اشتهرت العراقية بلقيس الراوي، في أوساط الأدب العربي، بفضل زوجها الشاعر الكبير نزار قباني، الذي كتب عنها عشرات القصائد والمقالات الصحافية التي خلّدت اسمها إلى الأبد. برغم ذلك فإن بلقيس لم تكن مجرد زوجة جميلة لشاعر موهوب، وإنما تمتّعت بشخصية رائعة جلبت لها اهتمام كل مَن عرفها، بِمن فيهم أصدقاء نزار من الأدباء والشعراء.
بلقيس... قبل نزار
في آذار/مارس 1939، وُلدت بلقيس في مدينة الأعظمية، لعائلة الراوي التي تنحدر أصولها من مدينة راوة في محافظة الأنبار.
عقب الانتهاء من دراستها الثانوية، عملت بلقيس في وزارة المعارف التي عيّنتها في إحدى مدارس البنات في مدينة الأعظمية. خلال إحدى الفعاليات التي أقيمت في المدرسة، التقت بنزار للمرة الأولى عام 1962، وكانت نقطة تحوّل غيرت حياة كلٍّ منهما إلى الأبد.
والدها هو جميل الراوي، الذي عُرف بدوره الكبير في تأسيس فرق الكشافة داخل مدارس العراق، وقد بدأ عمل هذا منذ العام 1921، بناءً على تكليفٍ رسمي من وزارة المعارف العراقية.
بلقيس لم تكن مجرد زوجة جميلة لشاعر موهوب، وإنما تمتّعت بشخصية رائعة جلبت لها اهتمام كلَّ مَن عرفها، بِمن فيهم أصدقاء نزار من الأدباء والشعراء
في مذكرات ساطع الحصري، الذي لعب دور المُشرف العام على هذه الفرق، ثمة وصف جميل له، يفيد بأنه "شابٌ جمّ النشاط"، وأنه سافر إلى إنكلترا لتعلّم مختلف الأمور عن الكشافة ثم عاد إلى وطنه ليُطبّق كل ما تعلمه هناك.
حكى عنه أمين المميز، في كتابه "بغداد كما عرفتها"، قائلاً: "كان مُدرِّس الكشافة وقائدها جميل الراوي (أخ نجيب وأحمد الراوي) قد جعل من كشافة مدرسة الحيدرية أمتع وأفضل نشاط فيها".
وفي كتابه "كناش الثمانين"، تطرّق المميز مرةً أخرى إلى سيرته فقال: "كان السيد جميل شخصيةً محبوبةً ومحترمةً من قِبَل الطلاب وموفقاً جداً في قيادة الفرقة وتدريبها".
لسنواتٍ طويلة بذل جميل، مجهوداً كبيراً في نشر فكرة الكشافة في المحافظات العراقية حتى وصل عدد الملتحقين بها بين عامي 1930 و1931، إلى 12 ألف طالب، حسب ما ذكر المؤرخ العراقي نجدة صفوة، في كتابه "خواطر وأحاديث في التاريخ".
جميل ضد نزار
حينما أُعجب نزار قباني ببلقيس، تقدّم لخطبتها من والدها الذي رفض بشكلٍ تام، لأنه كان يتمنى زواج ابنته من رجلٍ عراقي. بعدها غادر نزار بلادَ الرافدين، لكن كلاً منهما تعلّق بالآخر ورفض الاقتران بغيره، وظلاّ على تواصل لسنواتٍ لاحقة حتى عاد نزار إلى العراق مُجدداً لحضور مهرجان المربد الشعري.
حينها ألقى قصيدةً شهيرةً تعرّض فيها لحبيبته التي لا يستطيع الاقتران بها، فقال: "أين وجهٌ في الأعظمية حلو/ لو رأتْه تَغارُ منه السّماءُ؟"، هذه المرة استعان نزار بـ"واسطة حكومية" لإتمام الزيجة، بعدما تدخّل فيها رئيس الدولة أحمد حسن البكر شخصياً، وبعث شفيق الكمالي وزير الشباب مندوباً عنه لطلب يد بلقيس. وهذه المرة لم يستطع جميل الراوي الرفضَ ووافق.
وفي شهادة هدباء قباني، ابنة نزار من زوجته الأولى، عن تفاصيل العلاقة بينهما، قدّمت روايةً أخرى لهذا الحدث، وهي أن نزاراً اصطحب 7 سفراء عرب من أصدقائه إلى الأعظمية للقاء والدها الذي أُحرج من الحضور، فوافق، بعدما علم أن ابنته سترفض الزواج بأي رجل آخر.
قبيل سفرها مع نزار إلى لبنان، ودّعت بلقيس صديقاتها في المطار قائلةً: "لم أتزوج زوجاً تقليدياً، أنا تزوجت هيروشيما"!
من ضمن الدعم العراقي الرسمي المُقدَّم لإنجاح هذه الزيجة، إلحاق بلقيس بالسفارة العراقية في بيروت لتعمل مستشارةً صحافيةً فيها وتعيش بجوار نزار في المدينة التي أحبّها وقرر قضاء تلك الفترة من حياته فيها، حسب ما ذكر مصطفى جحا في كتابه "في سبيل الشعر: معاً إلى عُكاظ".
بلقيس... زوجة مثالية لشاعر
في حديثها عن بلقيس، كشفت هدباء قباني، أن حياتهم تغيرت إلى الأجمل بعد مجيء بلقيس، لأنها كانت ذكيةً جداً في تعاملها مع نزار الذي يحبّ شعره أكثر من أي شيء، لم تحاول بلقيس منازعة نزار في شِعره، فكانت تُفسح له المجال للقاء معجباته دون غيرة، وتمنحه الوقتَ ليكتب بأريحية، حتى أنها كانت ترفض قراءة القصائد قبل نشرها.
وبحسب هدباء، كانت بلقيس تملك "كرم العراقيين واندفاعهم"، وهو ما ساهم في إخراج نزار من عُزلته عن العالم. كما كشف عبد الرحمن ربيعي، في كتابه "من ذاكرة تلك الأيام"، أن الأجواء الثقافية في بيروت أعجبت بلقيس، وانسجمت معها سريعاً وباتت جزءاً منها، فاتسعت معارفها بين الأدباء، وهو ما يفسّر حِرص عددٍ منهم على الحديث عنها في مذكراتهم.
اعتادت بلقيس دعوة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، إلى الغداء معهم. بعدها كانوا يحتسون القهوة معاً، وقد تفاجأ درويش بحجم ثقافتها وسِعة اطلاعها حتى أنه كان دائماً يصفها بـ"صديقتي التي حلّت محل أبي بحُسن ضيافتها لي".
الأمر نفسه تكرّر مع الأديبة العراقية عالية ممدوح، التي حكت في كتابها "الأجنبية"، كيف أن بلقيس كانت تدعوها لتناول الطعام معها في شقتها القريبة من مفرق الكولا في بيروت. في كتابها، كشفت عالية، المزيد من انطباعاتها عن بلقيس، فقالت: "كانت تمسك القيادة، ويفرض جمالها نفسه"، ثم أضافت أنها حضرت بعض الجلسات التي كان درويش يحضر فيها إلى منزل نزار، وكانت تستمتع بأحاديثهم لأنها "كانت تحترم الثلاثة".
بعد سنة من رحيلها لم يعد نزار قادراً على احتمال بيروت من دونها، فغادرها، وقرَضَ قصيدته الشهيرة "بلقيس" التي حملت هجوماً جارفاً ضد الأمة العربية بأسرها، جاء فيها: "حبيبتي قُتلت/ وصار بوسعكم أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة"
كما أصبحت بلقيس صديقةً لدرويش وعالية، باتت صديقةً كذلك لأديبة أخرى هي غادة السمان، التي تطرّقت إلى سيرتها في مؤلفاتها، فوصفتها في كتابها "غربة تحت الصفر"، بأنها "نخلة عراقية نادرة لا تزال تزورها في أحلامها".
وفي كتابها "الأعماق المحتلة"، خصّصت غادة، صفحات عدة للحديث عن بلقيس فوصفتها قائلةً: "جميلة حقاً، فارعة القامة كنخلة عراقية، شقراء الضفيرة، ناصعة البياض، تسري في عينيها خضرة عذبة حين تضحك".
برغم هذا الوصف التفصيلي، أكدت غادة أن جمال بلقيس لم يكن إلا قشرةً خارجيةً خدعت الجميع وجعلت الكثيرين يتعاملون معها باعتبارها المرأة الجميلة التي سحرت رأس الشاعر الكبير. لكن الحقيقة أنها "كانت شيئاً أكبر من ذلك بكثير".
تقول غادة: "ليس بين أصدقاء نزار مَن لم يحترمها ويقدّرها أو يسرُّ لها بهمِّه طالباً مشورتها، كانت لها مكانة كبيرة في نفوس الجميع".
ضياع الوحدتين
في بداية 1979، تسارعت وتيرة مباحثات الوحدة بين العراق وسوريا، الأمر الذي أثار سعادة نزار قباني، فزار بغداد للاحتفال بهذه المناسبة، وعدّ هذه "الوحدة الكبرى" تكريساً للوحدة الصُغرى التي سبق أن قامت بين نزار السوري وبلقيس العراقية.
خلال هذه المناسبة أدلى نزار بحديث كشف فيه بعض صفات زوجته، فقال: "بلقيس زوجة يجتمع فيها النقاء مع الأصالة، متماسكة الشخصية، قليلة الكلام، عالمها الداخلي رحب وشاسع".
لم يكن نزار يدري أن هذه الوحدة تحديداً ستكون سبباً غير مباشر لوفاة زوجته، بعدما انقلب عليها صدام حسين، وأجبر أحمد حسن البكر رئيس البلاد على الاستقالة ليتولى هو قيادة العراق ويدخل في عداءٍ شديد مع الرئيس السوري حافظ الأسد وصل إلى حربٍ بالوكالة في لبنان الذي عاش أجواءً ملتهبةً بسبب الحرب الأهلية التي عصفت بكل أركانه.
أحد أكبر تجليات هذه الحرب هو الانفجار الذي وقع في كانون الأول/ديسمبر 1981، بعدما استهدف انتحاريٌّ منتمٍ إلى حزب الدعوة الإسلامية -المدعوم من إيران وسوريا- مبنى السفارة العراقية بسيارة مفخخة دمّرته وأنهت حياة 60 فرداً من بينهم السفير عبد الرزاق لفتة، وبلقيس الراوي، المستشارة الصحافية في السفارة، وآخرين.
أزعجت هذه العملية القوات الفلسطينية في لبنان، وعدّتها خرقاً خطيراً لأمن بيروت الغربية الواقعة تحت سيطرة القوى الوطنية اللبنانية المتحالفة معها، لذا عبّر ياسر عرفات عن استنكاره لهذه العملية، بعدما أقام جنازةً عسكريةً لجميع الضحايا، من بينهم بلقيس، حضرها بنفسه ورافق الجثامين حتى المطار.
بعد سنة من رحيلها لم يعد نزار قادراً على احتمال بيروت من دونها، فغادرها، وقرَضَ قصيدته الشهيرة "بلقيس" التي حملت هجوماً جارفاً ضد الأمة العربية بأسرها، جاء فيها: "حبيبتي قُتلت/ وصار بوسعكم أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة".
سافر نزار بعض الوقت إلى القاهرة، ثم عاش بقية حياته متنقلاً بين سويسرا وفرنسا وبريطانيا، حتى تُوفي عام 1998.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون