إلى الحد الذي يهدّد العلاقات الاستراتيجية، أما ترامب، فقد كان أكثر وضوحاً: حقوق الإنسان ليست على جدول أعماله عندما يتعلق الأمر بحلفائه، طالما أن التعاون يخدم أهدافه الكبرى.
هذا التجاهل الأمريكي لم يكن مجرّد موقف سياسي، بل كان بمثابة طوق نجاة للنظام المصري الذي يواجه ضغوطاً دولية وانتقادات واسعة بسبب القمع السياسي وسجن آلاف المعارضين، بما في ذلك مواطنون أمريكيون. وفقاً لتقرير وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2023، تحتجز السلطات المصرية آلاف السجناء السياسيين. ومع ذلك، في عهد ترامب، كان بإمكان السيسي العمل بحرية أكبر دون القلق من ردود فعل دولية حادة.
لم تكن العلاقة بين ترامب والسيسي مجرد علاقة ودية، بل تحالف معقد تحكمه المصالح المشتركة، ففي الوقت الذي يسعى فيه ترامب لتوسيع نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وجد في السيسي شريكاً يمكن الاعتماد عليه في تحقيق أهدافه الاستراتيجية
ترامب، الذي وصف السيسي بـ "رجل قوي"، لم يُخفِ إعجابه بالطريقة التي يدير بها الرئيس المصري شؤون بلاده، حتى لو كان ذلك يعني التضحية ببعض القيم الديمقراطية التي تروّج لها واشنطن في العلن. هذه السياسة منحت السيسي مساحة لتجاهل الانتقادات الحقوقية والتركيز على ترسيخ نظامه داخلياً.
ما الذي يعنيه ذلك للمستقبل؟ في حال عودة ترامب، يمكن أن يستمر هذا النهج، ما يتيح للنظام المصري حرية أكبر في قمع المعارضة السياسية وحقوق الإنسان، دون مخاوف من عواقب دبلوماسية، ومع ذلك يبقى التساؤل: هل ستتمكن القاهرة من الاستفادة من هذه العلاقة المتساهلة لتعزيز استقرارها الداخلي، أم أن هذا التسامح قد يأتي بثمن في المستقبل، حيث تُصبح حقوق الإنسان ورقة ضغط تُستخدم عند الحاجة؟
ملف حقوق الإنسان في السياسة الأمريكية ليس سوى أداة، تُرفع حيناً وتُخفض حيناً آخر، وفقاً لما يخدم مصلحة الطرف الأقوى، وبالنسبة للسيسي، فإن ترامب يمثل ذلك الحليف الذي يُمكنه الاعتماد عليه لتحقيق أولويات النظام، دون القلق بشأن ملفات لا تعني واشنطن إلا نظرياً.
هل يُنقذ ترامب الاقتصاد المصري؟
تمر مصر بمرحلة اقتصادية حرجة، تجعل من كل فرصة للتعاون الدولي ضرورة ملحّة لتخفيف وطأة الأزمات الداخلية. مع ارتفاع معدلات التضخم، تراجع الاحتياطي النقدي وتعثّر القدرة على تحقيق الاستقرار المالي، تجد مصر نفسها أمام تحديات غير مسبوقة. الحرب في غزة والهجمات الحوثية على الشحن في البحر الأحمر أضافت بُعداً آخر لهذه الأزمات، حيث تراجعت عائدات قناة السويس، أحد أهم شرايين الاقتصاد المصري. وسط هذا المشهد المضطرب، تبدو عودة ترامب إلى البيت الأبيض وكأنها تحمل مفتاحاً لحل بعض هذه المعضلات.
قد يرى ترامب، المعروف بحبه للصفقات الكبرى، في تعزيز الشراكات الاقتصادية مع مصر فرصة لتعميق نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة. بالنسبة له مصر ليست مجرد حليف عادي، بل شريك استراتيجي يمكن الاعتماد عليه لدعم استقرار الشرق الأوسط. هذه العلاقة يمكن أن تترجم إلى زيادة في المساعدات الاقتصادية والاستثمارات الأجنبية، ما يمنح الاقتصاد المصري دفعة يحتاجها بشدة.
