شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بنات على جدار

بنات على جدار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الأحد 10 نوفمبر 202411:00 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا. 

لم يتعرف بسهولة على مدخل شارع طلعت حرب، ضلّ طريقه بين أشجار القيقب الحمراء والأوراق العريضة لأشجار الجوزية، والهامات العالية لأشجار الحور التي اصطفّت متجاورة مثل حرس استقبال فحجبت مشهد العمارات الخديوية. انتفض أكثر من مرة حين ركضت بين قدميه السناجب تحمل حبات الجوز، مسرعة في طريقها إلى غابات الكستناء والصنوبر التي احتلت مكان المنصة الحجرية القديمة وسارية العلم والتقاطعات المرورية التي نسيت الآن أصداء أبواق السيارات وعوادم الحافلات وفرقعات محركات الدراجات النارية التي كانت تختصر الطريق بين العربات المستسلمة لإشارات المرور البشرية المتجسدة في عساكر مغتربين. بدلا من كل ذلك لم يعد هناك سوى ممرات عشبية ممهدة للأقدام المتجولة بهدوء بين الأشجار، مغطاة ببساط من الأوراق الصفراء التي تساقطت معلنة مقدم الخريف، وزقزقات عصافير الدوري والكارولينا التي تقافزت بين قمم الشجر، ونسيم فيه شىء من بلل كأن ندى الصباح بقي معلقا حتى تلك الظهيرة التي يبحث فيها وارف عن العنوان، مندهشا من أنهم لم يغيروا أسماء الشوارع ولا الميادين ولكن لأن الميادين والشوارع هي التي تغيّرت، فقد بدت أسماؤها غريبة عنها.

على الناصية اليمنى حيث كانت تصطف في الزمن السابق عربات الأمن المركزي وخلفها بائع الكتب والصحف الأجنبية وجد صالة رياضية كشفت واجهاتها العريضة المثابرين داخلها على تحسين لياقتهم البدنية، كانوا يركضون ثابتين فوق أجهزتهم ويتطلعون إلى الميدان الشجري بأعين غارقة في عالمها الذاتي. فكّر وارف في أن هذا التوقيت نصف النهاري غريب قليلا لممارسة الرياضة، تذكّر سَفرة قديمة للغاية لإحدى دول الشمال، حيث كانت واجهات الصالة الرياضية تضيء في الليل وكان يجرع كأسه في البار القريب، ثم يخرج ليشاهد الفتيات عبر الزجاج يركضن بصحتهن الوافرة ولا يرينه في الليل كما لم يكن يرينه في النهار. وعاد يرى انعكاس وجهه على واجهة صالة الشارع الذي احتفظ باسمه ونسي شكله فوجد أن ملامحه هو لم تختلف كثيرا، أو هكذا يعتقد، لا يزال ببشرته شبه البيضاء وشعره شبه الأشقر يشبه المتجولين حوله هنا في العهد الجديد للشارع والمنطقة والبلد. 

لم يتعرف بسهولة على مدخل شارع طلعت حرب، ضلّ طريقه بين أشجار القيقب الحمراء والأوراق العريضة لأشجار الجوزية، والهامات العالية لأشجار الحور التي اصطفّت متجاورة مثل حرس استقبال فحجبت مشهد العمارات الخديوية. انتفض أكثر من مرة حين ركضت بين قدميه السناجب تحمل حبات الجوز

دخل يمينا باتجاه عابدين ورأى على الرصيف الأيسر صفا من المطاعم الآسيوية في مكان الحوانيت الصغيرة التي كان يشتري منها في الماضي الأدوات الكهربية والمصابيح ومستلزمات الهاتف المحمول، برز مدخل مجسم الرسومات لمطعم ياباني في مكان مكتب مدرسة قيادة السيارات التي حاول فيها يوما سائق عجوز وعصبي أن يعلمه القيادة وسط الزحام العشوائي الذي اختفى الآن من شوارع منصور والمبتديان وقصر العيني. وقف مترددا عند إشارة مرور المشاة على ناصية مدخل باب اللوق. كان الصوت الآلي ينطق الإرشادات المرورية بلغة يصعب تمييز إن كانت عربية بلكنة أجنبية أم أجنبية بلكنة عربية، كانت مسموعة رغم ذلك وسط هدوء الشارع وغياب أبواق السيارات وصيحات السيّاس القديمة، الأسوار الحديدية القديمة لكراج باب اللوق أزيلت وحل مكانها أرصفة مزروعة بالورود وموقف للدراجات، أرصفة الميدان الأسطواني استضافت طاولات المحلات المحيطة نصف المشغولة بزبائن معظمهم في سن الشباب، يتناولون القهوة ويلتهمون الفطائر والكعكات. يبدون طلبة وطالبات، تسائل وارف عن سر وجودهم هنا، فهم أصغر من أن يبدوا في سن العمل، هل أحضر القادمون أبنائهم معهم؟ لا غرابة في ذلك. هكذا قال لنفسه وهو يعبر الميدان مع مجموعة متنوعة الجنسيات من المشاة، وصل إلى الرصيف الآخر واتجه إلى شارع هدى شعراوي، اخترق ممرا صغيرا ولاحظ الجرافيتي على الجدران يرسم وجها عملاقا لمغنية سمراء بشعر مجعد على النمط الأفريقي، تتطلع إلى ما يبدو كرة أرضية صغيرة، على الناحية الأخرى رسم لطابور من الرجال المتشابهين يتجهون في استسلام أو شرود إلى لا شىء، فقد انتهى الممر قبل أن يصل الرجال المرسومين إلى أي مكان. 

نظر إلى العنوان المدون في هاتفه وعاد ينظر أمامه بعد أن انتهى الممر، كان العنوان يشير إلى المبنى الكبير الذي كانت تحتله فيما مضى وكالة الأنباء الرسمية. اختفت الشرفات الصفراء الطويلة واحتل مكانها جدار زجاجي على هيئة ناطحات سحاب مانهاتن

نظر إلى العنوان المدون في هاتفه وعاد ينظر أمامه بعد أن انتهى الممر، كان العنوان يشير إلى المبنى الكبير الذي كانت تحتله فيما مضى وكالة الأنباء الرسمية. اختفت الشرفات الصفراء الطويلة واحتل مكانها جدار زجاجي على هيئة ناطحات سحاب مانهاتن، اختفى السلم القديم وصار الداخل يلج مباشرة بلا صعود إلى الاستقبال. على اليسار تطلع فيه رجل بملامح هندية مستفهما فتوجه إليه. نطق اسمه فراجع الموظف شيئا على شاشته وطلب منه الصعود إلى الطابق العاشر. المصعد كان خاليا وظل كذلك حتى وصل إلى مبتغاه. انفتح الباب على ممر مليء بغرف صامتة مغلقة، مشى إلى آخره حيث انفتح باب وقف خلفه رجل متوسط الطول بملامح يصعب تحديد جنسيتها، وتكلم بالانجليزية:

- سيد وارف؟ تفضل أرجوك.

اندهش وارف لأن الغرفة كانت مشمسة لدرجة أبهرت عينيه، لم يكن الضوء الخريفي في الخارج بهذه القوة، تلفّت لا إراديا كأنما يبحث عن مصدر آخر للضوء سوى النافذة العريضة المطلة على ممر أشجار الصمغ التي احتلت رصيفي شارع صبري أبو علم، وتشابكت قممها العريضة التي تشبه المثلث المقلوب فصنعت سقفا أخضر للشارع الذي ارتبط عنده في الزمن القديم برائحة الطعمية ومناسبات العزاء في المسجد الملاصق لكاتدرائية الأرمن الكاثوليك.

على الجدار خلف الرجل الجالس إلى مكتبه الآن نسخة مقلدة من لوحة محمود سعيد "بنات بحري". النسوة الثلاث في الرسم كن يتطلعن إلى وارف من خلف البرقع الشفاف، اثنتان في الواقع كانتا تنظران إليه لأن الثالثة كانت مغمضة العينين، ورغم أن البحر احتل زاوية صغيرة في اللوحة مقارنة بالنسوة وبالسماء التي طافت في ركنها الأيسر سحابة قطنية تشبه قبعة إفرنجية، إلا أنه كان أشد ما لامس شيئا في نفس وارف، أعاد إليه مزيج رائحة اليود والسمك المشوي الذي غاب عن ذاكرته لسنوات، وكاد يرى نفسه في أزمنة ما قبل التاريخ حين كان شابا نحيفا يمشي فوق السور الحجري للكورنيش محاولا لفت نظر أي من البنات ذوات الصوت الصاخب، وأعاده الرجل غير محدد الجنسية إلى المكتب في هدى شعراوي وهو يقول:

من النادر أن يصلنا طلب مثل طلبك.

لم يجد وارف ما يجيب به، فاكتفى بهز رأسه واستمع إلى الصوت الذي بدأ يشعر به معدنيا كصوت إشارة المشاة.

- في الواقع معظم الناس مرتاحون في وضعهم الحالي، أجرؤ حتى على القول إنهم سعداء.

وجد وارف صوته أخيرا وأراد أن يستخدم التعبير الشعبي عن الأصابع غير المتشابهة ثم قال:

- الاستثناءات موجودة دائماً، كما تعلم.

شعر أن استخدامه اللغة الإنجليزية، رغم عمله لسنوات طويلة كمترجم، أو ربما بسبب عمله كمترجم، يجعله يتحدث كأنه شخص آخر، تعبيراته مقتبسة من القواميس والأفلام الأجنبية. شعر أيضا، بسبب الخبرة نفسها، أن الإنجليزية ليست اللغة الأولى للرجل الذي يفاوضه، ربما كان الإحساس نفسه، احساس الاقتباس هو ما يشعر به الآخر، هكذا أحس أن شخصان آخران، غيره وغيره المفاوض، يتواجهان في المكتب تحت أنظار بنات بحري. وكان الرجل ينظر في أوراق قليلة العدد (يعتقد وارف أنه يمثل أنه ينظر، وأنه لا يحتاج حقا لمراجعتها) قبل أن يقول:

- وأنت من أصحاب الاستثناء. أو هكذا تعتقد، أليس كذلك؟

شعر وارف أنه يشير إلى تجربة السجن، أو إلى ما أدى به إلى السجن، أو حتى إلى فكرته التي أدت إلى كل ذلك، لكنه أجاب باقتضاب:

- لم يكن دائما الاستثناء الذي أفضله.

بدا أن الرجل لم يسمعه وهو يوجه سؤاله التالي :

- وارف شاهين.. أعتقد أنه ليس اسما دارجا هنا، في هذا البلد، أأنا مخطىء؟

- أصول عائلتنا تتحدر من جهة الشام.

هكذا أجاب وهو موقن أن الأجنبي لم يكن ليستنتج غرابة اسمه من تلقاء ذاته، وأدرك أن قنوات المعلومات لا تزال تعمل جيدا. وظهرت في خياله فجأة صورة أبيه وهو يودعه على رصيف الجامعة في الشاطبي ثم اختفت سريعا. ورأى الأجنبي يبدي لأول مرة ابتسامة طفيفة للغاية:

- على كل حال، إجابة طلبك ليست مستحيلة.

واتسعت ابتسامته ملليمترات وهو يتابع:

- يبدو أنك تعرف بعض الناس يا سيد وارف. حتى هذه المقابلة بيننا لا يحصل عليها الجميع.

اكتفى وارف بهز رأسه وحاول ألا يفكر في سالي الآن. ورأى الرجل ينهض قائلا:

- سوف تحتاج إلى إتمام بعض الإجراءات، سنرسل لك رسالة بالموعد والمكان التالي والأوراق المطلوبة. لا أعد بشىء، ولكن حظا سعيدا.

اكتفى الرجل بالوقوف ولم يصحبه إلى الباب، غادر وارف وانغلقت الحجرة وراءه ومشى عائدا في الممر الطويل ذي الحجرات المصمتة، وجد المصعد خاليا في انتظاره والرجل الهندي في الاستقبال غارقاً في شاشة حاسوبه فخرج إلى الشارع، فكر أن يتوجه يمينا باتجاه بيته القديم في شارع عدلي ثم أوقفته ارتعاشة في ظهره ورجفة ركبته اليسرى، فعاد يتجه يسارا، وعلى الناصية قبل يوسف الجندي وجد نفقا مكتوب عليه "النيل". كيف استطاعوا حفر النفق بين الأساسات المتداعية لعمارات القرن التاسع عشر؟ توقف أمام المدخل الصامت ثم هبط الدرجات القليلة، لم يجد كما توقع رسامين أو عازفي موسيقى، كان النفق ممراً طويلاً مضاءً من مصابيح شبه خفية، تذكر الإضاءة الغريبة في مكتب الرجل غير محدد الجنسية.

صعد الدرجات وهو لا يزال لا يصدق ما سوف يراه، كان النفق يقود إلى النيل فعلا، يعبر أسفل الغابة المستحدثة التي خلقوها في الميدان الكبير، ويفضي إلى شاطىء النهر.

على الجدران كانت نقوش فسيفسائية تصوّر أبرز التفاصيل الفنية في العمارات الخديوية التي تعلوه الآن وهو يمشي في النفق، الأرضية كانت خضراء كأنها من العشب، غير صلبة كأنها من السجاد، تمتص أصوات الخطوات، رأى الكثير من الأوربيين يجدّون الخطى رائحين وغادين، انتقلت جديتهم إليه فأسرع في خطوه مثلهم كأنه يخشى أن يكتشفوه، اتسع النفق قليلا قرب النهاية وكشف مطلع السلم سماء مليئة بسحب تشبه زميلتها في لوحة محمود سعيد، صعد الدرجات وهو لا يزال لا يصدق ما سوف يراه، كان النفق يقود إلى النيل فعلا، يعبر أسفل الغابة المستحدثة التي خلقوها في الميدان الكبير، ويفضي إلى شاطىء النهر، رأى نخلات من نوع قصير، جذوعها عريضة إسطوانية كأنها ثمرات أناناس، تناثرت حيث كان يقف في الزمن القديم باعة حمص الشام، وحيث كان يطوف باعة الكعك والبيض والورد توزعت مقاعد خشبية وأخرى حجرية فوق منعطفات عشبية تنحدر في اتجاه الماء ويجلس فوقها الناس وحولها فرادى وفي مجموعات، بعضهم كان يعزف على آلات وترية، جيتارات غالبا، والبقية يدخنون ويحتسون أنواعا مختلفة من البيرة، ميّز بينها بعض زجاجات ستلا فأحس بشىء من الألفة وسط ضجيج اللغات المتشابكة المحيط به. تطلع نحو الشاطىء الآخر وتأمل برج الجزيرة وقبة مبنى الأوبرا كأنما ليتأكد أنه لم يغادر البلد. وأحس فجأة أن أعينا تراقبه من دون أن يراها، مهارة ربّاها في زمن الشقاوة القديم، أو أنشأها فيه الخوف وغريزة البقاء أنذاك، من بين الشبان المشغولون بأحاديثهم الصاخبة، وأمام الموجات النيلية غير الملحوظة، وتحت زقزقات الطيور المسموعة رغم الضجيج، رأى عينين تراقبانه بشيء من التكاسل، صاحبتها ترتدي زيّا خاصا بالعاملين في الأمن، تستند إلى دراجة بخارية استندت إلى تلة صناعية اكتست باللون الأخضر نفسه المميز للعشب المحيط، كان شعرها المزيج بين الأشقر والبني ملموما في كعكة خلف رأسها وثمة نظارة شمس معلقة فوق صدرها، وتعلق إلى حزامها جراب صغير لا يبين إن كان مسدسا أم عصا كهربية. وحولت نظرها إلى رجل آخر ظهر في الزيّ نفسه همس لها بشيء فابتسمت وعادت تنظر إلى وارف في لمحات تتصنع عدم التعمد. تحسس وارف محفظته التي تحتوي ورقة كود موعده مع الرجل غامض الجنسية، وانتفض حين أزّ هاتفه ورأى الرسالة من سالي تسأله إن كان عاد إلى البيت بعد. أجابها ونظر مرة أخرى نحو النهر وخطر له فجأة أن لوحة البنات على جدار الرجل غير محدد الجنسية قد تكون النسخة الأصلية.

..

فصل من رواية "مرحلة النوم"

صدرت حديثاً عن دار الكتب خان بالقاهرة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image