شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
فصل من رواية

فصل من رواية "سرمدان... الغول والعنقاء والخل الوفي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأحد 15 سبتمبر 202404:47 م

لنتخيل

 

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا. 

الحياة في بلاد الأساطير لا تعني التعايش الأسطوري طوال الوقت، فسرمدان لديها صراعاتها أيضاً، وهي التي تحدث نتيجة نسبة الشر الطفيفة التي قررت إرادة الخير إبقاءها بيننا لإضفاء بعض الحيوية على الحياة.

لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء. في بدايات سرمدان، حين كانت إرادة الخير تحكم البلاد بنفسها، فمالت الحياة قليلاً إلى الملل. وكان لا بد من معرفة السبب، وقد تبين أن انعدام الشر المطلق يتسبب بخمول في الدوافع، وكسل في الحياة، وتهتّك في الطموح.

حتى إرادة الخير عرفت أنها ستحتاج إلى استعارة القليل من إرادة الشر، لتحريك الأحداث، إنما ليس النوع الصلب الداكن، بل ذلك الصنف الخفيف من الشرور الذي يتطاير متبخرًا في الهواء إذا كُشف، ودون أن يترك وراءه أثرًا من حقد أو غضب داخل النفوس، وهذا النوع من الشرور قابل للتحول إلى غفران بعد استخدامه.

الملل هو شكل من أشكال الشرور غير المعترف بها، فقد يدفع الكائنات إلى الإقدام على أفعال متهورة وحماقات غير مدروسة، وأحيانًا إلى إيذاء من حولهم في سبيل التخلص منه. وله أثر سيئ على العقول لقدرته على إطفاء السعادات وأسبابها. أما إذا زاد عن الحد المعقول، فقد يتسبب في قتل الرغبة في الحياة نفسها؛ هذا ما يقوله القط بالتخاطر كلما سنحت له الفرصة، ومن حسن الحظ أن إرادة الخير لا تسمعه.

لكسر الملل، سمحت إرادة الخير بوجود 002% من نسبة الشر في البلاد كضرورة لا بدّ منها. الأمر يشبه النسبة المقبولة لوجود مخلفات الحيوانات والحشرات الميتة في صوامع القمح والحبوب التي يخزّن فيها البشر طعامهم. النسبة المعلنة في عالمهم هي 1%، بينما يجب أن تكون 01%، فحيثما وُجد الطعام وُجدت الحياة، ومن الاستحالة في مكان التخلص من هذه النسبة غير المرغوبة، لكن تحديدها ممكن.

الشرور داخل سرمدان بسيطة مقارنةً بالشرور والأحزان المهولة التي تعمل إرادة الخير على منع دخولها من حدودنا، كلما قرر البشر خوض حرب جديدة وقتل بعضهم البعض بدافع من إرادة الشر التي تسكن عالمهم. 


رواية سرمدان

الملل هو شكل من أشكال الشرور غير المعترف بها، فقد يدفع الكائنات إلى الإقدام على أفعال متهورة وحماقات غير مدروسة، وأحيانًا إلى إيذاء من حولهم في سبيل التخلص منه

في إحدى السنوات، ونتيجة حرب كبرى خاضها الوجود البشري كله، استطاع حزن عظيم غير مألوف أن يمرّ في لحظة واحدة من حدود سرمدان، حتى إرادة الخير فزعت منه حين رأت حجمه، ولم تستطع إلا أن تنحني أمام كمية البكاء والذعر التي خلقته. يومها، تلوّن جذع إحدى الأشجار بالأحمر في جزيرة أوان، وهو رمز لم يفهمه السرمدانيون لكنهم لم يحبّوه.

عرفت إرادة الخير أنها لن تتمكن من منعه من الدخول لأنه حزن أسطوري، ومن حق الأساطير دخول سرمدان، لكنه اختفى مع سقوطه في البحر لاحقًا. كان حزنًا أسطوريًا نعم، لكنه كان حقيقيًا. الصفة الأولى أدخلته، لكن الصفة الأخيرة منعته من البقاء بيننا. وفي الليلة نفسها، أصدر مركز المجانين السياسي الحاكم فرمانًا بنسيان هذا الحزن المحلّق، فنسيه الجميع.

