شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
القاهرة 2051... متحف ضخم لمدينة محتضرة

القاهرة 2051... متحف ضخم لمدينة محتضرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأحد 17 نوفمبر 202410:13 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  

في نهاية العقد الثاني من حكم "أفندينا"، انطلق الرنين الهاتفي الموحَّد. إدارة الكنترول تطلق الرنين الهاتفي "الأفنديني"، بالتزامن مع حالة طوارئ في محطات الإذاعة والشاشات، لإذاعة بيان "أفنديني"، أو لبدء احتفال بمناسبة "أفندينية". بثٌّ صوتي موحّد في الإذاعات والهواتف، تضاف إليه صور على الشاشات.

يوجب الرنين "الأفنديني" فتح التليفون، ومتابعة ما يسمعه الآخرون في محطات الإذاعة المفتوحة، وما تذيعه شاشات التلفزيون وقاعات السينما، إذ تتوقف الاتصالات الهاتفية والبرامج وعروض الأفلام، حتى انتهاء البيان. ترصد إدارة الكنترول أولئك العصاة، النيام والكسالى، ممن تستقبل هواتفهم الرنين "الأفنديني"، ولا يفتحون الخط. العذر الوحيد، المنقذ، أن يكون التليفون مغلقاً. 

في نهاية العقد الثاني من حكم "أفندينا"، انطلق الرنين الهاتفي الموحَّد. إدارة الكنترول تطلق الرنين الهاتفي "الأفنديني"، بالتزامن مع حالة طوارئ في محطات الإذاعة والشاشات، لإذاعة بيان "أفنديني"، أو لبدء احتفال بمناسبة "أفندينية". بثٌّ صوتي موحّد في الإذاعات والهواتف، تضاف إليه صور على الشاشات  

في نهاية العقد الثاني من حكم "أفندينا"، أُطلق لقب "أفندينا"، للمرة الأولى. واختفى الاسم القديم لميدان التحرير، ويختفي تماماً من ينطق كلمتيْ "ميدان التحرير". لم يصدر قرار، أو يتحدد عقاب على الناطق بكلمة "ميدان" مضافة إلى "التحرير"، ولكن التحذيرات سرت قبل نحو عشرين سنةً، وهمس بها الناس محذّرين سائقي التاكسي والحافلات، والمصلّين في الكنائس والمساجد، وروّاد ما تبقى من المكتبات والبارات و"القهاوي" وصالات العرض وقاعات السينما والمسارح والمطاعم، والمترددين على البنوك والمتاجر وصالونات الحلاقة وورش إصلاح السيارات، بالتوازي مع ترديد وسائل الإعلام للاسم الجديد "ميدان أفندينا"، ومحو كلمتيْ "ميدان التحرير" من الأرشيف الورقي في دار الكتب والوثائق، ومن أرشيف المؤسسات الصحافية، كما أُحرق الأرشيف الصوتي والمرئي في الإذاعة والتلفزيون، وأُتلفت السجلات الورقية والمسموعة والمرئية الإلكترونية، وأبقوا على قليل من التراث الصوتي والفيلمي، مع وضع كلمة "أفندينا" محل "التحرير".

*

سونهام ورشيد أعطيا ظهريهما لما كان المتحف المصري، ثم صار "متحف المتحف"، إذ تم تفريغه ونقل محتوياته إلى متاحف في الضواحي يتعرض زائروها المصريون لانتقاص من الكرامة وتضييق يدعوهم إلى الزهد في الذهاب. لم تبقَ في "متحف المتحف" إلا مقتنيات محدودة القيمة يخرجونها أحياناً لعرض مؤقت، ويعيدونها إلى المخازن منقوصة العدد، وتزوّر قطع، وتستبدل بها قطع أخرى. وأما حديقة المتحف فهي حظيرة لدبابات ومصفحات سريعة الانتشار، وتباع نسخ صغيرة من الدبابات والمصفحات، في واجهات زجاجية تضم تماثيل "الأوشابتي". معالم المدينة صارت متاحف: متحف دار الأوبرا، متحف الجامعة العربية، متحف حديقة الحيوان، متحف مستشفى قصر العيني، متحف البورصة، متحف الإذاعة والتلفزيون.

*

ترحّم رشيد على ضحايا "أفندينا". بعد إقصاء منافسيه، وإفناء المستعصين على الإقصاء، أمر باجتماعات لمستشارين سياسيين ودبلوماسيين وقانونيين وأكاديميين وإعلاميين، للبحث عن لقب غير مسبوق، لا يشاركه فيه حاكم في الكون. طرحوا عليه حصاد الاجتماعات من الألقاب: الملك الأعظم، ملك الأرضين، ملك الملوك، حاكم الحكام، وليّ النعم، رئيس الرؤساء. فضّل الأخير، قيل له إن "رئيس الرؤساء" يجب أن يختاره الرؤساء، ولن يكون رئيساً لأمراء وملوك وسلاطين، وقد يسبب اللقب استخفافاً. وذكر أحدهم أن ملك الحجاز، المؤسس للمملكة السعودية الأخيرة، سمّى نفسه "الشيوخ"؛ تمييزا له عن غيره. وقياساً على ذلك اقترح لقب "الرؤساء"، ولم يجد استحساناً.

في نهاية العقد الثاني من حكم "أفندينا"، اختفى الاسم القديم لميدان التحرير، ويختفي تماماً من ينطق كلمتيْ "ميدان التحرير". لم يصدر قرار، أو يتحدد عقاب على الناطق بكلمة "ميدان" مضافة إلى "التحرير"، ولكن التحذيرات سرت قبل نحو عشرين سنةً، وهمس بها الناس محذّرين سائقي التاكسي والحافلات، والمصلّين في الكنائس والمساجد، وروّاد ما تبقى من المكتبات والبارات و"القهاوي

قصد رشيد أقدم "بار أوكسجين" في وسط القاهرة، المدينة القديمة. افتُتح قبل نحو عشرين عاماً، تحت لافتة "هنا جلاء الصدور". سبقت الافتتاحَ دهشة، وتبعته سخرية من اسمه، ومن طبيعة نشاطه: هل يبيع الخمور؟ أمْ نوعاً يحتوي على نسبة من الأوكسجين؟ وأعلن مالكه منع التدخين، وأنه سيبيع الأوكسجين بالدقائق، فينظف الرواد رئاتهم من آثار تلوث المدينة. يوجد مكان للراغبين في الاسترخاء بإغفاءة لا يقل حدّها الأدنى عن ساعة، وما دونها يحتسب ساعة كاملة. وبمضيّ الوقت، اكتشف الكثيرون حاجتهم إلى البقاء في البار، مرةً في الأسبوع، وتتعدد المرات للقادرين، ويطول زمن المرة الواحدة. نجاح الفكرة شجّع آخرين على افتتاح "بارات أوكسجين" في نطاق وسط البلد، ولم تتجاوز "ميدان أفندينا" عابرةً الضفة الغربية للنيل.

للبار نوافذ زجاجية نصف معتمة، وبابان بينهما بضع خطوات. الباب الداخلي من الزجاج الملون، والخارجي خشبي له ستارة هوائية تمنع تسرّب الأوكسجين. لم يعد مسموحاً لقهوة أو مطعم أو بار أو مكتبة بوجود زجاج معتم فيها، ويُمنع إغلاق النوافذ وإسدال ستائر. في النصف الخلفي مقاعد مريحة، لكل مقعد ظهر يميل إلى الوراء بالقدر الذي يريده الجالس، فيصير سريراً. بدأت الفكرة الطبقية بمقعد واحد أثار الدهشة أكثر مما صاحَب افتتاح البار. وبالتجربة زاد الطلب على الكرسي الطبقي، بالحجز المسبق، فتناسلت الكراسي. وكلما أضيف كرسي جديد ضاقت المساحة الأمامية الخاصة برواد غير قادرين على الانتقال إلى المقاعد/ الأسرّة، ويكتفون بنظرات حاقدة، وقد يدارون الحقد بإبداء إشفاق كاذب على مرضى يحتاجون إلى أوكسجين، ولا تقوى أجسادهم على القعود، ولا تساعدهم ظهورهم الواهنة على الانتصاب، ساعة واحدة، كما يليق بالرجال في صدارة البار.

*

لا مساحة في المدينة يحتمي فيها الإنسان من عيون متلصصة وأخرى متطفلة، وكاميرات تلاحقه من محل إلى بناية. وهناك على الضفة الشرقية للنهر، في "وسط البلد"، سكون الموتى، منذ انتقال الأنشطة إلى "الكيان"، ونزع الثقل التاريخي للمدينة العجوز، ذات الروح المطموسة، ووحشة الشوارع الخالية إلا من مرتادي "القهاوي" والمطاعم، وعدد قليل من "بارات الأوكسجين"، أما الميادين الصغيرة فتظللها سحابة التلوث، وتلازمها الظلال، وقد هجرتها الشمس التي تعبر أحياناً فراغ "ميدان أفندينا".