لكن السيسي يدرك أن النجاح لا يتوقف فقط على المساعدات المالية، بل على دوره الإقليمي، كلاعب رئيسي في قضايا الشرق الأوسط، فلطالما كانت مصر وسيطاً مهماً في النزاعات بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، ودورها في السودان وإثيوبيا يضعها في موقع لا غنى عنه لتحقيق التوازن الإقليمي. هذه الورقة يمكن أن تصبح عاملاً حاسماً في تعزيز العلاقات مع إدارة ترامب، خاصة إذا استطاعت القاهرة توظيف نفوذها بذكاء لتحقيق أهداف مشتركة.
اتفاقيات أبراهام: فرصة لتعزيز الدور الإقليمي
خلال فترة ولاية ترامب الأولى، كانت "اتفاقيات أبراهام" واحدة من أبرز إنجازاته في الشرق الأوسط. هذه الاتفاقيات، التي شملت تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، شكلت تحولاً جذرياً في طبيعة العلاقات الإقليمية.
في ولايته الثانية، يمكن أن يسعى ترامب إلى توسيع هذه الاتفاقيات لتشمل دولاً جديدة، مثل المملكة العربية السعودية. في هذا السياق، يمكن لمصر أن تلعب دوراً محورياً كوسيط وميسّر لهذه العملية، ما يعزّز مكانتها كلاعب رئيسي في المنطقة.
على الجانب الآخر، فإن تطبيع العلاقات مع إسرائيل قد يكون سلاحاً ذا حدين بالنسبة للنظام المصري. فعلى الرغم من الفوائد الاقتصادية والاستراتيجية المحتملة، إلا أن هذا التطبيع يواجه رفضاً شعبياً واسعاً في مصر، وبالتالي، سيتعيّن على السيسي تحقيق توازن دقيق بين المصالح الوطنية والاستجابة لمطالب الرأي العام.
رغم الفرص التي يمكن أن توفرها عودة ترامب، إلا أن هناك تحديات كبيرة تواجه مصر. أولاً، تصاعد التوترات الإقليمية، سواء بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية أو في لبنان واليمن، يضع مصر في موقف حساس كوسيط إقليمي.
بالنسبة لترامب، مصر ليست مجرد حليف عادي، بل شريك استراتيجي يمكن الاعتماد عليه لدعم استقرار الشرق الأوسط. هذه العلاقة يمكن أن تترجم إلى زيادة في المساعدات الاقتصادية والاستثمارات الأجنبية، ما يمنح الاقتصاد المصري دفعة يحتاجها بشدة
ثانياً، العلاقات مع القوى الكبرى الأخرى، مثل روسيا والصين، قد تصبح موضع تساؤل، في ظل محاولات ترامب لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية في المنطقة. هذه العلاقات، التي نمت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، قد تتعرّض لضغوط إذا ما حاولت إدارة ترامب الحد من النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط.
ثالثاً، يبقى ملف حقوق الإنسان والتعامل مع المعارضة الداخلية قضية شائكة، خاصة إذا ما قرّرت بعض الدوائر السياسية في الولايات المتحدة استخدام هذا الملف كوسيلة للضغط على النظام المصري.
ماذا بعد؟
بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يقف النظام المصري على مفترق طرق، فبينما تلوح الفرص بآفاق واعدة لتعزيز الشراكات الإقليمية والدولية، فإن التحديات المتربصة لا تقل خطورة. هل ستنجح مصر في استخدام هذه اللحظة التاريخية لإعادة تعريف دورها على الساحة العالمية، أم ستبقى أسيرة للتوازنات الحساسة بين مصالحها الإقليمية والضغوط الدولية؟ هل ستتمكن مصر من استثمار هذه العلاقة لتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، أم أن التحولات الجيوسياسية ستفرض واقعاً جديداً يجعل من الصعب الحفاظ على التوازن بين المصالح المتعددة؟
إن الإجابة على هذا السؤال ليست مجرد تحليل سياسي، بل هي فصل جديد في رواية الشرق الأوسط، حيث تُكتب السطور بحبر المصالح وتُحذف بحذر الواقع. الأيام القادمة قد تحمل الإجابة، ولكن في السياسة، كما في التاريخ، كل فرصة تحمل في طياتها اختباراً للبقاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 3 ساعاتحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...