والفرمانات في سرمدان تصل إلى الجميع من خلال ساكنات المرايا اللواتي يؤدّين عملًا أقرب إلى شبكة الاتصالات، فجميعهن مرتبطات معًا من خلال وعي الانعكاس، وسيدتهن هي الساكنة الذهبية، التي تسكن في البهو الكبير في الطابق الأرضي من برج القصير.

برج القصير هو بيت الحكم في سرمدان، هناك يتلو عليها الحاكم عبسون الفرمان، فتنقله هي لساكنات المرايا الأخريات من خلال وعي الانعكاس، ومن ثم تقوم كل ساكنة مرآة بترديده في المكان الذي تتواجد فيه.

فإذا أردتُ مثلاً أن أتحدث إلى إحدى الحوريات، سأطلب من ساكنة مرآتي الانعكاس لدى ساكنة مرآة الحورية، وبهذا يدور الحديث بيننا، وكل واحدة في مكانها، طبعاً مع كثير من التدخل والتنصت من الساكنتين.

وساكنات المرايا نساء كاملات لهن أشكال البشريات الجميلات، بيد أنهنّ طيفيات، ولا يتحققن إلا داخل الزئبق، فإذا خرجت الواحدة منهن من مرآتها أو كُسرت الأخيرة، تختفي الساكنة، فتصبح بلا صوت ولا حضور، وقد تتشتّت أنوارها إذا لم تعثر بسرعة على مرآة أخرى لتسكنها وتظهر من خلالها.

معظم الصراعات داخل سرمدان بسيطة وقابلة للنسيان وتُغفر بسرعة، باستثناء المشاحنات التي تحدث يومياً بين مركز المجانين السياسي الحاكم والحوريات، إذ لا نستطيع وصفها بالبسيطة.

یُعرف عن الحوريات هنا ما يسميه المركز بمطالباتهنّ بـ"حريات فائضة عن الحاجة"، نظراً إلى أنهنّ لا يعشن خارج القنوات المائیة العذبة، والسؤال الذي تسأله الكائنات كلما أصدرت الحوريات اعتراضًا جدیدًا هو: لماذا يطالبن بحریة الحركة، وهنّ بلا أقدام؟

هنّ یقلن إنهن لا یعشن خارج القنوات المائیة لأنهن مُنعن من ذلك، وإنهن كنّ بأقدام، لكنها ضمرت مع قلة الاستعمال وحلت الزعنفة مكانها.

والد عبسون، الحاكم الحالي، كان يسمّى رمرم، وكان كبير مركز المجانين السياسي الحاكم من قبله، وهو الذي منع حركة الحوريات خارج القنوات المائية العذبة، فأقفل القناة البحرية التي كانت تصل بين القنوات وجزيرة أوان، ومنذ ذلك الوقت اقتصرت إمدادات القنوات على المياه العذبة من الجداول والينابيع.

كان رمرم قصیراً، ویستخدم السحر الذي طلبه من بيت العِرافة ليوهم الناظرین بأنه طویل. وكان السحر على هيئة غبار يرشّه على نفسه فيراه الآخرون طويلًا، ولا ينتهي تأثيره إلا بسكب الماء. كان هذا السحر لینجح إلى الأبد لولا أن ساكنة إحدى المرايا، والتي تسكن غرفة رمرم وكانت بمثابة عشيقة سرّية له، اكتشفت طوله الحقیقي في لحظة خروجه من الحمام.

في ذلك اليوم، نسي رمرم أن يغطّي المرآة بقطعة قماش زرقاء، ويرش الملح أمامها، كما هي العادة هنا، لتعطيل المرايا، وكان قد فات الأوان بعد أن شاهدت كم كان قصيرًا، فضحكت الساكنة اللعوب للمرآة بصوت مرتفع، ما أدى إلى استیقاظ كل ساكنات المرایا في القصر، اللواتي لم يتوقفن عن عكس الضحكة حتى رددتها كل ساكنات المرایا في سرمدان من خلال وعي الانعكاس. 

