يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
صباح الإثنين في الخامس من آب/أغسطس 2051، كنت قد استيقظتُ باكراً بخفّة ونشاط على غير عادتي، ربما لأنني على موعد مع زوجتي "ليلى"، التي كنتُ قد وعدتها ليلة البارحة بتخصيص هذا اليوم بكامله لها. فمؤخراً، باتت ليلى تضجر من انشغالي الدائم بالكتابة عن خطر الروبوتات، وهي مُحقّة، لكنني أيضاً لا يمكنني الصمت إزاء هذا التجريف للحياة. ليلة البارحة أيضاً قضيتها في كتابة مقالة جديدة عن خطر الروبوتات على الحياة الاجتماعية في صنعاء؛ ما معنى أن تذهبَ إلى البريد فيستقبلك روبوت غبي بدلاً من فتاة بلهجة صنعائية رقيقة؟ وما معنى أن يُستبدل رجل المرور العمّ صالح، الذي تعوّدنا على صوته الشجي وهو يدندن في جولته، بكتلة حديدية جامدة؟ ثمّ إننا ما قمنا بثورة صنعاء الأخيرة إلا لاستعادة حياتنا الاجتماعية من جماعة أبناء الربّ، فكيف تسمح الحكومة بسلبها مرةً أخرى من قبل جماعة الرأسماليين الجُدد الذين أغرقوا مدينة صنعاء بالروبوتات اللعينة؟
صباح الإثنين في الخامس من آب/أغسطس 2051، كنت قد استيقظتُ باكراً بخفّة ونشاط على غير عادتي، ربما لأنني على موعد مع زوجتي "ليلى"، التي كنتُ قد وعدتها ليلة البارحة بتخصيص هذا اليوم بكامله لها. فمؤخراً، باتت ليلى تضجر من انشغالي الدائم بالكتابة عن خطر الروبوتات، وهي مُحقّة
انتهيت من إرسال مقالتي للنشر، والتي بالطبع سيستقبلها روبوت لعين وينشرها روبوت آخر! وذهبت لارتداء ملابسي؛ البنطال الكُحلي، القميص الأسود، والمعطف الشتوي الذي أهدتني إياه ليلى العام الماضي بمناسبة ذكرى زواجنا الخامسة والعشرين. زوجتي ليلى هي الأخرى انتهت من ارتداء ملابسها؛ تنورتها الكُحلية، وقميصها الزهري، ومعطفها البرتقاليّ، وهو اللون الذي تُحبه أكثر من أي شيء! ولم تنسَ طبعاً قلادتها المُزيّنة بوردتين بُرتقاليتين منقوشتين يدوياً من خيوط الصوف، والتي كنت قد أهديتها إياها عندما اعترفت لها بحبيّ لأول مرة، في مثل هذه الأيام المُمطرة، في آب/ أغسطس قبل ستة وعشرين سنةً.
حينها، أخبرتها بأنني صببتُ حُبّي كله في تلك القلادة، ومن حينها وهي لا تفارق رقبتها. تقول ليلى إنها ترتديها بشكل دائم كي لا تنسى ذلك اليوم. أما أنا، فأتذكره وكأنه أمس. كان ذلك الاعتراف على طاولة قسم العوائل لأحد مطاعم صنعاء، قبل ثورة صنعاء الأخيرة، حيث لم يكن للعشاق مكان لاستراق الحب، إلا خلف ستائر أقسام العوائل، فقد كانت شوارع صنعاء كلها تحت رقابة جماعة أبناء الربّ.
أنا جاهز للخروج، وليلى أصبحت جاهزةً وتساعد ابنتي "روح" في تجهيز أدواتها الموسيقية كي أوصلها معي إلى المعهد، إذ تدرسُ "روح" الموسيقى في معهد صنعاء للموسيقى، وبعد الظهيرة تتعلم رقص الباليه في المسرح الوطني للعروض الراقصة، والذي تم إنشاؤه في العام التالي لعام قيام ثورة صنعاء الأخيرة. أما معهد صنعاء للموسيقى فقد أُنشئ نهاية العام نفسه، أي عام الثورة.
انتهيت من إرسال مقالتي للنشر، والتي بالطبع سيستقبلها روبوت لعين وينشرها روبوت آخر!
في الخارج الجوّ ممطر. هكذا تُصبح صنعاء في آب/ أغسطس من كل سنة. دلفت إلى السيارة، وصعدت ليلى في المقعد بجواري، بينما ركبت "روح" في المقعد الخلفي، وكالعادة في أثناء قيادتي السيارة في شوارع صنعاء، لا أتوقف عن التذمر من هذا الغزو اللعين لهذه المدينة الجميلة من قبل الروبوتات اللعينة التي أصبحنا نصادفها في كل شارع، إلا أن "روح" لها وجهة نظر أخرى، وهي أيضاً قد سئمت من هلعي المستمر من الروبوتات، فهي ابنة عصرها، كما أنها لم تعرف ما معنى أن تُسلَب حياتك منك. هي اليوم تعزف وتغنّي، وترقص، وتُحب، وتصرخ، وتختار ما تأكل وتشرب وترتدي، وتتنقل وتسافر بحرّية، وتقول رأيها بحريّة، ولا تعرف معنى أن تُسلب منها أيّ من هذه الممارسات؛ فأنا ووالدتها لم نفعل ذلك معها. لم نحاول قط سلبها حقها في الاختيار، وحقها في الحياة، كما أنها لم تعِش مرحلة ما قبل الثورة حينما كان كل هذا ممنوعاً، وكانت الحياة ممنوعةً برمّتها من قبل جماعة أبناء الربّ، لذا لا تفهم خوفي هذا من الروبوتات وقلقي من أن تسلبنا حياتنا. فابنتي "روح" وُلدت بعد ثورة صنعاء الأخيرة بخمس سنوات، وهي اليوم في العشرين من عمرها. أما والدتها التي عشتُ معها مرحلة اللاحياة التي كانت قبل الثورة، فتتفهم تذمّري وقلقي الدائم، فهي أيضاً ممن ناضلوا للحصول على ملامح الحياة البسيطة هذه.
وصلنا إلى معهد صنعاء للموسيقى. نزلت "روح" وودّعتنا، وواصلتُ أنا وليلى موعدنا الذي بدأناه بالإفطار في صنعاء القديمة. اتفقنا على استرجاع موعدنا الأول، فكان إفطارنا الكباب البلدي، وبعدها سرِنا مشياً إلى مشاتل السبعين، المكان الذي قطفتُ منه وردتنا البرتقالية الأولى في أول لقاء بيننا. لكنّ هذه المرّة قطفت ستة وعشرين وردةً، ولم تكن "ليلى" بخجلها وخوفها في ذلك اليوم، فلا عيون تُراقب، ولا أبناء ربّ يتربّصون بخطواتنا.
تمشّينا حتى الظهيرة، وكان غداؤنا أيضاً كأول غداء لنا؛ سمك الصاج ووجبة "الصيادية" المناسبة لأجواء ممطرة كهذه. بعد الظهيرة، اصطحبت "ليلى" إلى سينما بلقيس التي ظلّت مغلقةً طوال حكم فترة "أبناء الربّ" الذين لطّخوا جدرانها بعبارات باللون الأخضر عن خطورة السينما وتهديدها لأخلاق المجتمع. كانت الجماعة قد حوّلتها إلى مكان مهجور يتبّول فيه المشردون، حتى جاءت ثورة صنعاء الأخيرة، وأعادت تأهيلها وافتتاحها، وها أنا اليوم أجلسُ مع زوجتي على مقاعدها الأمامية نُشاهد فيلماً عن قصة حب لعاشقين عاشاها في مرحلة ما قبل ثورة صنعاء الأخيرة. بقدر ما حملت قصة الفيلم من الحب، حملت من الوجع أيضاً. انتهى الفيلم قبل الغروب، وليلى مُستندة إلى كتفي تشدّ يدي بقوة متأثرةً بالفيلم الشاعري والمؤلم في الوقت نفسه، وظلّت يد ليلى مشدودةً على يدي حتى عُدنا إلى البيت بعد أن مررنا لاصطحاب ابنتنا "روح" معنا.
ابنتي "روح" وُلدت بعد ثورة صنعاء الأخيرة بخمس سنوات، وهي اليوم في العشرين من عمرها. أما والدتها التي عشتُ معها مرحلة اللاحياة التي كانت قبل الثورة، فتتفهم تذمّري وقلقي الدائم، فهي أيضاً ممن ناضلوا للحصول على ملامح الحياة البسيطة هذه
وفي الساعة التاسعة مساءً، خرجت "روح" من غرفتها لتشاركنا الجلسة. هذه الليلة أوقفتُ نشاط كتابتي المعتاد. كان يوماً يجب أن أحتفظ بشاعريته. طلبت "روح" منّي أن أحكي لها عن ثورة صنعاء الأخيرة، وعن صنعاء قبل الثورة. ربما لم تغادرها أسئلة نقاشنا السريع اليوم في السيارة، لذا رحت أشرح لها عن ظلامية تلك المرحلة، وكيف سلّطت جماعة أبناء الرب أنيابها على حياتنا وقتها، فمنعتنا من العيش والحياة، وكيف أننا قاومناها، لتُقاطعني مُتسائلةً: هل حملنا أسلحةً وأقمنا حرباً على الجماعة؟ لم تعرف أن الجماعة تخاف من أشياء غير السلاح، فكانت مقاومتنا بما يخيفها، بالغناء والصراخ بحرّية في وجهها حتى كانت تتفجر أدمغة عناصرها من صدح الأغاني التي قضت كل حياتها في منعها وتجريمها!
انتهى حديثي مع "روح"، ودخلت غرفتها لتبدأ بعزف مقطوعة ثورة صنعاء على عودها اليمنيّ القديم "القُنْبُوس"، وأنا وليلى على الأريكة في غرفة الجلوس نستمع إلى دندناتها الهادئة التي قاطعها صوت هطول المطر في الخارج. حينها، نظرت إلى ليلى، وأمسكت بيدها وسحبتها بسرعة إلى خارج البيت. وفي الشارع، على صوت مقطوعة ثورة صنعاء المنبعثة من غرفة "روح"، رقصنا تحت المطر. راحت ليلى تتمايل مع حركتي بهدوء، وفي منتصف الرقصة اجتذبتها من خصرها لتلتصق بي، وهمستُ في أذنها: "تخيّلي يا حبيبتي، أنا وأنتِ في شوارع صنعاء وتحت المطر نرقص! ماذا لو كان هذا قبل الثورة"! زمّت ليلى شفتيها، مُستذكرةً رُعب تِلكَ المرحلة، وقالت: "كُنّا سنُقتل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...