نُشر هذا النص للمرة الأولى في كتاب بعنوان "عبق الحنين"، في طبعة محدودة بدبي. وقد كُلفت هناء نصير بترجمته قبل الكاتبات.
نص: حنيفة مسلم
ترجمة: هناء نصير
تدور قصتي حول التماهي بين شجرة الزيتون ونساء عائلتي. شجرة الزيتون رمز القوة والخلود والوفرة، سترمز دائمًا لأعمدة الأسرة، خاصة والدتي وجدتي. تذكرني حكمتهما وحيويتهما وكرمهما بشجرة زيتون نبيلة وصلبة، الشجرة التي تقاوم الزمن وتستمر في منح الثمار. هؤلاء النسوة وُلدن ليعطين دائمًا، وبلا حدود. شجرة الزيتون تمنح ثمارها كزيتون وزيت، وهكذا، قررت أن أشارك تقاليد عائلتنا فيما يتعلق باستخدام هذه المنتجات المحلية الثمينة.
هذه القصة عن كيفية استغلال والدتي لحصتها من بقايا الزيتون: كيف اعتادت أن تصنف ثمار الزيتون، تسوّيها لتصبح صالحة للأكل، وتحفظها بطرائق مختلفة لتبقى لسنوات طويلة. حكايات عن مطبخ بلادي واستخداماتنا الطبية لزيت الزيتون.
قصة الجزائريات والزيتون
البلد الذي ولدت وترعرعت فيه بلد خاص حقًا. تمتد تضاريس الجزائر الكبيرة من الشواطئ الرملية الشمالية للبحر الأبيض المتوسط إلى الكثبان الرملية الجنوبية للصحراء الكبرى. اتساع وتنوع المناظر الطبيعية يخلقان تباينًا وتنوعًا في الطقوس والتقاليد من منطقة إلى أخرى.
أمشي في سوق الخضر، حيث تعرض صفوف من المخللات والفلفل والزيتون. حين أشم الروائح الحية الشهية، تنبعث ذكريات الطفولة من أقصى زاوية في عقلي، وتطفو الصور، الواحدة تلو الأخرى، أمام عيني. تحرّك هذه الإثارة المفاجئة بداخلي رغبة قوية في مشاركة هذه اللحظات والكنوز التي طالما اختزنتها.
وجدت نفسي مرة أخرى في سطيف، المدينة التي ولدت فيها، والتي تقع على مرتفعات الجانب الشرقي من البلاد. تأخذني الرائحة إلى المنزل الذي ولدت فيه، محاطة بأحبائي، الذين يتمتع كل فرد منهم بخصوصية ما، ولكل فرد منهم أسرار مخبأة في كل ركن من هذا المنزل الكبير، والمميز للغاية.
لكل فرد من أفراد العائلة بصمة خاصة به، وأسرار مخبأة في كل زاوية وركن لهذا المنزل الخاص والكبير جدًا.
كنا في منتصف فصل الخريف، وكانت الدراسة قد بدأت قبل ثلاثة أشهر، وكان الشتاء قريبًا. لم يكن ذلك الوقت من السنة المفضل لي، ولكن فكرة اقتراب العطلة ملأتني بالحماس. معرفتي أنني سأجتمع قريبًا مع كامل عائلتي، ملأتني بالفرح. أخيرًا سأجتمع مع أبناء خالاتي الأعزاء من بجاية. كنت قليلًا ما أراهم، لكني أحبهم كثيرًا، وكانت علاقتنا شديدة الحميمية. والسبب أننا نجتمع معًا في هذا الوقت بالذات من العام، ببساطة، موسم الزيتون.
هناك العشرات من أنواع الزيتون في الجزائر، وتختلف أسماؤها من منطقة إلى أخرى. وأشهرها هو "شملال"، الذي يأتي من منطقة القبائل في شمال البلاد، وتقع على حافة البحر الأبيض المتوسط، وتشكل بساتينها ما يقرب من نصف بساتين الزيتون الجزائرية. هناك أيضًا زيتون أزيرادج، وليملي، وسيجويز
كان حصاد الزيتون هذا له الأهمية الأكبر في السنة (هناك حصاد آخر في الصيف). ووفقًا للتقاليد، ستحصل أمي وأخواتها على حصتهم من الحصاد، إلى جانب حصتهم من زيت الزيتون.
هناك العشرات من أنواع الزيتون في الجزائر، وتختلف أسماؤها من منطقة إلى أخرى. وأشهر الأصناف هو "شملال"، الذي يأتي من منطقة القبائل، وهي منطقة ثقافية وتاريخية في شمال الجزائر، تقع على حافة البحر الأبيض المتوسط، وتشكل بساتينها ما يقرب من نصف بساتين الزيتون الجزائرية. هناك أيضًا زيتون أزيرادج، وليملي، وسيجويز، وهذا الأخير واسع الانتشار في غرب البلاد ويُستهلك أكثر من إنتاجه كزيت الزيتون.
شملال هو نوع الزيتون الذي تتميز به منطقة عائلتي، في بجاية، والتي تنتج أفضل أنواع زيت الزيتون في البلاد. من هذه النوعية كانت حصة أمي السنوية.
موسم الزيتون في منزل العائلة
العديد من الأمور تحدث معًا في منزل عائلتي، الذي تعيد أمي ترتيبه لتستضيف عائلتها وتعمل على راحتهم بلا كلل، قبل بدء "الترقاد"، أي جلب الزيتون، وجميع الأدوات والأواني اللازمة.
أولًا، كان علينا إخراج الجرار من "الدهليز" أو "بيت العولة" (المطبخ الجاف)، حيث تُخزن لوازم السنة، مثل السميد والشعير والدقيق والسكر والكسكس والطماطم والفلفل واللحوم المجففة، بالإضافة إلى الفواكه، مثل التمر والمشمش والتين المجفف وزيت الزيتون. كانت غرفة تخزين كاملة، تتمتع بدرجة حرارة مثالية تسمح بالحفاظ على جميع المواد الغذائية.
الزيتون ثمرة سريعة الأكسدة، لذا كان لأمي طريقة سرية لمنع الزيت من التزنخ، إذ كانت تضع قطعًا من تفاحة متغضنة في جرة الزيت.
أمي
تقف أمي على رأس هذا التنظيم كربّان سفينة. كانت امرأة ذات شخصية بارزة وإرادة قوية، جعلتاها دائمًا منشغلة، ونادرًا ما كنت أراها غير نشطة. آمنت بحق أن المعرفة قوة، وحرصت على تمرير معرفتها لأحبائها، تلك المهمة التي كانت أثيرة لديها، والتي نجحت فيها.
كنت أصغر فرد في العائلة، حساسة ومدللة، لم ألق بالًا لكل هذه المبادرات والجهود. لم أكن لأمتثل للأوامر، ولا أتبع التعليمات. وساعدتني ملاحظتي على استيعاب كل ما كان يحيط بي. من المخجل أن طفولتي وافتقادي للاهتمام حولي، أفقداني فرصة مميزة للتعلم. ببساطة أردت فقط أن أستمتع بتناول ثمرات الزيتون المشبعة بالعصير. كانت أمي دائمًا ما تردد على مسمعي أن كل طعام جيد يُصنع بالحب. لكن إيصال هذه الحكمة لطفلة، لم يكن ناجحًا. كنت دائمًا أفلح في تجنب العمل باختراع عدد لا نهائي من الحجج المبدعة، التي لم تكن لتخدع أمي، لكنها كانت تغض الطرف.
على الرغم من أنها كانت دائمًا تتلقى المساعدة، فإنّ هذا لم يمنعها من الاهتمام بنفسها بالمهام العديدة بين يديها. وتختلف مهامها وأنشطتها الصباحية عن أنشطة فترة ما بعد الظهر، وتلك التي في المساء. بعد غفوتها بعد الظهر، كانت تستضيف في كثير من الأحيان خالاتي صالحة وبايا وتوتو لتناول الشاي، الذي كنا نطلق عليه اسم قهوة العصر (قهوة العائلات).
كانت هذه الزيارات محببة لي لأنني أحببت خالاتي، اللاتي كن دائمًا ما يجلبن لي الحلوى، محبة كبيرة. تجتمع السيدات حول "مائدة" جميلة مزخرفة (طاولة قهوة خشبية منخفضة، مصنوعة بشكل محدد) عامرة بكيك اللوز المنكه بزهر البرتقال، الطازج دائمًا، والذي تصنعه إحداهن. بينما يثرثرن بمحبة، يتبادلن الأخبار والنميمة، لا تكف أيديهن الماهرة، كأيدي آلات، عن استكمال أشغالهن اليدوية من كروشيه وخياطة وتطريز، ما كان يبهرني حقًا. كن يقمن بمثل هذه المهام الدقيقة في اجتماعهن غير الرسمي، ويعملن بتركيز ولا يرفعن أعينهن عن عملهن أثناء تبادل الحديث.
وهكذا أبدأ حكايتنا بالزيتون، لأشارككم طقسنا السنوي لجنيه، والذي كان دائمًا طقسًا احتفاليًا مهمًا لعائلتنا وثقافتنا.
لكونها الأخت الكبرى، كانت أمي تكدّس محصول الزيتون، الذي يُجمع غير تام النضج ويُسمى في هذه الحالة "زيتون خضر"، في بيتها، ومن ثم تقسمه بالتساوي بين شقيقاتها وأشقائها.
تاريخيًا، يُحتفى بشجرة الزيتون لمرونتها. إذ تعرف بشكل حدسي كيف تعيش وتحافظ على استمراريتها، تمامًا كالإنسان. في المنزل، زراعة شجرة الزيتون هو فعل حب. يعتبر تقديم شجرة زيتون صغيرة بمناسبة المولود الجديد هدية رمزية للغاية. وقد صور هذا الطقس، بشكل جميل، المؤلف الفرنسي جان جيونو، في روايته "الرجل الذي زرع الأشجار": "يزرع الجد شجرة زيتون، يرعاها الأب، وتحصد أجيالٌ ثمارها".
وردية
مثل عائلتي، الزيتون يشفي كيفما يتغذى. تختلف الزيتون من سنة إلى أخرى، وتعتمد بشكل طبيعي على المناخ والتربة والمنطقة التي يُزرع فيها. هناك أكثر من ثلاثين نوعًا من الزيتون في الجزائر، وأشهرها هو "شملال"، ويُستنبت في منطقة القبائل، وتمثل بساتينه حوالى أربعين في المائة من بساتين الزيتون الجزائرية.
لكونها الأخت الكبرى، كانت أمي تكدّس محصول الزيتون، الذي يُجمع غير تام النضج ويُسمى في هذه الحالة "زيتون خضر"، في بيتها، ومن ثم تقسمه بالتساوي بين شقيقاتها وأشقائها.
تحتاج المرأة إلى معرفة الكيفية والتقنية اللازمة لجعل الزيتون صالحًا للأكل. كانت تساعد أمي امرأة تُدعى وردية، لكن أيديهما الأربع لم تكن كافية لمثل هذا العمل، نظرًا لوفرة المحصول. كانت بحاجة إلى تعزيزات، لذا طلبت مساعدة خالاتي في هذه المهمة.
بدأن العمل مبكرًا في هذا اليوم، وأذكر كيف جفاني النعاس فلم أكَد أنم في تلك الليلة. كنت أنتظر بفارغ الصبر أن تشرق الشمس، وأن يصيح الديك في الفناء. بفضل الله، كان الطقس جميلًا بشكل خاص ذاك الصباح، إذ كان علينا إتمام العمل في الهواء الطلق، ولم يكن ليتم إذا ما أمطرت السماء.
كان المنزل بأكمله عابقًا برائحة الخبز الطازج والكعك، الذي خرج للتو من الفرن. كانت متعة خالصة أن أتناول وجبة الإفطار المكونة من بريوش دافئ محلي الصنع وفنجان من القهوة بالحليب الطازج. ولكن قبل تناول أي شيء، كانت أمي تحرص على وضع ثمرة من التين المجفف المغموس في زيت الزيتون في أفواهنا الصغيرة. وكانت دائمًا تقول إنه مفيد للعظام وللهضم.
أما بالنسبة لأبي، فقد كانت لديه بعض من عادات الإفطار الغريبة. كان يفضل أن يتناول كسرة طازجة (خبز تقليدي مصنوع من السميد)، تفردها وتخبزها عزيزتنا وردية. ومن ثم يتناول الكسرة مغطاة بمربى المشمش المفضل لديه. كانت تلك متعته المذنبة. أما أمي، فقد كانت تتناول الكسرة مع الزيتون الأسود المغموس في زيت الزيتون. كان إفطارًا منوعًا إلى حد ما، خاصة في أيام العطلات إذ نأخذ وقتنا في الاستمتاع بوجباتنا. تتأكد أمي من أننا جميعًا راضون. كان من الواضح أننا نأكل بشكل جيد وصحي، دون الحاجة إلى التفكير في الأمر. كان كل شيء تقريبًا منزلي الصنع باستخدام منتجات محلية.
كل شيء يجب أن يكون جاهزًا قبل وصول جدتي وخالاتي لموسم الزيتون. كنا على وشك موجة من النشاط، فقد كان على والدتي إعداد غداء هائل لهذا العدد الكبير من الحضور. كان الجميع يركض، بمن فيهم أنا
حالما نجلس حول الطاولة، كنت أسمعها تلقي بالتعليمات يمينًا ويسارًا، لتنظيم المنزل وإخراج الأواني والمعدات اللازمة لتحضير المحلول الملحي، من الدهليز أو بيت العولة إلى الشرفة.
كل شيء يجب أن يكون جاهزًا قبل وصول جدتي وخالاتي. كنا على وشك موجة من النشاط، فقد كان على والدتي إعداد غداء هائل لهذا العدد الكبير من الحضور. كان الجميع يركض، بمن فيهم أنا. مع تقدم الصباح، كنت أنتظر وصول جدتي وخالاتي وأبنائهن. أركض من الباب إلى النافذة، وأراقب أدنى حركة وأدنى ضوضاء من شأنها أن تعلن عن وصول ضيوفنا.
أخيرًا، وبعد ما بدا لي دهراً، يصلون. يتناسى تعب الرحلة في خضم القبلات والأحضان والصرخات ابتهاجًا بلمّ الشمل. كانوا قد أحضروا معهم هدايا سخية، وسلالاً كبيرة مليئة بثمار الزيتون، جميلة مهيبة، مضيئة ومشبعة بالعصير.
جدتي
تأوي جدتي إلى غرفتي لتسترخي، ولتريح ساقيها المتعبتين. بمجرد أن يستعيد الجميع حيويتهم، ننتقل جميعًا إلى الشرفة للمشاركة في طقس إعداد المحلول الملحي. يحيط هذا التراس بأعلى طابق من المنزل. نفتح جميع النوافذ على الشرفة، فيلقي ضوء النوافذ ظلًا مختلفًا على كروم العنب التي نمت على الجدران حول النوافذ الكبيرة. تركنا كروم العنب والأوراق لتجف، بينما حطت الطيور الطنانة الصغيرة على العنب اللذيذ، تنهل من حلاوته. في اندفاع سريع وحماسي، ربطت النساء مآزرهن حول خصورهن، شمرن أكمامهن، وذهبن إلى العمل، دون إبطاء.
إلى جانب العمل الشاق الذي كان يجري عبر التراس، انطلقت أنا وأبناء خالاتي في الهواء الطلق لخوض جميع أنواع المغامرات الصغيرة. تسللنا إلى المطبخ للاستيلاء على بعض الزيتون لأنفسنا من سلال تفيض به، أغرقنا أيدينا في هذه السلال وحاولنا حمل أكبر عدد ممكن من الزيتون في راحة اليد الصغيرة لنتناوله في وقت لاحق في غرفة الغسيل تحت الشرفة. كنت متأكدة أن أي شخص وراء الباب كان ليسمع صوت أسناننا الصغيرة تطحن ثمار الزيتون.
لقد أحببنا زيتوننا حقًا، على الرغم من أن هدفنا لم يتحقق بعد، ولا شيء يمكن أن يوقفنا. كان علينا أن نأكل ثمار الزيتون تلك لجمع النوى واستخدامها في ألعابنا الإبداعية للغاية. كنا نلعب بها كالبلي، نبصقها من أفواهنا إلى أقصى حد ممكن، ربما حتى بقدر ما يمكن أن تصل إليه العين. أولئك الذين نجحوا في الحصول على الزيتون الأكبر، كانوا أوفر حظًا في اللعب. كانت حقاً لعبة تحدٍ تتطلب استخدام الكثير من المهارات والاستراتيجيات. كنا نلعب هذه الألعاب بلا كلل.
الصغار
نصعد ثانية إلى التراس، نبدو أبرياء للغاية، غير مدركين، لحسن الحظ، أن شفاهنا السوداء تكشفت أفعالنا الشقية، فترمقنا الخالات بابتسامات متسامحة. يعود الفضول إلينا، فنراقب العمل المستمر، بعيون واسعة متعجبة.
كنا نطن مثل النحل، فكان على وردية العزيزة، وكانت امرأة مرحة جدًا تحب الغناء والضحك، بذل قصارى جهدها لتهدئة حماستنا، وإبقائنا بعيدًا عن أعمال التمليح الجادة. فكانت تقص علينا الحكايات التي كنا مولعين بها كثيرًا. كما كانت تغني لنا الأغاني الشعبية الأمازيغية لتشتيت انتباهنا، ولتبهج هذا اليوم الخاص.
بمرور الزمن، ترسخت لدى عائلتي العادات، حتى أصبحنا جميعًا على دراية بالمهام المتزامنة المسندة إلى كل منا في موسم الزيتون، وكأننا أعضاء في مؤسسة صغيرة.
بالتوازي مع عالمنا الصغير حيث سحرتنا ودية وردية، كان جهدًا جماعيًا مميزًا يبذل. هذه السلاسة التي ينجز بها العمل تحققت بعد سنوات من الخبرة، ومرات متتالية شاهدت فيها النسوة أمهاتهن وجداتهن يقمن بالعمل نفسه.
النساء
حرصت عائلتي على استمرار هذه العادات في جو إيجابي، وفوق كل ذلك على إشراك الأطفال في هذه الطقوس. بالرغم من عدم مشاركتنا الفعلية، فقد كنا هناك، نراقب ما يجري بعيوننا المنبهرة. على أرضية المطبخ، ترقد شباك صيد، وأحواض مصنوعة من البرونز، وجرار من الملح الخشن، وجرار فارغة. كذلك رأيت مصائد أسماك، وأحواضًا، أوعية خزفية، وخرطومًا وأمتارًا من قماش الملاءات. كل هذه الأشياء ذات أهمية في تراثنا الثقافي المتأصل بعمق في حياتنا اليومية.
وسط كل هذه الزحام والضجيج، تفرغ النساء سلال الزيتون، ويغسلن وينظفن الثمار. تحمل خالتي بايا الخرطوم، فهي دائمًا ما تختار المهمة الأسهل. وبمجرد الانتهاء من غسل الثمار، تبدأ عملية الاختيار، وهي المرحلة الأصعب. خالتيّ لطفية وصالحة تصنفان الثمار وفقًا للون والحجم، ومن ثم إعداد وصفات مختلفة لمجموعات الثمار. تتأكدن من استبعاد أية ثمرة فاسدة قبل التقطيع. خالاتي، كوالدتي، دقيقات جدًّا، وهكذا كانت هذه العملية تسير بسلاسة كبيرة.
بعد ذلك، تسكبن الزيتون في غربال كبير من البرونز، لتصفيته من المياه. تبقي الخالات أعينهن على الثمار لتجنب أية أكسدة محتملة. بمجرد أن تجف الثمار، تفصل النساء الزيتون الأخضر عن الأسود، وسط الثرثارات والتعليمات المتناثرة هنا وهناك.
تُخرج الملاءات أخيرًا، وتوضع عليها كل ثمار الزيتون الأخضر، وتترك لتجف. بمجرد الانتهاء من ذلك، تقطع خالاتي ثمار الزيتون طوليًا ثلاث مرات، لتتغلغل التوابل بعمق في الزيتون. يا له من عمل ممل، تنهيه خالاتي المسكينات وقد تورمت أصابعهن. بعد هذه الخطوة الدقيقة، يغمسن الزيتون في الماء، ويكررن ذلك يوميًا حتى تتخلص الثمار من المرارة. ثم يتقدمن إلى قلب عملية التخليل.
كعادتها، تفعل أمي هذا بطريقة طبيعية تمامًا، كونها شديدة المحبة للطبيعة. تتذوق ثمار الزيتون بين الحين والآخر، لترى إذا ما تخلصت من المرارة والحموضة، فتقطب أو تنفرج أساريرها وفقًا للنتيجة. عندما كنت طفلة، كان من المضحك بالنسبة لي أن أشاهدها تفعل ذلك.