یُعرف عن الحوريات هنا ما يسميه المركز بمطالباتهنّ بـ"حريات فائضة عن الحاجة"، نظراً إلى أنهنّ لا يعشن خارج القنوات المائیة العذبة، والسؤال الذي تسأله الكائنات كلما أصدرت الحوريات اعتراضًا جدیدًا هو: لماذا يطالبن بحریة الحركة، وهنّ بلا أقدام؟ 

قصة المرآة الضاحكة تضيف بعض التفسير للعداء بین المركز والحوريات، فساكنات المرايا هنّ الصديقات المقرّبات للحوريات المعروفات بجمالهنّ الأخّاذ، وفي تلك الليلة تسبب ضحك ساكنات المرايا في استيقاظ الحوريات وضحكهنّ طوال الليل، بعد أن تناقلت الساكنات القصة بتفاصيلها غير المملة، وكان هذا تصرفًا لئيمًا من المرايا والحوريات ولا يليق بالأخلاق السرمدانية كما قال العرّاف.

هذه هي الحادثة التي يشاع عنها بأنها بداية الصراع بين الحوريات والمركز السياسي الحاكم، لكن السبب الحقيقي أشد تفاهةً حتى كما وشوشتني ساكنة مرآتي، وهو أن رمرم وصف الطعام الذي تطبخه الحوريات بأنه شديد الملوحة، وكان كذلك بالفعل، فبحكم حياتهنّ السابقة في المحيطات، تعشق الحوريات الملح، لكن الملاحظة كانت لئيمةً من رمرم ولا تليق بالأخلاق السرمدانية كما قال العرّاف.

نقلت ساكنات المرايا الثرثارات هذا الحديث للحوريات كعادتهنّ، وربما هوّلن من جملته البسيطة لأن غضب الحوريات كان شديدًا، ومنذ تلك اللحظة بدأت المشاحنات غير المبررة بين الطرفين، وحين حدثت قصة المرآة الضاحكة وجدَت الحوريات فيها فرصةً للانتقام من انتقاص رمرم لطعامهنّ، فبالغن في ترديد القصة وإعطائها أبعادًا لم تكن فيها عن قِصَر رمرم. والانتقام أيضاً لا يليق بالأخلاق السرمدانية.

ازداد الأمر سوءًا في صباح اليوم التالي للحادثة، فقد كانت معظم النميمة لأحلام الليلة السابقة عن الطول الحقيقي لرمرم. حتى الجن الماجن مثّلوا القصة كما كتبها جحا في طرائفه اليومية، وفي كل مرة كان أحدهم يظهر مبللًا وقد لفّ خصره بمنشفة بيضاء، كانت أصوات الضحك تصدح في كل سرمدان، فنعرف أينما كنّا ما الذي تسبب في الضحك، وهو الأمر الذي أثار امتعاض الجن الهادئ من الجن الماجن، لأن الاستهزاء ليس من أخلاق الجن، كما نعلم جميعًا.

يضاف إلى الأحداث أن رمرم، وبعد أن جُرحت مشاعره من استهزاء الآخرين منه، أصدر فرمانًا بقانون جديد أسماه "قانون احترام ديموغرافية الأجناس المتشعبة"، وهو قانون علينا أن نذكره كثيرًا، ويمنع إعطاء رخصة الحب إلا داخل الفصيلة نفسها من الأساطير، وحتى إن حدثت استثناءات فلن تمنح الرخصة بين المجانين والمرايا، وفرمانًا ثانيًا بقانون يمنع الحوريات من الخروج من القنوات المائية، وفرمانًا ثالثًا بنسيان الحادثة.

بعد إصدار هذه القوانين، قرر رمرم بناء أطول برج في سرمدان، وأطلق عليه اسم "البرج الطويل"، ويطلّ على الساحة الزمردية التي تُعدّ مركز سرمدان، فيراقب من خلاله الكائنات، إلا أننا غيّرنا اسمه إلى برج القصیر، والمقصد من تغيير الاسم لم يكن التلميح السيئ أو الاستهزاء برمرم، فسكان سرمدان كانوا قد نسوا القصة بالفعل لدى افتتاح البرج، إنما غيّروا اسمه من باب معاندة الحاكم، ليس أكثر.

بعد سلسلة الخلافات هذه خفّضت إرادة الخير نسبة الشرّ في سرمدان من 002% إلى 001%، كي لا تخرج الأمور عن الحدّ، فالشرّ يجذب الشرّ، ومن الممكن أن تزداد نسبته تلقائياً بعد ذلك إذا زادت حالة الحنق بين المتخاصمين بحيث يخرج عن الحد القابل للتحكم به.

نسبة الشرّ السابقة لم تكن كافيةً لصنع كذبة واحدة في سرمدان، فرمرم كان قصيرًا بالفعل، وطعام الحوريات كان مالحًا بالطبع، إلا أن استخدام الصدق والتحجج بالصراحة لجرح مشاعر الآخرين، والتسبب بحالة إحراج لهم يغيّر طبيعة الصدق فورًا من فعل خير إلى فعل شرّ، وكان هذا ما فعله رمرم وفعلته الحوريات، فقد أساؤوا استخدام الصدق.

بعد تخفيض نسبة الشرّ اتخذت الحياة مسارًا أفضل، وبدأ الغفران يتسلل إلى نفوس الجميع، لكنه لم يكتمل، فالقوانين التي سُنّت لم تتغير، وظلت الحوريات أسيرات القنوات المائية العذبة، وظلّت رخص الحب ممنوعة بين الأجناس المختلفة برغم عدد الطلبات الكبير الذي استلمه المركز السياسي الحاكم للمطالبة بمسح هذه القوانين، والتي وقّعت على معظمها كما فعل الجميع. 

في إحدى السنوات، ونتيجة حرب كبرى خاضها الوجود البشري كله، استطاع حزن عظيم أن يمرّ في لحظة واحدة من حدود سرمدان، كان حزنًا أسطوريًا نعم، لكنه كان حقيقيًا. الصفة الأولى أدخلته، لكن الصفة الأخيرة منعته من البقاء بيننا

في البهو الكبير من الطابق الأول من البرج يمكن للزائر رؤية المرآة الذهبية المذهلة، وقد عُلّقت فوق المجلس الذي يلتقي فيه مركز المجانين السياسي الحاكم، في داخل هذه المرآة نرى سيدة المرايا والملقبة بالساكنة الذهبية، والتي يسهّل عليها موقعها التنصت ونقل الأخبار وترويج الشائعات، هذا بالطبع إذا استطاعت أن تفهم شيئًا من حديث المجانين.

وفي الطابق الثاني من البرج يسكن الحاكم عبسون، وفي الطابق الثالث شرفة كبيرة يطلّ منها الحاكم والعرّاف في أوقات الاحتفالات، أو حين يرغبان في إعلان قانون مهم أو إلغائه وليس تمريره من خلال المرايا. أما الطوابق الثمانية المتبقية، فمعظمها فارغ ويحتوي الكثير من الحمامات، التي ليست لها أي فائدة سوى أن تضفي طولاً على البناء.

عبسون الحاكم سمِح الوجه، لكنه لا يضحك لرغبته في الإيحاء بالجدّية، ولهذا السبب يقطّب حاجبيه كلما خرج من برج القصير ليعطي انطباعاً بفهمٍ لا يملكه، وهو واسع العينين، قصير القامة بشكل لافت كما أبيه، شعره أسود كثيف ويبدو كقبعة ضخمة فوق رأسه، ويرتدي من الثياب أغربها وأكثرها ألواناً وسطوعاً، ويكرهُ الأحذية إذ لم نرَه يرتديها يومًا.

من بين الصداقات التي تربط بين ساكنات المرايا والحوريات، يمكنني القول إن صداقة سنقباسية، سيدة الحوريات وساكنة المرآة الذهبية، هي الأعمق، فإذا لم تجمعهما الأحاديث من خلال انعكاسات المرايا نهارًا يجمعهما الحلم ليلًا لمشاركة الأخبار والضحكات وتبادل النصائح السيئة، وهذا هو جوهر الصداقة الحقيقي بالفعل؛ تبادل النصائح السيئة بدافع من نيّة طيبة. 

كان رمرم قصیراً، ویستخدم السحر ليوهم الناظرین بأنه طویل. وكان السحر على هيئة غبار يرشّه على نفسه فيراه الآخرون طويلًا، ولا ينتهي تأثيره إلا بسكب الماء. كان هذا السحر لینجح إلى الأبد لولا أن ساكنة إحدى المرايا، والتي تعيش في غرفة رمرم وكانت بمثابة عشيقة سرّية له، اكتشفت طوله الحقیقي في لحظة خروجه من الحمام

سنقباسية هي أجمل الحوريات والبشريات والأسطوريات، وبهذا تتفوق عليّ في الجمال، وعلى الإناث كلهن في العوالم كلها وليس فقط في سرمدان، وقد تسببت هذه الفاتنة في حياتها في الوجود البشري بإصابة عدد لا بأس به من البحّارة بالجنون، وفقدان النطق، وأحيانًا القفز في البحر والاختفاء.

شعرها طويل يتلون بين الكستنائي والبنّي، ويطفو خلفها فوق الماء كلما سبحت قرب السطح، فإذا تواعدت وحبيبها الغول، رفعته فوق رأسها كالتاج، وتركت بعضه المبلل لينزل على طرفي وجهها، ولعينيها الواسعتين لون ساحرٌ محيّرٌ يتدرج بين الرمادي والعسلي والبنّي، مع رموش مرتفعة مغرية، وحاجبين طويلين كأنهما سيفان. ولزعنفتها ألوان لؤلؤية خلابة يتحير الرائي إن كانت أجمل في ضوء القمر ليلًا أم في نور الشمس نهارًا، ولو كان لي أن أقول الحق لقلت إن وصف فتنة سنقباسية يكاد يكون مستحيلاً، لأن القياس على جمالها مستحيل.

وفوق هذا كله، تجيد الدلال، وتسبيل عينيها، وإرخاء صوتها، وتمرير ابتسامتها إلى عاشقها كما لا تجيدها أنثى في الوجودَين.

الساكنة الذهبية: انتظرتكِ طوال الليل، أين كنتِ؟

سنقباسية بدلال: تقلّبت كثيرًا، واستعصى عليّ النوم والدخول في الحلم.

الساكنة الذهبية: حقًا؟

سنقباسية: حقًا.

الساكنة الذهبية: أعرف أنكِ كنتِ برفقة الغول، أخبرتني المرايا.

سنقباسية: نعم وهذا أيضًا، فكثير الحب يقلّل النوم.

الساكنة الذهبية: ستتسببين لعينيكِ بدوائر داكنة حولهما، وستصبحين شبيهته في القبح.

سنقباسية: ما هذا اللؤم؟ ثم إنك لا تتوقفين عن الأكل، إطاركِ بدأ بالتشقق.

الساكنة الذهبية: لا علينا، ما لهذا أحلم معكِ.

سنقباسية: لم أتيت إذاً؟

الساكنة الذهبية وهي تأكل الحلوى: أظنهم يحضّرون لفرمان جديد.

سنقباسية: أي فرمان؟

الساكنة الذهبية: لم أعرف، عبسون غطّى كل مرايا البرج بملاءات زرقاء بمجرد أن اكتمل عدد المجانين، ثم رشّ الملح أمامنا كي يجمد وعي الانعكاس، حتى المرايا على الملاعق الصغيرة وُضعت داخل الأدراج.

سنقباسية: اشتقت إلى طعم الملح والبحر.

الساكنة الذهبية: دعينا من الملح الآن، أظنّه فرمان نسيان على الاعتراض الأخير.

سنقباسية: أستبعد هذا الأمر، فبيت العرافة رفض آخر فرمانين. الكائنات تعتقد أن العام في أوله، ومن كثرة ما نسينا أحداثًا، لا أستطيع حتى تذكّر في أي قمر نحن.

الساكنة الذهبية: في التاسع والثلاثين.

سنقباسية: انتهى عام آخر دون أن نفعل شيئًا، واقترب احتفال سقوط القمر، والحوريات الصغيرات يرغبن في الذهاب، ماذا أقول لهنّ؟

الساكنة الذهبية: اصنعي احتفالك الخاص، بمقدور الغول أن يجلب لك الملح، ولو أنني لا أعرف سبب إدمانك عليه.

سنقباسية: على الملح أم على الغول؟

من غرائبيات صداقة الساكنة الذهبية وسنقباسية، أن أيًّا منهما لم تكن تتقبل حبيب صديقتها، فالساكنة الذهبية لم تكن مرحبةً بعشق صديقتها الفاتنة لهذا القبيح كما تسمّي الغول، وسنقباسية كما نعرف يجمعها عداء صريح مع عبسون، ومع هذا لم تنقص صداقتهما، بل على العكس ربما ساهم هذا الأمر في توثيقها، لأن كلتيهما أمنت أن تقع صديقتها في حب حبيبها.

ورث حاكمنا عبسون القوانين المقيّدة عن والده رمرم كما ورث عنه قِصره، لكنه على العكس منه لم يحاول إيهام الآخرين بالطول، وخلال فترة حكمه لم يفكر في إلغاء الفرمانات القديمة خوفاً من أن يبدو حاكماً ضعيفاً لا قوياً كرمرم، بل صار أكثر حرصًا من أبيه على أن ينصاع الجميع لها، وبغض النظر عن اقتناعهم أو اقتناعه هو شخصياً بهذه الموانع.

قبل أيام من حلم سنقباسية والساكنة الذهبية الأخير، أنّب عبسون حوريةً صغيرةً بسبب تجاوزها الخطوط الحمراء المرسومة حول حافات القنوات المائية خلال محاولتها استعادة سمكة ضوئية قفزت من الماء إلى البرّ، فعادت الصغيرة إلى سنقباسية باكيةً، الأمر الذي أغضب سيدة الحوريات، فأصدرت الاعتراض التالي ونشرته من خلال المرايا:

"نلوح بزعانفنا اعتراضًا على قانون منع حركتنا خارج القنوات المائیة، الحریة تنبت على الأشجار وتسقط مع الأقمار، وكلنا یعرف أن لها تسعة مذاقات، وسواء قرر الكائن تذوقها كلها أو تذوّق واحد منها أو حتى عدم تذوقها، فإن خياره لا یبرر منعها عنه. وعلیه، كون الحوریات بلا أقدام لا یبرر حرمانهنّ من التواجد خارج القنوات، ولو كان هناك قانون یمنع الفیلة من الطیران لما كان أول فیل جرّب أن یطیر قد اكتشف أن في إمكانه التحلیق، ولم نكن لنرى أسراب الفیلة في السماء في موسم الهجرة إلى الشمال".

والفيلة الطائرة القادمة من الجنوب، أمر حدث مرةً واحدةً، ولم تزل أسبابه غامضةً، وهي مما نسميه في سرمدان "أحداث المرة الواحدة" التي تأتي من المناطق غير المأهولة. 

اعتاد بعض الجن الماجن والغول أن يجلسوا بجانب القنوات المائیة لقراءة الشعر والغناء والعزف للحوریات، وتدور معظم القصائد حول الاشتياق إلى البحر، وطعم الملح الغائب، وكم من قصة حب أصدر مركز المجانين السياسي الحاكم فرمانًا بنسیانها بسبب قانون "احترام دیموغرافیة الأجناس المتشعبة"، جملة لا تزال غیر مفهومة في أذهان السرمدانيين

في إحدى المرات، قفز ضفدع عملاق في وسط الساحة الزمردية المقابلة لبرج القصير ثم انكمش حتى صار بالحجم الطبيعي وغادر إلى القنوات، وفي مرة أخرى زحفت من بين أقدامنا آلاف الروائح العطرة الملوّنة قبل أن تختفي. إنما أحلى حوادث المرة الواحدة، كانت يوم ظهرت القبلات الهوائية الحمراء التي كانت تلاحقنا في كل مكان، قبل أن يتمكن مركز المجانين السياسي الحاكم من العثور على الآلة التي تصنعها ويصادرها.

وفي الغالب، أحداث المرة الواحدة هي نتيجة حلم منسيّ، أو خيال مفقود، أو أمنية لم تتحقق لطفل، ودائمًا ما تحدث فجأةً وتفتقد العقلانية، وتكون غامضة الأسباب. لكن البحث عن الأسباب ليس أمرًا مهمًا هنا، ففي بلاد كل سكانها من الخرافات لا يُعدّ المنطق أمرًا ضروريًا، ولا تُعدّ حتمية الفهم شيئًا ملحًّا، باستثناء الأحداث التي ستبدأ مع سقوط القمر التالي، والتي ستُعدّ غير منطقية، حتى في بلاد تحكمها زمرة من المجانين.

اعتاد بعض الجن الماجن والغول أن يجلسوا بجانب القنوات المائیة لقراءة الشعر والغناء والعزف للحوریات، وتدور معظم القصائد حول الاشتياق إلى البحر، وطعم الملح الغائب، وعدم القدرة على اللقاء. وكم من قصة حب أصدر مركز المجانين السياسي الحاكم فرمانًا بنسیانها بسبب قانون "احترام دیموغرافیة الأجناس المتشعبة"، والجملة الأخيرة لا تزال غیر مفهومة في أذهان السرمدانيين، لكن كما قلنا سابقًا، ليس الفهم أمرًا ضروريًا هنا.

وبما أن الغول ومعظم الجن الماجن لا يتقنون الغوص، والحوريات لا يستطعن المشي، فالشوق الذي تشهده القنوات المائية ينبت على هيئة أنواع مذهلة من الورود والنباتات بألوان صارخة تعكس الحنين، فتميل وتهدأ نهارًا وتتمدد وتشرئبّ ليلًا، تمامًا كما يفعل الشوق في العشاق.

قبل يوم من سقوط القمر الأربعين، كانت سنقباسية والغول قد تواعدا ليلًا بحضور وعي الحب. انتظرت الحورية الحسناء حتى اشرأبّت النباتات والأزهار حول القنوات لتخفي ما تحتها قبل أن ترفع رأسها الجميل من تحت الماء حيث يجلس الغول في انتظارها قرب القناة المائية الكبرى.

يعرف الغول في كل مرة أن حبيبته وصلت بسبب الدغدغات الناعمة التي تداعب بها قدميه من تحت الماء.

اسم هذا الغول الطيب كليب، وقد جاء إلى سرمدان مع فرهد والعنقاء في انتقال واحد على أنهم المستحيلات الثلاثة: "الغول والعنقاء والخلّ الوفيّ"، وقصتهم التي لا تشبهها أي قصة لم تُعرف في عالم البشر لأنها تشتتت كما تشتتوا هناك. ولم تُعرف هنا أيضًا لأن ثلاثتهم نسوها بعد عملية التكور الحسي وفقدان الذاكرة القديمة، ولا يعرفها إلا الأبلق، عرّاف نجد، وأنا من بعده، وهي قصة سيأتي أوان تذكرها بعد قليل.

لو لم نشاهد من الغول إلا عينيه لاعتقدناه من أوسم البشر، لكنه ورث من حياته السابقة قلة الكلام، شكله المخيف، ضخامة الجثة، الشعر الذي يغطي معظم جسده ووجهه، أنفه العريض، أسنانه الكبيرة بنابين بارزتين، وانحناءة خفيفة في الظهر لم تولد معه، إنما اكتسبها في طفولته بسبب خجله من العيون ومن سخرية الأطفال الآخرين من مظهره، يضاف إلى ما سبق صوته الرخيم المرتفع ولغته العربية الجميلة.

كليب الغول: أطلتِ الغياب يا ذات الحسن.

سنقباسية: أقصر غيابي يومًا؟

كليب الغول: لا وحق عشقكِ، غياب لا يقصر وشوق لا يفتر.

سنقباسية ضاحكةً: ألك في الماء حاجة ومنعك الخجل؟ أم حسبنا ما جئت به من غزل؟

كليب الغول: بلى، حاجة العاشق هي.

سنقباسية: سآتيك بها إذًا.

ترفع سنقباسية جذعها، وتتكئ على ركبتيه، ويدنو هو منها ويداعب شعرها بيديه، ويتبادلان الأحاديث والضحكات والغزل حتى الصباح، وكم من مرة صادفناهما قرب القنوات أنا وفرهد وهما يتسامران في أثناء مسيرنا ليلًا لمراقبة النجوم، ومن رآهما في ساعات الحب يعرف أن وعي الحب لم يشاهد يومًا أجمل مما شوهد في لقاءات الحورية والغول.

على الرغم من إصدار أكثر من فرمان نسيان بحق قصة حبهما، إلا أنهما كانا دائمًا يعودان للوقوع في الحب في اليوم التالي، لذا توقف المركز عن إصدار الفرمانات بشأنهما لأنها لا تجدي نفعًا.

أنواع العشق كثيرة، وهي ذاتها هنا كما هي في عالم البشر، لكن النوع الذي يجمع بين اثنين لا يقول المنطق بأنهما سوف يلتقيان في الحب، هو الأقوى، فكما تعتاش هذه المشاعر على الاتفاق تعتاش على الاختلاف. والحب يكبر بالعناد أيضًا، فكلما سمع الغول جملة "ما الذي تحبه الحورية فيك؟"، وكلما سمعت هي "ما الذي يعجبكِ فيه؟"، كان العناد يغذي تشبث كل منهما بالآخر.

من أسرار هذه الحكاية المبكرة والتي لا أملك إلا أن أفشيها، هي أن الغيلان والجن يستطيعون السباحة إذا صدّقوا أنهم قادرون عليها، حتى الأصنام والطواطم بإمكانها هذا، لكن أحدًا لم يخبر أهل سرمدان بقوة الأمنيات ولا هم جرّبوا، تماماً كما تستطيع الحوريات المشي ولا تعلم. وحتى مع مطالباتها المتكررة، تعتقد الحوريات أنها ستحتاج إلى سنوات سرمدانية ومئات الأقمار لاستعادة قدرتها على الوقوف والسير بعد أن يُرفع عنها المنع، وهو مجرد وهم صنعه الخوف في رأسها.

إن أحدًا منّا لم يجرّب أن يتحرك بخلاف الطريقة التي ورثها من حياته السابقة، وهذا الجمود في التخيل هو أحد الأعراض التي تصيب الكائنات المنتقلة إلى هنا، فتفقد جزءًا من خيالها في مقابل انتقالها إلى الخيال نفسه، وهي خسارة وضريبة لا بد من دفعهما. لكن إن كنت تعيش في بلاد المجانين، فبإمكانك أن تتصرف كالمجانين لترى إلى أين سيصل بك الأمر، فـ"الحرية لا تحتاج إلى كثير من التدريب"، يقول القط في تخاطره ومحاولاته المستميتة لمشاركتي كتابة هذه القصة.

لا أحد يسأل من أين تأتي الأساطير في سرمدان، فكلنا هنا وكلنا يعيش في انسجام، باستثناء الحوريات، إذ يبدو أنهن مطالبات بمزيد من التفسير بأن يُجبن عن سؤال: من أين جئن؟.

الجن الماجن يقولون إنهن نتیجة علاقة شهوانیة بین سمكة ملونة ورجل طويل، وإن السمكة لم تزل تبيض كل عام، بینما يردد المجانين مقولات غامضةً مثل أن الحوريات یختفطن رجلًا كل لیلة یعاشرنه واحدةً تلو الأخرى حتى الموت. وهي نظرية لو صحّت لكان ذكور سرمدان قد انقرضوا منذ زمن.

أما الحقيقة فلم يقلها أحد، وهي أن الحوريات يستطعن التكاثر بأي طريقة يردنها، فلهنّ أن يتكاثرن كالأسماك إذا أبقين الزعانف، أو كالبشريات إذا خلعنها، ولهن أن يتكاثرن كالبكتيريا بالانقسام، أو كالخرافات بأن تخطر فكرتهنّ في بال إنسان ويتحققن بفعل المادة الخام للتخيل.

والغالب أن أهل سرمدان لو لم یكونوا قد تأثروا مسبقًا بالأوصاف التي أطلقها المركز على الحوريات قبل تخفيض نسبة الشر في البلاد، لم یكونوا لیمانعوا خروج الجميلات من القنوات المائية إلى الشوارع والساحات والبساتين، فمن المحزن أن يُسجن هذا الجمال في أماكن ضيقة. فكما تقول ساكنات المرايا: "الحیاة بحاجة دائماً إلى مزید من الجمال"، حتى في سرمدان، أجمل وأسعد مكان في اللا وجود. 

فصل من رواية "سرمدان... الغول واالعنقاء والخل الوفي" الصادرة عن دار أثر للشاعرة والروائية جمانة مصطفى. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image