تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، إعداد وتحرير مريم حيدري وسامية التل.
"لم أكتب لأنسى أي رسالة… لكنني عجزت عن تمزيق هذه الرسائل"؛ بهذه الكلمات استهلّت غادة السمان كتابها الصادر عام 2016 والذي نشرت فيه رسائل حبّ كتبها إليها الشاعر أنسي الحاج في العام 1963 بعنوان رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان. جاءت الرسائل المنشورة جميعها من طرف واحد، قابلها صمت تامّ من طرف غادة، وكأن غادة لا تريد أن تقول شيئاً أكثر مما قاله أنسي.
بين انتهاك خصوصية ومشاركة كنز ثمين
رأى البعض في نشر الرسائل انتهاكاً لخصوصية أنسي الحاج؛ ما فتح نقاشاً حول مدى أخلاقية نشر وثائق خاصة عن حياة الكتّاب بعد وفاتهم. فيما اعتبرها آخرون بمثابة اكتشاف ثمين وكنز أدبي، ليس لأنّ هذه الرسائل تكشف زاويةً جديدة من حياة أنسي، "بل لأنها تمثل نصوصاً بديعةً لا تقلّ بتاتاً فرادةً وجمالاً عن قصائد الشاعر ومنثوراته. فأنسي بدا في هذه الرسائل كأنه يكتب لنفسه وعلى طريقته الخلاقة والمشبعة بالتوتر والجمال".
لم تستشِر غادة أحداً في أمر نشر الرسائل
"لم استشر أحداً في أمر نشرها... هذه قضية أحمل بمفردي مسؤوليةَ الجحيم الذي قد أوقده لنفسي بإصدارها"؛ بهذه الكلمات القليلة قررت غادة وحدها تحمُّل مسؤوليةِ ما قد يترتب عليه نشر رسائل أنسي الحاج إليها. وفي مقال نشرته في القدس العربي تلا نشرها للكتاب، كشفت السّمان عن دوافع نشر هذه الرسائل؛ فالنسبة لغادة، ليس المهم في الرسائل لمن كتب أنسي الحاج "إبداعه" بل "إبداعه" نفسه. وقالت: "أنا لا أستطيع تمزيق كلمة مبدعة… وأجد أن قتلَ نصّ إبداعي يوازي الشروعَ في قتلِ طفل".
"كيف الحال؟ لستُ مشتاقاً إليك فحسب، بل… بل ماذا؟ لا أعلم تماماً. الثابت أن هناك شيئاً آخر أميل إلى العشق. والأدهى من ذلك كله هو أنني أحبّ أن أحبّك"... من رسائل أنسي الحاج لغادة السمان
كما أنّ أحد الأهداف الرئيسية من نشر غادة للرسائل هو ما عبّرت عنه في ختام مقالها الذي جاء فيه: "أنا متمردة على القوالب الجاهزة التقليدية المثقلة بالمحرمات و(التابو) في أدبنا العربي، وأحاول المساهمة في إدخال اللون الناقص في لوحته (أي أدب الاعتراف) بأنماطه كافة: الحميم من الرسائل، المذكرات وسواهما، الشائعة في آداب الغرب، والذي نفتقر إليه مقصرين بذلك عن أجدادنا التراثيين الذين لم تقم قيامتهم حين تغزّلتْ جدتي ولادة بنت المستكفي بالحبيب الشاعر ابن زيدون وتغزل بها حتى الثمالة والجنون".
مضمون الكتاب
يتألف كتاب "رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان" من سبع رسائل. تأخذ الرسالة الأولى تاريخ 02/12/1963، ثم الرسالة الثانية تاريخ 3،4/12/1967، والرسالة الثالثة تاريخ فجر الخميس 5/12/1963، وبدءاَ من الرسالة الرابعة إلى الأخيرة تسقط التواريخ.
سنقوم في ما يلي بالوقوف على أهمّ ما ورد على لسان أنسي الحاج في كلٍّ من الرسائل السبع التي كتبها إلى غادة السمان.
الرسالة الأولى
منذ الرسالة الأولى وحالة أنسي بدأت تنكشف شيئاً فشيئاً. بدا من الرسالة أنه يعيش ضياعاً تاماً؛ ضياعٌ غادة وحدها يمكنها أن تنقذه منه. بدأ رسالته بالتعبير عن حاجة ملحّة إلى وضوحٍ ينشده، فكتب في أول رسالته إلى غادة: "المسألة بحاجة إلى وضوح، كثير من الوضوح".
وفي متن الرسالة عرف أنه أبعد ما يكون عن مرحلة بعيدة عن الالتباس، فكتب: "الوضوح الذي أنا بحاجة إليه لم أقدّمه. كنتُ أعرف أنني سأفشل في تقديمه. لكنني أردت أن أجرب. أردت، لأنني أطمع بمشاركتك. أطمع بها إلى حدّ بعيد جداً. لكن رغم هذا أعتقد أنني سأقول لك شيئاً واضحاً. وقبل كل شيء، هذا: إنني بحاجة إليك".
"أريدك أن تكوني معي. أن تكوني لي. أريد، أكثر من ذلك، أن أكون لكِ"
حالة التخبط الكبير التي كان يعيشها أنسي طغت على مجمل الرسالة الأولى، التي قرر في آخرها الاعتراف بحاجته الكبيرة لغادة. فكتب: "أصبحتِ أنت التجسيدَ للإنسان الذي أنا بحاجة مصيرية ملحّة وعميقة وعظيمة ورهيبة إليه"، ليختم رسالته الأولى بطلبٍ يختصر كلّ ما يريد من غادة، فكتب:"أريدك أن تكوني معي. أن تكوني لي. أريد، أكثر من ذلك، أن أكون لكِ".
الرسالة الثانية
يعترف أنسي الحاج في رسالته الثانية إلى غادة أنه وجد فيها المرأةَ التي كان دائماً ينظرها. يبدأ رسالته بالتعبير عن شوقه إليها، فيكتب: "كيف الحال؟ لستُ مشتاقاً إليك فحسب، بل… بل ماذا؟ لا أعلم تماماً. الثابت أن هناك شيئاً آخر أميَل إلى العشق. والأدهى من ذلك كلّه هو أنني أحبّ أن أحبّك".
يخبر أنسي غادة في الرسالة الثانية عن تجارب حبّ عاشها مع نساء أخريات، وما كوّنّه من تصوُّر عنه أنّه يخلع عنه النساء كما يخلع عنه قمصانه. يؤكد أنسي لغادة أنه في الواقع النقيض الكامل لهذا النوع من الرجال. فحلمه ينحصر في أن يحبّ امرأةً واحدة حباً وحيداً، ويخلص لها للنهاية.
في الرسالة الثانية تسيطر مشاعرُ الغيرة على قلب المرسِل الذي يعترف لغادة بالقول: "كلّما كنت أطالع خبراً عنك كان يتولاني شعور واضح بالغيرة والضيق والخوف. كنتُ أغار عليك من العالم".
ويختم رسالته بتحميل غادة مسؤوليةَ كلِّ ما يتعلق به، فيكتب إليها: "ليتك تعلمين كم أنتِ كلّ شيء في صيرورتي. ليتك تعلمين كم أنتِ مسؤولة الآن. لو تعلمين إلى أي درجة أنتِ مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفتِ من الرعب".
الرسالة الثالثة
في الرسالة الثالثة، يطلب أنسي من غادة أن تمتلك شجاعةَ الاعتراف بحاجتها إليه، لأنه لا يعتقد أنه وحده بحاجة إليها. وتعكس الرسالة حالةَ التمزق الكبير التي يعيشها الكاتب، فتتدفق عاطفتُه في الرسالة بما يشبه النزق، فيقول لها: "اسكبي على عقلي نارَك. خذيني. افتحي لي باباً، افتحي لي قبراً... فتّتي أعصابي، خذيني. لم يصرخ أحدٌ من قبلي هذه الصرخة: خذيني".
"اسكبي على عقلي نارك. خذيني. افتحي لي باباً، افتحي لي قبراً... فتتي أعصابي، خُذيني، لم يصرخ أحد من قبلي هذه الصرخة: خذيني"... من رسائل أنسي الحاج لغادة السمان
ينشد أنسي في الرسالة الثالثة الذوبانَ في غادة والتوحّد فيها، وكأنه تدرَّج في مراحل الحب سريعاً ليصل إلى مرحلة طلب الفناء في المحبوب، فيكتب لغادة: "لا أريد أم يبقى مني شيء. أريد أن أجدّد عهد صوفية الجسد والروح، وأفنى في امرأة. اتركيني أفعل فنائي فيك".
الرسالة الرابعة
رسالة أنسي الرابعة إلى غادة كناية عن رسالة تفريغٍ لعدد كبير من الأسئلة التي تشغل باله، وكأنما فجأة التبستْ على أنسي كلُّ الأمور. رسالته الرابعة مجموعة أسئلة؛ أسئلة لا يوجهها إلى غادة حتى. أسئلة يشعر بالحاجة إلى طرحها فقط. فيسأل وكأنه يفكّر بصوت عال: ما الحب؟ ما الانجذاب؟ كيف تُقاس الأمور؟ هل ما يشعر به هو مجرّد رغبة في المغامرة؟
يسأل غادة: "ألا أعتقد أني ارتكبتُ للمرة الأولى في حياتي حماقة ضخمة تهتزّ لها ضحكاً الدولُ العربية من المحيط إلى الخليج؟"، "لكن الحب؟ الحب عار؟ سقوط؟ انخداع؟ أظنّ أنني أحبها؟ ربّما؟ أليس المؤكّد على كلّ حال أنني أحب أن أحبها؟ أليس الأكثر تأكّداً أنّني أحبّ أن تحبني؟".
وفي خضمّ زحمة التساؤلات كلها، يبقى جواب واحد يعرفه، أو حقيقة واحدة يدركها أنسي شديد الإدراك، يعبّر عنها في نهاية رسالته لغادة، فيقول: "لكن لو أراد الإنسان أن يصوغ أفكاره بشكل مختصر يتضمن كلَّ الحقيقة لقال مثلاً: أحبّيني؟ لا. بل قال: دعيني أمتلئ بك وأملؤك".
الرسالة الخامسة
يحاول أنسي الحاج في رسالته الخامسة تفهّم موقف غادة الحذر من الدخول في علاقة حبّ معه، فيكتب لها: "أنتِ تعتقدين أن التجارب التي مرّت بك تضطرّك إلى التزام موقف الحَذَر الشديد والحيطة والتنبُّه والشكّ والرفض والسخرية الذي التزمتِه معي حتى الآن. أنا أفهم تفكيرك جيداً".
لكن شيئاً ما في داخله يقول له إن غادة هذه المرة تدرك تماماً صدق مشاعره، وأنه جدّيّ في حبه لها. فيسألها: "لماذا، لماذا يخيّل إلي أنك تعرفين أنني صادق، ولكنك ترفضين أن تنساقي مع هذه المعرفة؟".
"صدري امتلأ بالدخان. أشعر بحاجة لا توصف، لا يصدقها العقل، إليكِ. أشعر بجوعٍ إلى صدرك. بنهمٍ إلى وجهك ويديكِ ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك. بنَهَمٍ إليك. أشعر بجوعٍ وحشي إلى أخذِك. إلى احتضانك واعتصارك..."
وبعد محاولات تفهُّم حذر غادة من خوض التجربة، وبعد دفعها لسماع ما يقول له قلبُها بخصوص صدقِ مشاعر أنسي، ينفجر الشاعرُ في آخر الرسالة، ويبوح عن حاجته التي لا تُصدَّق لحبّ غادة والقرب منها والاتحاد معها: "صدري امتلأ بالدخان. أشعر بحاجة لا توصف، لا يصدقها العقل، إليكِ. أشعر بجوعٍ إلى صدرك. بنهم إلى وجهك ويديكِ ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك. بنَهَمٍ إليك. أشعر بجوعٍ وحشي إلى أخذك. إلى احتضانك واعتصارك وإعطائك كلَّ ما فيّ من حاجة إلى أخذ الرعشة الإلهية وإعطائها. كياني كلّه تحفز إليك".
الرسالة السادسة
في هذه الرسالة، يعبّر أنسي أنه مترقب بخوف موعد لقائه التالي مع غادة. شعور ما بداخله يقول له إن خللاً سيطرأ على الموعد أو إن غادة ستقرر الاعتذار عن المجيء في آخر لحظة.
"غادة، أرجوكِ، أستحلفك بأحبّ الأشياء عندك، أستحلفك بأنبل ما فيك أن تصدّقيني. أرجوكِ.أرجوكِ يا غادة. أرجو أن تفتحي لي قبلك. أن تأتي إليّ. أن تأخذيني أخيراً إليك. لم أتزوج بعد… لم تتزوجي بعد.. أرجوك أن تأتي إليّ"
ويختم الرسالة بالتعبير عن أحد أكبر مخاوفه، وهي أن يبقى وحيداً:
"هل يصدق حدسي؟
أتمنى أن يكذب.
وعلى كل حال، بسيطة. أظنّ أنّني سأبقى وحدي.
وإنني أكره ذلك".
الرسالة السابعة
في آخر رسالة نشرتها غادة، يكتب أنسي عن إخفاقاته في الحبّ. وكيف كانت دائماً المعادلة في حياته أن تكون أكثر امرأة أحبّها هي أكثر امرأة خسرَها. ويتوسل غادة مرة جديدة أن تتيقن من حبِّه لها وأن تأتي إليه قبل أن يفوت الأوان.
فيكتب: "غادة، أرجوكِ، أستحلفك بأحبّ الأشياء عندك، أستحلفك بأنبل ما فيك أن تصدّقيني. أرجوكِ.
لم أتزوج بعد… لم تتزوجي بعد..
أرجوك أن تأتي إليّ".
في الختام
وفي الختام، نسأل: هل يا ترى في جعبة غادة السمان المزيد من الرسائل التي وصلتها من أدباء وكتّاب نحبّهم ونقرأ لهم؟ وهل ستنشر غادة كلَّ الرسائل التي وصلتها؟
تجيبنا غادة نفسها: "بالتأكيد لا، سأنشر المبدع منها أو الآتية من مبدعٍ ما في حقله، مثل بليغ حمدي مثلاً، المبدع في حقل الموسيقى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...