كان فألًا حسنًا أن نحتفظ ببذور الثمار الأولى من الحصاد في المحافظ، لجلب الحظ السعيد والثروة. فتضع النساء بذورهن على عجل في محافظهن قبل العودة إلى مهامهن. أما بالنسبة لنا نحن الأطفال، ولعدم امتلاكنا للمحافظ، فكنا نخبئها في جيوبنا الصغيرة.
تغلي النساء الماء ويتركنه حتى يصبح فاتراً. ينكهنه بفروع الزعتر، وشرائح من الليمون، والملح الخشن، وبعض فصوص الثوم، ولا ينسين بذور الشمر والكزبرة.
ثم يسكبن هذا الخليط مع الزيتون في الجرار الفخارية العميقة، المصنوعة خصيصًا لحفظ الزيتون والزيت. يُقلّبن الخليط بملعقة خشبية طويلة، ثم يضعن فوقه طبقة من زيت الزيتون. تحافظ هذه الجرار على جودة الزيتون لأشهر، قد تصل إلى عام. كخطوة أخيرة ونهائية، تُغطى الجرار بأغطية من الحديد الزهر وتُخزن في الظل، في غرفة التخزين الباردة (بيت العولة). وتُسمى عملية حفظ الزيتون بالتخليل، أو "الترقاد". ننتظر بفارغ الصبر لمدة شهر كامل لتجربة هذه الفاكهة المشبعة بالنكهة والحنان.
ننتقل إلى الطريقة التقليدية لتحضير الزيتون الأسود، المعروف بـالـ"مصبر" أو الـ"مشلح". هذه الطقوس خاصة بعائلتي، وتختلف من عائلة إلى أخرى، وكذلك من منطقة إلى أخرى.
لتحضير هذه الوصفة، تُختار ثمار الزيتون اللحمية، كبيرة الحجم. بعد غسلها كطريقة غسل الزيتون الأخضر، توضع الثمار على شباك الصيد لتصريف المياه وتجفيف الثمار لمدة يومين إلى ثلاثة أيام. بعد ذلك، يُنقل الزيتون إلى أكياس من الخيش، ويُلف بالملح الخشن، الذي يلين الثمار ويجففها ويخلصها من مرارة مركب اليوروبين الغني بمضادات الأكسدة. تُحكم إغلاق الأكياس بوضع حجر طحن دائري لضمان عدم تسرب الرطوبة إليها.
ولتجنب التعفن، تُهز الأكياس كل يومين أو ثلاثة أيام لمدة تراوح بين شهر وأربعين يومًا. وإذا لاحظنا بقاء الأكياس رطبة، فيجب إعادة نشر الزيتون على الحوامل لتقليل الرطوبة. بعد هذه الخطوات الدقيقة، يصبح الزيتون جاهزًا للاستهلاك. ولحفظه أطول فترة ممكنة، يُعبأ في عبوات زجاجية أو أوانٍ فخارية، ويُحفظ في مكان بارد وجاف.
ما لا يُستغنى عنه من الدواء
لم تكن عملية سهلة، بالرغم من الجو الاحتفالي الذي كان يصاحبها عادةً. كان درسًا عظيمًا لنا نحن الصغار حول العمل الجماعي، والجهد، والصبر. الآن أفهم لماذا كان آباؤنا يصرون على حضورنا لمثل هذه الطقوس، التي تتجاوز طرائق إعداد الطعام لكونها تقاليد تاريخية وثقافية للبلاد.
كان فألًا حسنًا أن نحتفظ ببذور الثمار الأولى من الحصاد في المحافظ، لجلب الحظ السعيد والثروة. فتضع النساء بذورهن على عجل في محافظهن قبل العودة إلى مهامهن. أما بالنسبة لنا نحن الأطفال، ولعدم امتلاكنا للمحافظ، فكنا نخبئها في جيوبنا الصغيرة
بمرور الزمن، ترسخت لدى عائلتنا هذه العادات وما يصاحبها من طقوس، حتى أصبحنا جميعًا على دراية بالمهام المتزامنة المسندة إلى كل منا، وكأننا أعضاء في مؤسسة صغيرة، نتشارك في طقوسها بانسجام تام.
في الاستراحات من العمل، كانت أمي تصر على تذوق زيت الزيتون المعصور على البارد، الذي تلقته في الصباح. كانت وردية تُعدّ الخبز المعروف باسم "ماتلو"، وهو خبز جزائري مصنوع من السميد، والخميرة، والزيت، والماء. بعد أن ينضج ويقطع، تغطي أمي شرائحه بالثوم، ثم تغمسها في زيت الزيتون الغني، فيتشرب الخبز الساخن الكثير من الزيت. إلى جانب الزيت، كنا نصنع معجون الزيتون بهرس ثمار الزيتون مع الكبر المفروم والثوم المبشور، وعدد قليل من شرائح الأنشوجة والفلفل، مع بضع قطرات من عصير الليمون وزيت الزيتون. أطلقنا على هذه الوصفة اسم "أدجيتا زيتون"، وكنا نتلذذ بتناولها. كانت جدتي تعد معجون الزيتون هذا من ثمار متبقية من العام السابق، في جرار زجاجية كانت بعضها جرار مربى جمعتها بمرور الوقت.
زيت الزيتون هو عنصر أساسي ومهم في مطبخنا، وله العديد من الاستخدامات الطبية والتجميلية. فوائده الطبية لا تُحصى، وبالنسبة لعائلتنا، هو الطبيب الحقيقي. لذا أود أن أشارك تجاربي الشخصية مع هذا الزيت، حكايات عن طرائق والدتي وجدتي في تهدئة آلامنا، شفاء جروحنا، وتخفيف العديد من الأمراض.
كنا أطفالًا نشكو من التهابات الأذن كثيرًا، وكانت أمي تسخن قليلًا من زيت الزيتون، تتركه ليبرد، ثم تنقع قطعة من القطن فيه وتعصرها، قبل أن تضع الزيت في الأذن المصابة.
كنت طفلة شقية كثيرة الحركة، دائمًا ما أجرح نفسي وألوي كاحلي، فكانت أمي تضع الملح الخشن في قطعة من الشاش وتغمسها في زيت الزيتون الدافئ، ثم تضغط بها على المنطقة المتورمة وتلفها بغطاء حريري. صباح اليوم التالي، كان تورم الكاحل يختفي.
أما في فصل الشتاء، فغالبًا ما نصاب بالإنفلونزا والسعال والتهاب الشعب الهوائية. كانت جدتي تعالج السعال بخلطة من عصير البصل وزيت الزيتون الدافئ. كانت ملعقة من هذا الخليط قبل النوم فعالة جدًا. أما في حالة الإمساك، فكانت أمي توقظنا في وقت مبكر جدًا لنتناول ملعقتين من زيت الزيتون، وفعلاً كان ذلك يريحنا.
كذلك، كانت أمي تتأكد من تناولنا الكثير من زيت الزيتون لدعم ذاكرتنا أثناء فترات الامتحانات. في الواقع، كان زيت الزيتون عنصرًا يوميًا في روتين جمالنا أيضًا. كانت والدتي تخلط زيت الزيتون مع بضع قطرات من مستخلص اللافندر وتضعه على المناطق المصابة بحب الشباب. وكانت تضع يديها في خليط من عصير الليمون وزيت الزيتون لترطيب أظافرها الجافة وتلميعها. أما بالنسبة للشعر، فكانت تطبّق حمام زيت لمدة ساعة قبل الغسل، مما يعيد للشعر حيويته.
في منطقة البحر الأبيض المتوسط، يتضرر الجلد بسبب الشمس، لكن زيت الزيتون دائمًا ما يصلح الضرر. كانت أمي تخلط السكر مع زيت الزيتون لصنع مقشر للبشرة، مما يجعلها ناعمة ونضرة. كما أن زيت الزيتون معروف بقدرته على مكافحة الشيخوخة، إذ حافظ على جمال أمي وجدتي طوال حياتهما.
الزيتون ثمرة صغيرة، لكنها عظيمة القدر. لن نستغني عنها أبدًا، فهي مصدر لا حصر له من الوصفات والعلاجات، وحليفة حقيقية للصحة والجمال. سأظل دائمًا منبهرة بسخاء وخصوصية هذه الفاكهة.
أما شجرة الزيتون، فهي تتحدى الزمن والمكان، مثل قيم عائلتنا التي نتمسك بها في طقوسنا وشعائرنا. ساعدنا محصولها الوفير على العيش في وئام وسلام، إذ نتشارك ونتعلم الحفاظ على التقاليد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا