شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"مثل حبة 'بن' بشي مطحنة جبلية"… حكاية حب فيروز وغادة السمان وحواراتهما البيروتية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء نحن والتنوّع

الخميس 21 نوفمبر 202410:00 ص

قسمت الحرب الأهلية، سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بيروتَ، لتصبح شرقيةً وغربيةً، وشوهت جمالها بالرصاص العشوائي، وفرّقت الأهل والأصدقاء. بقيت فيروز في لبنان، بينما لحقت الكاتبة غادة السمّان بزوجها بشير الداعوق إلى باريس، مطلع الثمانينيات، مع بداية مرحلة جديدة من الحرب، وهي الناجية مرات من الموت.

وكأن سرّهما في تلك العزلة وذاك الصمت الطويل. لم تعرف أديبة وكاتبة مملوءة بالحياة كغادة السمان مقاهيَ وطرقات بيروت، هي التي كانت حديث الأوساط الثقافية منتصف الستينيات وبداية السبعينيات. لكن تلك البومة الشامية المتمردة التي كتبت بمخالبها على صخرة في جبل قاسيون: "سأعود يوماً"، قررت أن تتوحد مع ذاتها، وتغادر كل ذلك الضجيج ،وألا يكون لقاؤها مع القرّاء إلا من خلال الكلمات، وأن تعبّر عن مواقفها وآرائها في كتبها ورواياتها. وهكذا هي فيروز؛ اختارت دوماً أن تحكي من خلال أغنياتها، كما حدث في معرض دمشق الدولي عام 1976، بعد عام من اندلاع الحرب الأهلية في لبنان لتنشد من قلب دمشق: "فأنا هنا جُرح الهوى، وهناك في وطني جراح".

يتراءى لي أن للبحر معهما حكايات من مدّ وجزر، وأنه كان مستمعاً جيداً إليهما، وكاتماً لأسرارهما. تحكي غادة في كتابها "حكايات حب عابرة"، عن فيروز والبحر قائلةً: "هي جارتي في بيروت على شاطئ البحر، وأفتقدهما كثيراً هي والبحر. أما صوتها فيلازمني في ليالي باريس موقظاً في قاعي جذوري".

السفر إلى جارة القمر

حمل غلاف مجلة "الحوادث" عام 1987، عنوان "مسارّة ومصارحة بين فيروز وغادة السمان". تحكي الأديبة الدمشقية باستفاضةٍ وسيل من المحبة عن بداية صداقتهما: "دوماً أذهب إليها كأنها الزيارة الأولى بالدفء العتيق كله... بالمحبة المتأججة فُلّاً دمشقياً وياسميناً منذ الذاكرة الأولى. الذاكرة المنهوبة في عربات الغربة المحملة بالمطر والدمع وصالات الترانزيت الرمادية، والقطارات التي هرولت محطاتها على سكك النسيان وخلفتها في مستنقعات الرمال المتحركة... والذاكرة المستعادة في آماد صوتها اللامتناهية الحيوات".

غلاف مجلة "الحوادث" عام 1987، عنوان "مسارّة ومصارحة بين فيروز وغادة السمان".

تردد على مسامعي مراراً أنه لم يحبّ شعبٌ فيروز كما أحبّها السوريون، وقرأت منشوراً لابنتها المخرجة ريما الرحباني على فيسبوك تقرّ فيه بذلك. حتى أن تقليد بثِّ أغانيها مع كل شروق شمس، كان سورياً، وبدأ من إذاعة دمشق.

تسألها الأديبة الدمشقية: ألم تفكري يوماً في مغادرة لبنان؟ وتجيب جارة القمر: "12 سنةً لم أترك هذا الوطن، ولم أفكر بذلك مرةً واحدةً حتى الآن... القصف؟ نعم أخاف كثيراً في القصف... ماذا أفعل؟ أختار اصغر مكان في البيت، مكاناً يشبه الرحم أو الصدفة، وأجلس فيه، وأبقى"

وعن ذلك الحب تضيف غادة في مقدمتها: "دوماً أذهب إليها بالشوق العتيق كله، بالودّ الذي لا يعرف لعبة الرياء، حاملةً كما في لقائنا الأول حب شعبي السوري الكبير لإبداعها والأخوين رحباني. لا أستطيع أن أنسى كم أحبّت دمشقُ هذا الصوت، وتلك الألحان منذ قديم الزمان في غابر حياتنا... وما زالت. ‘سنرجع يوماً’ لحن كان يتسلل إليّ من نافذة غرفة المكتبة في الجامعة مع أنفاس الربيع الدمشقي المتوحش العشق، ويخترقني كالسهم وأقرر: إذا غادرت يوماً مدينتي، إذا سافرت، فسيكون ذلك إلى فيروز وعاصي ومنصور. يجب أن أرى أولئك الذين زرعوا حياتنا بالنجوم ورعشات البراءة وجعلونا ‘نحنا والقمر جیران’".

