المرآة هي الوسيط الأبدي بين كل شخص وذاته، ففي صباح كل يوم، ومع أول نظرة إليها، يقابل المرء نفسه ليطمئن إلى أنّ كل شيء بخير، وأنه ما زال يمتلك تلك الملامح، وتلك النظرة، وربما تلك الابتسامة التي تعلن أنه جاهز لمواجهة العالم ليوم آخر جديد.
المرآة في عيون التاريخ
يرجع تاريخ أول مرآة مصنّعة إلى العام 4000 قبل الميلاد، وهذا لا ينفي وجود الأسطح العاكسة التي كانت تُستخدم للغرض نفسه قبل هذا التاريخ بمئات السنوات.
ففي عهد قدماء المصريين، أطلق الفراعنة اسم "عنخ" على المرآة، والتي تعني الحياة في اللغات الحديثة، وجاءت التسمية لاعتقادهم بأنها ليست فقط أداةً تعكس الوجوه، لكنها أيضاً تعكس الوجود، فرؤية الإنسان لانعكاسه دليل على أنه ما زال حيّاً.
المرآة هي الوسيط الأبدي بين كل شخص وذاته، ففي صباح كل يوم، ومع أول نظرة إليها، يقابل المرء نفسه ليطمئن إلى أنّ كل شيء بخير، وأنه ما زال يمتلك تلك الملامح، وتلك النظرة، وربما تلك الابتسامة التي تعلن أنه جاهز لمواجهة العالم ليوم آخر جديد
وفي اللغة اللاتينية، سُمّيت المرآة "ميراري"، أي التأمل والنظر في الشيء، لتصبح mirror في اللغة الإنكليزية. أما لمحبّي اللغة العربية ومعجمها، فسيجدون أن مرادفها، مثيل أو شبيه أو نظير. في الغرب، كانت المرآة مصدر إلهام حقيقياً واستُخدمت أيضاً لأغراض عسكرية كما حدث في الحضارة اليونانية على يد العالم أرخميدس، الذي استخدم المرايا لحرق سفن الرومان عن طريق عكس أشعة الشمس.
للمرآة العديد من الأساطير التي رواها أسلافنا، والتجارب التي عشناها معها، فدورها في حياتنا متعدد بشكل لا يعوّضه بديل، فالمرآة قد تكون صديقاً وفيّاً، طبيباً نفسياً، وغيرهما من الأدوار، والأهم أننا أمامها نكون على طبيعتنا من دون تصنّع.
المرآة والمرأة
ميّز الله النساء بمواهب فريدة من نوعها، من أهمها تلك القدرة العجيبة على رؤية الكثير من الأشياء حولهنّ دون النظر إليها. إلا أن المرآة هي الشيء الوحيد التي تحبّ المرأة أن تنظر إليه بتمعّن كلما شعرت بها بجوارها.
هذا الرابط العميق بين المرآة والمرأة، حتى في حروف اللغة، يثير دوماً فضولي للبحث عن الرابط، وعمّا إذا هناك بالفعل رابط أم أن الأمر مجرد مصادفة قدرية تتبع قانون الجذب. وحتى بعدما قرأت قصيدة إيليا أبو ماضي "المرأة والمرآة"، بصورها العميقة وخيالها المبدع وما فيها من جوانب نفسية وإنسانية تبيّن لاحقاً وبحسب علم النفس الحديث أن هناك ارتباط فعلي بين المرأة والمرآة.
"لا توجد مرآة في المرحاض أو خارجه. بعد عودتي إلى غرفة الاستقبال، سألت عما إذا كانت هناك مرآة، فقادتني صديقتي إلى الغرفة التي تحتوي على المرآة الوحيدة في المنزل، وهناك تفاجأت بأنها تغطي المرآة بقطعة قماش داكنة، فسألتها عن السبب وأجابت بأنها تكره المرآة"
يفسر الدكتور محمد هاني، استشاري الصحة النفسية، أسباب تأثير المرآة على الصحة النفسية خاصةً للمرأة، قائلاً: "قد تصاب بعض النساء بسبب المبالغة في تأمّل المرآة، وطول وقت استخدامها، بالعديد من الأمراض مثل الاكتئاب، فقدان الثقة بالنفس أو الهوس".
يكمل الدكتور هاني حديثه إلى رصيف22: "الوقوف أمام المرآة هو أمر طبيعي وضروري لنا جميعاً كي نرى مظهرنا الخارجي، لكن لا بدّ أن تظل علاقتنا بالمرآة سطحيةً دون إفراط، لأنها تُعدّ عاملاً مؤثراً على الصحة النفسية، فالمرآة لا تعكس الحقيقة دوماً، فهي تتبع الحالة النفسية للشخص الواقف أمامها دون الالتفات إلى نظرية النسبية، ويمكن أن يرى شخص ما نفسه فيها قبيحاً برغم أن العكس صحيح، لذلك الأفضل لنا أن نتعامل مع المرآة كأنها قابلة للإدمان في حالة الإفراط في النظر إليها، وتالياً البعد عن سلبياتها النفسية".
رهاب المرايا
تروي نور (35 عاماً)، من مصر، تفاصيل قصتها الغريبة مع المرآة، لرصيف22: "تعرفت إلى إحدى الصديقات عن طريق مجموعة النادي، وتأثرت بحالتها حيث كانت تواجه مشكلات صحيةً، ووجدتها تتقرب مني وكانت ودودةً ما جعل صداقتنا تصبح أقوى حتى لبّيت دعوتها يوماً وبالفعل وجدت نفسي في منزلها".
وتضيف: "لا توجد مرآة في المرحاض أو خارجه. بعد عودتي إلى غرفة الاستقبال، سألت عما إذا كانت هناك مرآة، فقادتني صديقتي إلى الغرفة التي تحتوي على المرآة الوحيدة في المنزل، وهناك تفاجأت بأنها تغطي المرآة بقطعة قماش داكنة، فسألتها عن السبب وأجابت بأنها تكره المرآة".
يؤكد الدكتور محمد هاني، لرصيف22، على نظريات الطب النفسي للحالة الموجودة في قصة نور، في ما يخص أمراض فقدان الثقة بالنفس ورؤية صورة غير حقيقية للذات: "ربما تلك السيدة ترى نفسها قبيحةً إلى درجة جعلتها تعجز عن رؤية انعكاسها في المرآة ولو بالصدفة، كما يمكن أن تكون قد أصيبت برهاب المرآة أو الفوبيا، والمعروف باسم Spectrophobia، والذي قد يصيب الأشخاص الذين تعرضوا لصدمات نفسية أو اجتماعية".
هناك العديد من القصص الأسطورية التي تبرز علاقة المرآة بالصحة النفسية، مثل قصة نرسيس الذي افتتن بجماله عندما رأى انعكاس وجهه على مياة النهر، وظلّ يرمق وجهه بعشق رافضاً الرحيل عن مكانه حتى مات غرقاً وهو ينظر إلى وجهه، وهذا ما عرّفه علم النفس الحديث بالهوس، أو قصة أسد النهر الذي مرّ بتجربة نرسيس نفسها، لكنه لم يتعرف على وجهه، بل ظنّ أنه أسد آخر يريد منافسته، ما جعله يقفز إلى النهر ليصارع انعكاسه حتى الموت، وهذا ما يعرّفه الطب النفسي بمرض النرجسية.
وليس كل ما يتعلق بالمرآة يبدو سلبياً، فهناك جوانب إيجابية عديدة تعزز الصحة النفسية عند التأمل في المرآة، منها اكتساب الثقة بالنفس في حال كان الناظر يردد كلمات ذات طابع إيجابي، كذلك مساعدة الإنسان في التواصل مع ذاته عن طريق التحدث مع الذات وإيجاد حلول نافعة.
المرآة بعيون فنية
لم تختلف كثيراً وجهتا نظر علم النفس والسينما في ما يتعلق بالمرآة، فقد قدّمت السينما العربية والعالمية العديد من القصص والمشاهد التي كانت المرآة فيها هي البطلة، لتفسير جوانب الشخصيات الداخلية أو انعكاس واقع ما، مثل فيلم "المراية" للنجمة نجلاء فتحي، والذي تناول قضية فتاة لم تتزوج لشدة حسنها، والفيلم الهندي "لاست ستوري2" الذي ناقش قضية سيدة أربعينية عزبة تخلصت من مشكلاتها الجنسية بسبب مرآة كانت تتجسس من خلالها على خادمتها وزوجها.
في حديثه مع رصيف22، يقول المخرج المصري محمد حلمي، في تحليله لعلاقة الفن بالمرآة: "للمرايا رموز عديدة في الفن، خاصةً في السينما، فكثيراً ما نشاهدها تلعب دوراً محورياً ربما في مشهد رئيسي، أو في إيضاح جانب نفسي في شخصية ما. على سبيل المثال، عندما نرى رجلاً في عمل فني ما ينظر إلى المرآة بإعجاب، فيكون الأمر دلالةً على أنه شخص يتصف ببعض الأنانية، وربما سيقوده ذلك مع تطور الأحداث الدرامية والصعود نحو الذروة إلى جنون العظمة والغرور، بعكس نظرة المرأة إلى نفسها بإعجاب، والذي يدلّ على ثقتها بنفسها وأنوثتها".
هناك جانب آخر للمرآة تناولته بعض الأعمال الفنية، كمسلسلات المداح أو جمال الحريم وأفلام الإنس والجن والتعويذة أو الأفلام الأمريكية مثل مجموعة أفلام "ميرور"، وغيرها من أفلام الرعب الشهيرة عالمياً، فحسب روايات تلك الأعمال والقصص والأساطير الشعبية، فإن المرآة هي واحدة من مساكن الشياطين أو نافذة على العالم السفلي أو تلعب دور حافلة تقلّ البشر إلى أعتاب الجنون، أو أداة من أدوات الساحرين لإقناع أتباعهم بقدراتهم الخفية
وفي عالم السينما قد تلعب المرآة أحياناً دور المراقب، فهي عين المراقب التي ترى بوضوح كافة التفاصيل، وتستطيع أن تشاهد من خلالها من خلال انعكاس زاوية رؤية معينة، ما لا يستطيع أن يراه الشخص الذي تتم مراقبته، بحسب قول حلمي: "في المرآة دلالات عدة، فهي عين أخرى للكاميرا نستطيع عن طريق توظيفها صناعة كادرات سينمائية ذات معنى تعبّر عن المكنون الدرامي والدوافع الداخلية للشخصيات، والتي يكون التعبير عنها بالصورة وانعكاسها أدق من الألفاظ والكلمات".
هناك جانب آخر للمرآة تناولته بعض الأعمال الفنية، كمسلسلات المداح أو جمال الحريم وأفلام الإنس والجن والتعويذة أو الأفلام الأمريكية مثل مجموعة أفلام "ميرور"، وغيرها من أفلام الرعب الشهيرة عالمياً، لكن هذا الجانب يصنَّف كجانب مظلم أو غير واقعي، برغم أنه كان محور العديد من الأعمال الأدبية وبعض من الكتب التاريخية، فحسب روايات تلك الأعمال والقصص والأساطير الشعبية، فإن المرآة هي واحدة من مساكن الشياطين أو نافذة على العالم السفلي أو تلعب دور حافلة تقلّ البشر إلى أعتاب الجنون، أو أداة من أدوات الساحرين لإقناع أتباعهم بقدراتهم الخفية.
تفسر الدكتورة منى وصيف، أستاذة علم الاجتماع، تلك الظواهر قائلةً لرصيف22: "كل هذه الروايات صدّقها البشر دون استخدام المنطق أو دون دلائل علمية ملموسة، وربما هذا ما تسبب في انتشارها أو نجاح القصص والأفلام المتعلقة بها، فالغموض دوماً ما ينجح في جذب انتباه النفس البشرية".
وتتابع: "أتذكر أن مذيع راديو قام في إحدى حلقاته بطرح فكرة تفيد بأن النظر إلى المرآة بتركيز لمدة خمس دقائق يجعل الشخص يلتقي بقرينه، وأكاد أجزم أن غالبية من نفّذوا تلك التجربة صدّقوها ليس لصدقها بل لعامل الإيحاء النفسي".
في النهاية، إن المرآة كانت وستظل عاملاً لا يستهان به في تشكيل الصحة النفسية للإنسان، ونقطة التقائه بذاته مع صباح كل يوم جديد، لكن تحديد مصير شكل تأثيرها سواء بالسلب أو الإيجاب، مسؤولية من يقف أمامها عن طريق تحفيز الوعي بدور المرآة الحقيقي، وأهمية وجود انعكاس يخبرنا بالحقائق، ويجعلنا نواجه أنفسنا بواقعية. أما هؤلاء الذين قرروا الاستسلام للهواجس، والبحث عن ذاتهم في داخلها، والإيمان بالأساطير حولها، وتصوير المرآة كنافذة سحرية أو بوابة لعوالم خفية، فلن تطرح ثمارهم سوى الألم والنزف النفسي، كما أثبت العلم والتاريخ على مرّ العصور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...