*

ودّت سونهام أن تصحب رشيد للتجول في حيّ المنيل، لولا تأخّر الوقت ومرض زوجها. كتمت رغبتها الطارئة في السير معه، تحت المطر، في ليل حيّ كان حصناً، يغلَق على الحاكم ومماليكه وحاشيته، ولا يدخله الناس. الحيّ الآن صامت معتم، فقير لا يجدون في صيدلياته كلها علاجاً للصداع النصفي. وهذا مصير "كيان" مسلّح يتحصن فيه "أفندينا". هذه طبائع الأشياء، تأخذ وقتاً، ثم تنفد أغراضها وتموت. وبعد سيادة المنيل، كانت القلعة مقراً للحكم، ثم قصر عابدين. هذه المواقع الآن عارية، غارقة في البرد والوحدة والظلام. لا كائنات ترى الآن في هذه الأماكن نبضاً لحياة إلا الكلاب الضالة والفئران والخفافيش. وقريباً ستقيم هذه الكائنات في "الكيان".

*

شاهد رشيد في متحف جمعة الغضب ضحايا يصرخون، ويقاومون من لا يرونهم، ولا ترصدهم الكاميرات. أرسل مواطن مقطع فيديو مصحوباً بتعليق: "بريء آخر يقتله شبح أنتجته مخابئ أفندينا، في أقبية الكيان". أربعون ثانيةً تنتهي بسباب "أفندينا". فكّر رشيد في كلمتيْ "بريء آخر"، فهل سبق للمواطن أن صوّر وقائع أخرى؟ لن يسمع رشيد صاحب الصوت ظانّاً أن الكونترول توصل إليه، بمجرد إرسال الرسالة إلى الموقع، مستعيناً ببصمة الصوت ومكان الإرسال. أرضى المواطن ضميره بسلوك انتحاري، واختفى خفيف الروح.

*  

انتفض جسد رشيد انتفاضة من لم يمسس امرأةً قط، من فاجأه مستحيل التحقق، حتى كاد ينكر وجوده، هنا والآن، لولا قول سونهام إنها محظوظة، وإنها رأت هذه اللحظة، عاشتها في زمن سابق، في تناسخ تغيم تفاصيله. حلمت باسترجاع اللحظة ولم تفاجأ بها، وفوجئ رشيد وارتبك 

قرأت سونهام تعليقات في المتحف الافتراضي للثورة. أحدهم كتب أن "أفندينا" لم يعد يُعرف له طول من عرض، ترهل حتى لا تنهض به عظامه. يكبّونه في بساط يرفعه حرس أشدّاء إلى صندوق سيارة نقل، تحمله ليلاً من قصر إلى استراحة. يترجرج بساط اللحوم والشحوم، ويبرز رأسه، وعيناه زائغتان، ينظر ولا يرى.

*

انتفض جسد رشيد انتفاضة من لم يمسس امرأةً قط، من فاجأه مستحيل التحقق، حتى كاد ينكر وجوده، هنا والآن، لولا قول سونهام إنها محظوظة، وإنها رأت هذه اللحظة، عاشتها في زمن سابق، في تناسخ تغيم تفاصيله. حلمت باسترجاع اللحظة ولم تفاجأ بها، وفوجئ رشيد وارتبك. تجاسرت على المبادأة، وواصلت التصاقاً يلائم امرأةً تنقصها التجربة، ولم يستطع ضبط نفسه، وتفصّد جسده عرقاً تتلمسه يداها على ظهره، وتتصيده من صدره. ويسري في دمه سحر، فيخجل ويسكت، وهي تحسّ بنبضه.

اعتذر عن قلقه واضطرابه؛ فجرى ما لم يستطع منعه. ودخل الحمام، وطلبت إليه خلع البنطلون؛ لتجففه بالمكواة. رفض الفكرة، ومازحته:

ـ حرام عليك إهدار الكائنات!

ـ الكائنات؟

ـ أغضبتك الكلمة؟ هي فعلاً كائنات.

ـ لا أحتمل فكرة حرقها بالكيّ.

ـ أنت جميل يا قلبي. هي مشاريع كائنات. ما الفرق بين قتلها بالكيّ؛ لتجفيف البنطلون، وإلقائها في المجاري بالغسل؟

ـ الغسل اضطرار لا نرى فيه موت "الكائنات"، على العكس من تعمّد الحرق.

ـ طُرقٌ نهايتها الموت والسلام.

ـ إذا اشتعلت النار في سفينة، ألقى ركابها، وأولهم مَن طال الحريق ملابسهم، أنفسهم في البحر، وهم يعلمون بغرقهم. هذا هو الفرق.

ـ بقي فيك حيل للفلسفة؟

ـ ترعبني فكرة القتل.

(من رواية "2067")


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image