اللقاء الأوّل

لطالما خيّل إليّ أن حروف غادة تتخذ شكل طائر "البوم" الذي تحبّ، وتغادر كتبها على رفوف مكتبتي في كل مساء، فهي مثلها لا تطيق أن تبقى سجينةً حتى لو بين دفتي كتاب. هي "عاشقة الحرية"، كما تحب تسمية نفسها. ودوماً أقرأها كبومة برّية عصيّة على الترويض في أقفاص الزينة، فلم أستغرب أن تخترق تلك البومة عالمَ مغنّية برقّةِ فيروز التي أنشدت بعذوبة للطيور. عن تعارفها الأول مع فيروز تقول: "رافقني الصديق الشاعر رفيق خوري إلى بيتهم للمرة الأولى منذ ألف سنة، وقدّمني إليهم، لم أكن أدري أنني أيضاً ألتقي بسيدة ستكون واحدةً من أقرب الصديقات إلى نفسي كإنسانة وستظل دائماً سيدة حزني وليلي وغربتي كمطربة.

وها أنا أزورها من جديد في بيتها البيروتي المطلّ على البحر، وأحضر إليها من باريس وفي صدري الشوق النضر كله. بادرتني بالقول: ما هذه الزيارة الخاطفة، وبهذا الشكل الحزين؟ الحزين حقاً. ثمة شيء حزين في زيارتي إلى بيروت كأنني جئت أتحسس الأشياء، وأتأكد أنّ كل ما كان وقع حق ولم يكن وهماً... أطارد آثار الاصوات والروائح والأحباب. حضور له طعم الوداع".

فيروز: "نعم أخاف كثيراً في القصف"

بجمل شديدة البساطة والعمق في آن، عبّرت فيروز عن الفرق بين الذي يختار البقاء وسط فوضى الحرب والنيران تلتهم أماكن الروح والذكريات في الوطن، وبين من اختار الهجرة والنجاة حاملاً معه وجعه. تعايشت فيروز مع جنون بيروت وحربها وليالي الرصاص والقذائف. تقول لغادة القادمة من مقر إقامتها بقرب نهر السين في باريس، وهي التي عرفت قبل هجرتها، الحرب الأهلية عن قرب، فقد كان بيتها نقطة تماسّ المتقاتلين بين بيروت الشرقية والغربية، واستوحت من يومياتها في تلك الليالي المظلمة والعصيبة رواية "كوابيس بيروت": "الإنسان مجروح ومقهور وين ما كان، اللي بقي واللي سافر، بس المجروح مطرحه مش مثل اللي بينقلوه لبعيد".

تسألها الأديبة الدمشقية: ألم تفكري يوماً في مغادرة لبنان؟ وتجيب جارة القمر: "12 سنةً لم أترك هذا الوطن، ولم أفكر بذلك مرةً واحدةً حتى الآن... القصف؟ نعم أخاف كثيراً في القصف... ماذا أفعل؟ أختار اصغر مكان في البيت، مكاناً يشبه الرحم أو الصدفة، وأجلس فيه، وأبقى".

وتضيف فيروز قائلةً بلهجتها اللبنانية: "فرق بين اللي بقي بلبنان واللي بيروح... صحيح الإثنين بيحبوا لبنان، لكن اللي بيروح بيصير حبّه مختلف، لأنه قدر يروح!".

فيروز وحيدة على رأس جبل

على ورق مجلة "الحوادث" اللبنانية، جمع حوار آخر غادة وفيروز، وعُنون بـ"وحيدة على رأس جبل"، عام 1988. أظنّ أن غادة أرادت دوماً من خلال نشر حواراتها مع فيروز أن تضيء على الجوانب التي لا يعرفها الجمهور، وأن توصل له صورة فيروز التي وصفتها يوماً بالإنسانة التي لا تشبه إلا صوتها، تسألها: غنّيت للجميع، فهل غنّيت لفيروز؟ فتجيب: "فيروز وحيدة على رأس جبل، تزداد الأصوات بعداً عنها يوماً بعد آخر".

غادة السمان

ثم تشير الأديبة السورية إلى عزلة المبدع التي تحدّث عنها الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز، مؤلف رواية "مائة عام من العزلة"، والتي جسدها بيتهوفن عملياً ورمزياً في حكاية طرشه، حين أضحى عاجزاً عن سماع الأصوات كلها، بما في ذلك صوته، باستثناء صوت إبداعه داخل رأسه.

تعقّب فيروز على حديث غادة: "ربما يكمن في ذلك سرّ العبقرية وضريبتها، فحين تخفّ أصوات العالم الخارجي المألوفة يرهف القلب". فتعقب غادة:  "حينما تتكلمين أشعر وكأنك أنت التي كتبت أغانيك!"، لتجيب جارة القمر: "مرةً سألت مين هي فيروز؟ لماذا صارت لا تُلمس، لا تُمسك؟ نفسي انبريت مثل القلم داخل البراية، مثل حبّة 'بن' بشي مطحنة جبلية. مين أنا؟ وليش جيت؟ وليش صرت هيك؟ وبنت مين أنا؟ لا شيء يمرّ 'من حدي (جنبي)'".

تقول غادة: "لأن الإبداع كالموت لا يمكن لك أن تمارسيه إلا وحيدة. يحزنني أنك لا تتكلمين أمام الناس كلهم كما أمام أصحابك النادرين"، وتضيف: "أنك لم تدافعي مرةً عن نفسك ولم تقولي لأحد حتى كلمة عتاب". وتجيب فيروز بعمق أخّاذ كما تصفه الكاتبة: "ما عندي حسرة؛ اللي بدو يفهم عليكي ما بخليكي تحكي (من يريد أن يفهمك حقاً ليس بحاجة إلى أقوالك)... ما كل الناس بتحكي... خليلن الحكي".

 أظنّ أن غادة أرادت دوماً من خلال نشر حواراتها مع فيروز أن تضيء على الجوانب التي لا يعرفها الجمهور، وأن توصل له صورة فيروز التي وصفتها يوماً بالإنسانة التي لا تشبه إلا صوتها

بعيداً عن أضواء المسارح، نذرت فيروز صوتها للترتيل وتنقلت بين كنائس متعددة ضمن الجغرافيا اللبنانية. ويحكى بعد انتهاء الحرب أن صوتها كان يصدح من بين ركام الكنائس العتيقة التي أوقفت أجراسها الحرب، وتركت آثارها على جدرانها. تقول الأديبة الدمشقية: "قلت لفيروز قرأت أنك غنيت في كنيسة أنطلياس 'أنا الأم الحزينة'، وحسدت الأديب جاد الحاج الذي كان هناك بين الآلاف ونقل صورةً بديعةً عما جرى بينك وبين الناس".

وتجيبها فيروز قائلةً: "تذكرتك يومها لأنك لأول مرة لا تكونين هناك، وأنا أرتّل. رتلت هذه المرة في مكان غير الذي تعرفينه، وغير سطح الكنيسة الذي كان يحلو لك الوقوف في كنفها. رتّلت في كنيسة جديدة في ساحة أنطلياس ولكن الناس زحفوا، فملأوا سطح القديمة أيضاً".

بلقيس جرح موجع

لم أستغرب أن تكون تلك النخلة العراقية التي أحبّها الشاعر السوري نزار قباني حد الثمالة، وبقي عمراً يرثيها، أن تكون هي الضلع الثالث في صداقة غادة السمان وفيروز. في كتاب "الأعماق المحتلة"، تحكي غادة السمان عن بلقيس الراوي، الصديقة المشتركة بينها وبين فيروز، وقد شكّلن معاً فريقاً ضد الحزن قبل أن ترحل بلقيس ضحيةً في تفجير السفارة العراقية في بيروت.


تقول غادة: "قبل مصرعها بأسابيع، ذهبنا معاً لزيارة صديقتنا المشتركة المطربة الكبيرة فيروز، وضحكنا وثرثرنا، ومذ غابت بلقيس وأنا أرتجف كلما وقفت أمام باب فيروز، وأتساءل: ترى هل سأجد بلقيس في الداخل في انتظاري؟ كنا نتكاتف معاً في وجه الموت والحزن، ويوم اختطف المرحوم سليم اللوزي، وجدنا أنفسنا نذهب ثلاثتنا معاً لنتفقد أرملته الصديقة أمية... كأننا نجد في صداقتنا حلفاً في وجه الموت والقسوة. وحين ضاعت منّا بلقيس، لم نجرؤ على أن نتحدث حول ذلك. لا فيروز قالت كلمة، ولا أنا، كمن يخشى أن يتحسس جرحاً موجعاً موجعاً". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image