استهجن الكثير من المتابعين، قيام الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بتعيين إيلون ماسك، وزيراً في إدارته القادمة، والبعض استهجن أيضاً ابتداع وزارة جديدة مفصّلة على مقاس ماسك، ولم تكن موجودة في الإدارات السابقة، وربما هي غير موجودة في معظم حكومات العالم، ألا وهي وزارة الكفاءة الحكومية.
الاستهجان الذي أتحدّث عنه استهجان عالمي ولا يخصّنا نحن العرب، فنحن لم نستهجن فعل ترامب، بل استهجنا قبول ماسك نفسه بهذا المنصب، وهو الذي يتربّع على قمة أغنياء العالم، وليس بحاجة، كما يعتقد الكثير في منطقتنا، لا لمال ولا لسلطة ولا لشهرة. هذه المغريات الثلاث التي يفكر فيها العربي حين يُعرض عليه منصب حكومي أو غير حكومي، أو حتى حارس في مبنى البلدية.
ماسك ووزارته المستحدثة
يتوقع المستهجنون وغير المستهجنين من إيلون ماسك، ووزارته المستحدثة، أن يقوما بضرب البيروقراطية الأمريكية في مقتل، أي أن ينهيا هذا الشكل من التنظيم الإداري لصالح شكل جديد لا يمكن لغير المتخصّصين أن يتوقعوا ما هي طبيعته، أو هل سينجح أم لا، وإن نجح، فهل سيبقى حكراً على الولايات المتحدة أم سيتم فرضه وتعميمه على بقية دول العالم؟ وإن تم ذلك بالفرض أو بالتراضي، فهل نحن بصدد عالم جديد كلياً، وأنماط للحكم تتجاوز ما نظّر له فلاسفة القومية ومفكرو مؤسسة الدولة؟
ما هي البيروقراطية التي يريد إيلون ماسك "ضربها"؟ هل هي الكسل المكتبي كما يمكن أن يتبادر لذهن مواطن من الأردن، عانى من إجراءات ترخيص محله التجاري وأصابه الإعياء والملل وهو يتنقل بين مكاتب الموظفين في "أمانة عمان الكبرى"، أم هي الفساد الإداري كما يمكن لمواطن من دمشق أن يعتقد، وهو يهم بالذهاب إلى دائرة الأحوال المدنية لتجديد جواز سفره؟ أم هي المحسوبية والواسطة، كما يفكر أب من رام الله، من أولئك الآباء الذين لا يملكون لا هذه ولا تلك، في لحظة تخرّج ابنه من الجامعة، وبدء البحث عن عمل؟ وهل فعلاً نحن مقتنعون أن لدينا بيروقراطية تشبه تلك التي لا تعجب ترامب وماسك، ويريدان التخلص منها لصالح شكل جديد من الإدارة؟ ولماذا يريدان ذلك؟
استهجن الكثير من المتابعين، قيام الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بابتداع وزارة جديدة مفصّلة على مقاس إيلون ماسك، لم تكن موجودة في الإدارات السابقة، وربما هي غير موجودة في معظم حكومات العالم، ألا وهي وزارة الكفاءة الحكومية
هل يعني هذا أن ترامب وإيلون ماسك سيعبثان بشكل الدولة أو بوظيفتها؟ لنتوقف هنا قليلاً ولنذهب إلى الجانب الآخر من العالم وهو الصين، والتي يكرهها ترامب تحديداً، بل ويبالغ في كرهه لها، وتخضع أسباب هذه الكراهية في منطقتنا لتخمينات ما أنزل الله بها من سلطان، لكنها تتغاضى عن أحد أهم الأسباب، والذي لعب دوراً مهماً في تعيينه لإيلون ماسك وزيراً في إدارته الجديدة.
قليل من السرد التاريخي
في العام 1996 قامت شركة "ميرابيليس" الإسرائيلية بتدشين البرنامج الحاسوبي "أي سي كيو" للمراسلة المجانية، وجيلنا الذي عاش في فلسطين، يتذكر ذلك الشعار المكون من خمس ورقات لنبتة خضراء. بعد عامين من هذا التدشين، أي في العام 1998، قامت الشركة الصينية "تينسينت" بطرح أول منتج لها وهو برنامج للمراسلة الفورية تحت مسمى "او آي سي كيو"، ولكن بسبب أن الشركة الإسرائيلية رفعت قضية حقوق ملكية على الشركة الصينية، قامت الأخيرة بتغيير الاسم إلى "كيو كيو".
هل يعني هذا أن ترامب وإيلون ماسك سيعبثان بشكل الدولة أو بوظيفتها؟
تاريخ التطور اللاحق لتينسينت و كيو كيو مثير للدهشة، ففي عام 2004 طرحت الشركة أسهمها للاكتتاب في بورصة هونج كونج، ما حولها من كيان محلي صغير إلى شبكة عالمية، خصوصاً مع دخولها عالم ألعاب الكمبيوتر في نفس الفترة. في العام 2011 أطلقت منصة "وي شات" للتواصل الاجتماعي، ما جعل عدد مستخدميها يقفز، من مليون شخص إلى مئة مليون، خلال عام واحد. هذا النجاح جعلها تبدأ بالاستحواذ على، أو شراء، شركات في ماليزيا وبريطانيا وفرنسا وفنلندا. هذا التوسع جعلها رائدة في مجال التواصل الاجتماعي وألعاب الهاتف المحمول وخدمات البنوك والذكاء الاصطناعي، وغير ذلك الكثير الكثير، ويمكن بمؤشر صغير قياس مدى نجاح الشركة وهو أن عدد المستخدمين النشطين خلال شهر يقفز عن رقم المليار مستخدم.
ننتهي هنا من هذا الاستعراض التاريخي المختصر، لنذهب إلى الحكومة الصينية، التي هيأت ظروف العمل والاستثمار لهذه الشركة وأطلقت عليها مسمى "البطل الوطني". لكن في عالم اليوم، أو للدقة، في عالم البزنس وعالم الحكم، فإن المسميات والشعارات لا تُطعم خبزاً، أما ما يقوم بالإطعام فهو مبدأ "اخدمني وسأخدمك". لذلك فقد اشترت الحكومة أسهماً في الشركة بمبالغ ضخمة، مقابل قيام الشركة بتطوير عملة رقمية للبنك المركزي، وإعطاء الحكومة "باباً خلفياً"، إن صحّ التعبير، للدخول والتحكّم تحت مسمى "الشراكة الاستراتيجية".
هذا الباب الخلفي، المُستخدم من قِبل نظام حكم مركزي (لا أعرف مدى دقة هذا التوصيف لنظام لا يتبع أساليب الديمقراطيات الغربية في الحكم، لكنني أستخدمه للتمييز لا أكثر)، هذا الباب أتاح للدولة ومؤسساتها، دون المرور بالموظفين "الوسطاء"، أن تحكم من الرأس إلى القاعدة مباشرة. وبهذا الشكل تم الاستغناء عن البيروقراطية بحسناتها وسيئاتها معاً.
أين نحن العرب من كل هذا الذي يجري في العالم؟ وهل على الهامش الذي تتكرّس هامشيته يوماً بعد آخر أن يواصل التصرف كمركز؟ سنحاول الإجابة في المقال القادم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 5 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 15 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع