شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حلب، لوس أنجلوس، بيروت، دبي... عن الحب والمدن والطعام

حلب، لوس أنجلوس، بيروت، دبي... عن الحب والمدن والطعام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الاثنين 18 نوفمبر 202405:05 م

نُشر هذا النص للمرة الأولى في كتاب بعنوان "عبق الحنين"، في طبعة محدودة بدبي. وقد كُلفت هناء نصير بترجمته قبل الكاتبات.

نص: دينا صباحي

ترجمة: هناء نصير 

التذوق والشم حاستان تحركان ذاكرتنا أكثر من غيرهما. ربما هذا هو السبب في أن ذكريات الطفولة غالبًا ما تدور حول الوجبات والتجمعات العائلية.

هذه الذكريات، بدورها، تشكل الهويات، وتساعد الناس على تحديد من أين أتوا، جسدًا وعقلًا وروحًا. من هنا تبدأ قصتي. قصة هويتين في جسد واحد، في عقل واحد، تتأرجحان وتتحددان وفقًا للظروف، والأهم من ذلك، لما آكله.

جداي لأمي وجداي لأبي هاجروا إلى الولايات المتحدة، في أوائل ستينيات القرن العشرين وسبعيناته، على التوالي. جميعهم في الأصل من حلب السورية، نعم، الأربعة. لم يتخذوا طريقهم مباشرة لكاليفورنيا، فقد توقفوا لعقود في كل من الإسكندرية والدار البيضاء وميلانو، قبل أن يشقوا طريقهم، في النهاية، إلى الولاية المشمسة. سأقص عليكم المزيد عن ذلك لاحقًا. لنبدأ بالهوية الرقم واحد.

لوس أنجلوس 

لقد نشأت كأنجيلينو نموذجية: ألعب الكرة الطائرة الشاطئية، أتزلج على الجليد، وأركب الدراجات على الشاطئ، ولا أمتلك معطفًا! قضيت العديد من عطلات نهاية الأسبوع في الانتظار في طابور لحضور العرض الأول للأفلام كحرب النجوم وجلايس، أو في حضور المعارض وأسواق السلع المستعملة في روز باول، ومشاهدة مباريات ليكرز وجلوبتروترز، والاستمتاع بأفضل الأطعمة التي يقدمها جنوب كاليفورنيا.

مع عدم وجود أخ أو ابن عم في النصف الأول من طفولتي، شُمِلتُ في كل حدث وزيارة لمطعم. فساهم انفتاحي المبكر على مختلف المطاعم في تكوين معرفة هائلة. قد يفاجأ الكثيرون أن يعرفوا أن جنوب كاليفورنيا كانت نقطة جذب للطهاة من مختلف البلدان، في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته. فتذوقنا السوشي قبل أن يعرفه أي شخص خارج اليابان. وجاء العديد من الطهاة الفرنسيين إلى شواطئنا لإثارة إعجاب الجميع بمطبخهم بمنمنماته الجميلة الدقيقة. 

هاجر جداي لأمي وجداي لأبي إلى الولايات المتحدة، في أوائل ستينيات القرن العشرين وسبعيناته، على التوالي. جميعهم في الأصل من حلب، ولم يتخذوا طريقهم مباشرة لكاليفورنيا، فقد توقفوا لعقود في كل من الإسكندرية والدار البيضاء وميلانو، قبل أن يشقوا طريقهم، في النهاية، إلى الولاية المشمسة

كذلك هناك المأكولات البحرية الطازجة الرائعة كالدلاء المليئة بالسلطعون والمحار. وإلى جانب المطبخ الصيني والكالي، بالطبع، كان هناك تأثير كبير من الجنوب، الطعام المكسيكي! تاكو جراد البحر، تاكو أسماك باجا كاليفورنيا، تاكو لحم البقر في جميع الأشكال (مفروم، شرائح، مسحب) وتاكو الدجاج. أكلت الطعام المكسيكي، تحدثت اللهجة المكسيكية الإسبانية، شاهدت التلفزيون المكسيكي، ووقعت في حب كل عضو في فرقة الصبيان المكسيكية "مينودو" الناجحة بشكل كبير. 

الـ"تاكو" له مكان دائم في قلبي، وخاصة تاكو أسماك باجا كاليفورنيا. وحتى اليوم، كل مرة أراه في قائمة طعام، لا بد لي أن أطلبه، للاستمتاع وللمقارنة. ليس هناك نسخة سيئة بالنسبة لي، فقط الاختلافات; هذا هو مقدار ما يعني لي الطبق. وهو كذلك طبق معتاد في بيتي، ووجبة مفضلة لعائلتي ولأصدقائي الذين يطلبون مني إعداده حال زيارتي. لذيذ، ممتع، وسهل الصنع، يمكن كل شخص أن يصنع توليفته الخاصة_ مع سلو الكرنب للقرمشة، مع جراكومولي للنكهة، مع كريما مكسيكانا للحصول على لمسة ناعمة ولاذعة_ ودائماً بداية محادثة. العلامة الحقيقية على نجاح الوجبة، تحدث الضيوف عن الطعام.

حلب 

بالتوازي مع نمط الحياة هذا في لوس أنجلوس، كانت هويتي الثانية، المتصلة بعمق المطبخ الحلبي، الوقت الذي أقضيه مع عائلتي: أجدادي الأربعة وخالاتي وأخوالي وعماتي وأعمامي، القاطنين على مقربة شديدة منا، أبعدهم يقطن على بعد خمسة عشر دقيقة، أي على بعد مربع سكني واحد.

في نهاية كل أسبوع، وفي كل عطلة، ومرة واحدة على الأقل في الأسبوع، كانت وجبات ضخمة_ بمعنى كلمة ضخمة_ تعد في منزل جداي لأمي.

لا أتذكر أن العدد كان في أي مرة أقل من عشرين شخصًا. كيف تمكنوا من استضافة هذا العدد من الناس بانتظام، لا يزال لغزًا بالنسبة لي. دائمًا كان هناك الكثير من الضحك، والكثير من الصراخ، وكان هناك دائمًا حديث عن السياسة، والكثير من الطعام.

على الرغم من أن أفراد من عائلتيّ والديّ غادروا حلب منذ بدايات القرن العشرين، وشيدوا منازل في عدد من المدن في جميع أنحاء العالم، إلا أن الطعام ظل حلبيًا بحب وتصميم، كبة نيئة حارة، محشي ورق العنب بالليمون، محمرة نارية (معجون الجوز والفلفل الأحمر)، ومئات من جرار المخللات من صنع جدي.

اعتاد جدي أن يخلل كل ما يصلح للأكل. كانت كل جرة فريدة من نوعها، فلا يتشابه ماء المخلل في جرتين، وشاركه جميع أفراد العائلة حبه للمخللات الحارة أو الحامضة، وغالبًا كلتيهما.

حال دخلولي منزلهم، أنسى تمامًا أصناف مثل الكوردون، شطائر اللحم، ولفائف البوريتو المكسيكية، إذ تلتقط حواسي روائح وجباتي العائلية المفضلة.

- جدتي، هل أعددتِ ورق العنب الليلة؟

- جدي، هل هناك فتة مكدوس للعشاء؟

وهذا الأخير هو المفضل لدي، وهو مزيج من الباذنجان المقلي، المحشو باللحم المفروم المطهو في صلصة الطماطم المتبلة والمعطرة، والملفوف في الخبز السوري المقرمش، مع الثومية والطحينة. 

على الرغم من أن أفراد من عائلتيّ والديّ غادروا حلب منذ بدايات القرن العشرين، وشيدوا منازل في عدد من المدن في جميع أنحاء العالم، إلا أن الطعام ظل حلبيًا بحب وتصميم، كبة نيئة حارة، محشي ورق العنب بالليمون، محمرة نارية، ومئات من جرار المخللات من صنع جدي

عندما يكون المكدوس ضمن قائمة الطعام، أحرص على الوصول إلى الطاولة أولًا، وأكدس نصف الطبق بشراهة على صحني. في كثير من هذه التجمعات العائلية، كنت الطفلة الوحيدة الحاضرة، لذا كنت أجلس في المطبخ أثناء إعداد الوجبات، فيما يتحرك جداي حولي، مقدمان لي بين الحين والآخر، لقمة لتذوق التوابل.

تعم المطبخ فوضى منظمة، وكنت أحب كل ثانية من الوقت الذي أقضيه فيه. بمجرد أن نتمتع بالأطباق الكثيرة جدًا جدًا جدًا، كان الكبار يتحلقون للحديث، يتجادلون، يضحكون، يلقون النكات باللغة الإنكليزية، مع ربتات مصحوبة بكلمات بالعربية، ما كان يغيظني لأني لم أستطع أن أفهم ما يقولون، وبالتالي كان التشويق مؤلمًا، كان الشعور بالتقارب والسلامة اللذين توفرهما هذه التجمعات، لا يقدر بثمن.

ذكرياتي المفضلة حول الطعام الحلبي، مع ذلك، نبعت من مكان بعيد عن المطبخ المريح وغرفة الطعام الممتلئة. في كثير من الأحيان، كان جدي لأبي، مصطفى، يسأل هل أرغب في مرافقته للمتجر العربي. في ذلك الوقت، في سبعينيات القرن العشرين، كانت الأماكن الوحيدة التي تبيع التوابل والخبز والجبن والمواد الغذائية اللازمة لصنع الطعام السوري، بعض المتاجر الأرمنية الصغيرة البعيدة عن المكان الذي كنا نعيش فيه.

يتخلل الرحلة القليل من الكلام، تشوقًا لما سيأتي. أجري لداخل المتجر الصغير السحري، تغمر حواسي رائحة النعناع المجفف والبهارات والكمون، التي تعلو فوق الروائح الأخرى. المحطة الأولى، للأرفف التي تحمل شرائح رقيقة من البسطرمة الملفوفة في ورق، جاهزة لتطهى مع البيض المخفوق وتلتهم مع الخبز السوري.

على رف آخر، ترقد جبنة الحلوم، الفيتا المملحة، الكاشكاوان الدسمة، الرومي القديمة. بينما تبدو كل هذه الأصناف الآن شائعة لغاية، توجد في كافة المحال، لكن في ذلك الوقت والمكان، كانت مثل الذهب.

ثم نصل للتوابل. أهمها بالنسبة لي: السماق الأحمر الرائع، لاذع يجري الريق في الفم. كان السماق، ولا يزال، من أكثر التوابل المفضلة عندي. التوابل الجميلة واللذيذة، التي غالبًا ما تستخدم فقط في تمليح السلطة، لا تستخدم، ولا تحظى بالتقدير، بالقدر الكافي.

أحد الثنائيات المفضلة لدي: السماق والدجاج، طبق بسيط، ولكن مشرق ومشمس. يتكون من مكعبات الدجاج المنقوعة في خليط الثوم والملح والفلفل الأبيض وزيت الزيتون، والكثير والكثير من السماق. اخبزوها ببساطة واستعدوا للنكهات المكثفة، بشكل غير متوقع لهذا الطبق. كثيرًا ما أعدت أمي هذا الطبق من أجلي، لأنني لا أكتفي منه.

على مر السنين، غيرت وعدلت الوصفة مرارًا، حتى وصلت، قبل نحو عقد من الزمان، إلى ذروة المذاق. هذا، بالنسبة لي، تاكو الدجاج والسماق! يضيء تاكو دجاج السماق، مثل تاكو دجاج باجا كاليفورنيا، بالليمون الطازج وأوراق النعناع الطازجة، ويتعمق مع الكراث المخفف، فيثير دفعة من العواطف ويثير الحواس والذكريات الجميلة، مع كل قضمة. أقدم لكم كلتا الوصفتين هنا مع الحب.

مرة أخرى، بعد تفكير، أنا ممتنة لأن عائلتي لم تفرض أي شيء علينا. لم يكن هناك أي حديث عن الثقافة، الانتماء، أو ضرورة الاختيار. لم نتحدث في مثل هذه الموضوعات المثيرة للانقسام. كنا ببساطة نختبر ونثمن. نثمن بيتنا وأطعمتنا في كاليفورنيا، نثمن الوصفات الحلبية لعائلتنا، نثمن نعمة كوننا كثيرين في نفس المدينة الجميلة المرحبة، وخبرنا كل هذا بقلوب وعقول منفتحة.

لم نحتج قط للاختيار، ولم نرفض قط المزج، وتبقى كل هوية بنفس أهمية الهوية الأخرى، وكل منها تشكل ذكريات، والنصفين يشكلان طفولتي بأكملها.

قصتي ليست فريدة من نوعها. بعيدًا عنها، فإذا استبدلتَ حلب ببكين أو ليما، بودابست أو مانيلا، كن على يقين من كون الشخص إلى جانبك شهد شيئًا مماثلًا. التذوق والرائحة. الحاستان التي تعيدان الذكريات. آمل أن تشكل هذه الوصفات أساس ذكريات جديدة لكم ولعائلتكم.

على الساحل. يجب أن يكون هذا شعاري. نشأت في لوس أنجلوس، حيث المحيط الهادئ، مكون ثابت مهيب، إن لم يكن مخيفًا قليلًا. في حياتي، رحلات الشاطئ المدرسة خلال الأسبوع، وركوب الأمواج في عطلات نهاية الأسبوع. كل مرة أكون في مدينة غير ساحلية، يزحف علي الخوف من الأماكن المغلقة. بالنسبة لي، هناك شعور بالحرية يبثه الوجود بجوار مسطح كبير من المياه ينفتح على إلى آفاق أخرى. 

أمضيت عقودي الثلاثة الأولى في لوس أنجلوس الجميلة، محاطة، كما تروي قصتي، بالكثير من أفراد عائلتي. كل عام يأتي أعضاء جدد، أبناء عمومة من إيطاليا، عمات من نيويورك، وأقارب من جميع أنحاء العالم، كل يلتحمون معًا في مدينة واحدة مرحبة. 

بيروت... دبي 

وببصيرة مذهلة، ألحقني والداي بمدرسة فرنسية خاصة، على الرغم من كونهما بالكاد يتحدثان اللغة. بعد عقود، ساعدتني هذه الهدية بشكل كبير، إذ امتهنت الصحافة، وفي نهاية المطاف، تخصصت في صحافة الموضة.

في سن الثامنة والعشرين، قررت أنني بحاجة إلى التغيير، فانتقلت_ بدون أية خطط على الإطلاق، وبدون قدرة على قراءة أو كتابة العربية_ إلى بيروت. تمكنت بطريقة ما من العثور على الوظيفة الوحيدة في البلاد التي لم أكن بحاجة معها إلى التحدث أو قراءة اللغة العربية، الصحيفة اليومية باللغة الإنجليزية، The Daily Star. بعد العمل هناك لمدة عامين مذهلين، انتقلت إلى تحرير مجلة شهرية، ووجدت شغفي. منذ ذلك الحين، أصبحت رئيس تحرير أربع مجلات، بما في ذلك دوري الحالي كرئيسة تحرير ELLE Arabia. 

أنا ممتنة لأن عائلتي لم تفرض أي شيء علينا. لم يكن هناك أي حديث عن الثقافة، الانتماء، أو ضرورة الاختيار. لم نتحدث في مثل هذه الموضوعات المثيرة للانقسام. كنا ببساطة نختبر ونثمن بيتنا وأطعمتنا في كاليفورنيا، نثمن الوصفات الحلبية لعائلتنا، نثمن نعمة كوننا كثيرين في نفس المدينة الجميلة المرحبة

لم نحتج قط للاختيار، ولم نرفض قط المزج، وتبقى كل هوية بنفس أهمية الهوية الأخرى، وكل منها تشكل ذكريات، والنصفين يشكلان طفولتي بأكملها.

كانت السنون التي عشتها لبنان سحرية، عشت خلالها الكثير من المرح، وأنا ممتنة جدًا للوقت الذي قضيته هناك. لم يسبق لي أن احتفلت ورقصت وأكلت وضحكت بقدر ما فعلت في بيروت، التي يطوقها، كذلك، بشكل جميل البحر الأبيض المتوسط.

كان المشي، ركوب الدراجات، أو مجرد الاستمتاع بمشروب على الكورنيش مثالًا للسعادة بالنسبة لي. في بيروت، وجدت شغفًا آخر، زوجي ماهر. في عام 2002، انتقلت إلى دبي للانضمام إليه، واخترت بالطبع العيش في حي أم سقيم الساحلي. لقد أصبحت دبي تعني المنزل بالنسبة لي، كما هي لابنتيّ صوفي وهانا. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image