شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الوطني الذي يؤجّل عمل الغد إلى ما بعد الغد...

الوطني الذي يؤجّل عمل الغد إلى ما بعد الغد...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الاثنين 18 نوفمبر 202411:17 ص

تلحُّ على المرء حاجةٌ لأن يعترف، لا لكاهنٍ أو إله، إنما لنفسه، وللعدد القليل من قرّائه ومحبيه فحسب، وهو اعتراف لا يجيء له أوان محدّد بقدر ما هو رياضة يومية إلى حد ما، ومنذ أن سمعتَ باعترافات جان جاك روسو وأنا أتطلع بصبر وشغف لأن أعيش حياة فيها عدد هائل من المغامرات، وأرتكب خطايا تبدو ممتعة عند الإقرار بها، أو التنصّل منها.
لكن، أتجيء الاعترافات في النهاية أم في البدء؟ أهي خطاب إنساني أدبي مجّاني لا غاية له، أم هي نية بالتوقف عن المغامرات؟
ويجيء الدور لأعترف لوطني الآن بأن علاقتنا لا تبدو واضحة بالقدر الذي تتضح به علاقات الناس بأوطانهم، بأن ثمة حاجة تدفعه وحده بأن يبجّل أولاده على طريقة الأم البدوية: "المقيمُ بعد أن يهاجر، الموهوب بعد أن ينال الشهرة، الجريح بعد أن يتم التشهير به، الفنان حين يموت".
ويخيل لي أن حديثاً عن وطنٍ مفترض هو حديث عن سيرة طفولة عتيقة، من أول لحظة تعلمتَ فيها المشي، ووطئت بقدميك على حيّز من الأرض، قيل لك: "امش ولا تخف". أحسستَ للوهلة الأولى بأنك ستقع، نظرات مشجّعة أوهمتك بأنك لن تقع، نقلتَ خطوة، خطوتين، ثم وقعتَ وبكيت لتسمع اللوغوس ذاته: "لا يمكنك أن تتعلّم المشي دون أن تقع". لاحقاً ستتفرع تلك الوصية إلى وصايا متفاوتة، من قبيل أنك لن تتعلم قيادة السيارة دون أن تدهس أحداً، لن تنتج عملاً جيداً دون أن تقدم نسخة رديئة منه، وبالمجمل، فإن الأرض التي ستصبح وطناً هي تلك العثرة الأولى. إنها محض خدش في الركبة و دمعة في طرف العين.
أعترف أني، والعديد من أبناء جيلي، لمسنا الوطنية عبر مشهدين هما الأشد قسوة: الحضور مبكراً من أجل رفع العلم، وكتابة إنشاء تمجيدي لبطولات صدام حسين، كيف هزم صدام العدو وكيف صار أبونا بعد أن ذهب آباؤنا شهداء أو معدومين.
تحقّق هذا الرمز في الوطن، وأتيح له أن يصير أباً عصبياً، لا يسمح لنا بأن نبدو رجالاً، لهم القدرة على التفكير و الحلم بأن نقترح عليه أو ننتقده، بأن نخبره بأنه ليس مقدساً، وأن مصيره ليس مصيراً إلهياً، وأنه ليس أحسن أب في العالم، ثمة آباء أقل منه حكمة وأسوأ أصلاً وأقصر تاريخاً، لكنهم أشد لطفاً بمعاملة أبنائهم.
كان الوطن، عند كثيرين من أبناء جيلي، الأب الصارم الذي ينتظر أن يُقدم أيٌ من أولاده على هفوة ليطرده من البيت.

الوطن الذي أنسب إليه ليس سوى قبائل متناحرة، لا يجمعها شيء سوى لحظات طفيفة، عند الفوز بكرة القدم، أو حين ينال أحد أولادها جائزة، أو حين يقع الآخر شهيداً في مكان ما من بلاده أو خارجها

لديه أفكار وطنية، لا مشاعر وطنية فحسب

أوشك أن أبدو دون مشاعر وطنية تجاه قضايا يشاع عنها أنها قضايا وطنية. لقد اشتدّ اليأس بي ودفعني الخذلان للتشكيك بتاريخنا وأغنياتنا، بأساطيرنا وأسلافنا العظام. بدا لي أني الآن وحيد، وأن الوطن الذي أنسب إليه ليس سوى قبائل متناحرة، لا يجمعها شيء سوى لحظات طفيفة، عند الفوز بكرة القدم، أو حين ينال أحد أولادها جائزة، أو حين يقع الآخر شهيداً في مكان ما من بلاده أو خارجها، مشاعر مثل تلك بالطبع هي مشاعر أخوية هائلة، لكنها أقل من أن ترقى للمشاعر الوطنية الجادة، إذ يشوبها الخوف والخجل والشعور بالأسف والإحباط، فيما المشاعر الوطنية تلك التي تشعّ وحدها مثل تفتّح وردة.
أقارب الصورة أكثر. وطني ليس سوى تلك الحديقة التي يقتسمها معنا مستأجرون لاحقون، ومستأجرون سبقونا إلى الفناء، الشموس والظلال ضروريان، الأرض والماء والهواء مصادر طاقة، لا مجازات لغوية تشعرنا بالألفة مع كلماتنا فحسب.
ودون أن أنقد وطني نقد الفئران القارضة، فإن أشياء في وطني لم تعد تثير دهشتي، أشياء أخرى تصيبني بالتوتر، وأشياء أخرى تبقيني أياماً حائراً ومنعزلاً، لاسيما إذا أوضحت أن عاطفتي تجاه وطني هي عاطفة راهنة، ذلك أن الماضي مفتوح لأن ينتمي له الجميع، والمستقبل ليس بيد أحد منا.
لدي حيل وأفكار وطنية قد تجعلني راضياً عن وطني، حيل من ضمنها أن أتجاوز العديد من أحلامي، أن أكتفي بنظرة حنونة للتاريخ، وأن أتعلم الأشياء من الأغنيات لا من الكتب، وأن أعود للأناشيد لا للحقائق، ولك أن تتخيّل حين أغض البصر عن محاكمة أناشيد طفولتي، أن أصفح عن اللحظة التي حفظنا بها نشيداً مثل:

ما ينقصني من حرية لا يمكن إشباعه بالجسور أو بالمتنزهات، ما ينقصني من كرامة لا يصحّ أن يتم مقارنته بما تم توفيره من حقوق بديهية

عاد أبي عاد أبي من جبهة القتال

عاد لكي يروي لنا أسطورة النضال

لست ضد البطولة، لكن لا قيمة لبطولة آباء على حساب رفاهية آباء آخرين، وإلا فما النبل في أن نفقد آباءنا دون أن نشعر بالاطمئنان في الوطن الذي ضحوا بأنفسهم من أجله؟

الوطن الذي لا نبكي منه أو عليه

هذا الوقت أكثر من أي مضى يصيبني شعور بالسأم من الخطابات الوطنية في أي مكان، ما إن ألمح شخصاً يذرف دموعاً من أجل وطنه حتى يدفعني الحنق منه لإشغال نفسي عنه. أي وطن ذلك الذي يسمح لأبنائه بأن يبكوا مهانين ومطرودين، جرحى وجياعاً ولائذين بالهرب؟

وطن المرء تلك اللحظة الشجاعة التي يعبر بها عن نفسه، مجرداً ووحيداً وقوياً، تلك اللحظة التي تدفعه للترفّع عن أن يضحّي بحياته من أجل جماعة واهمة، أو من أجل مشاريع يتبين لاحقاً أنها مشاريع غير نظيفة تماماً.
لا شك أني مثالي في علاقتي بوطني، لكن المرء لن يخسر شيئاً إذا انتمى لوطن ثان، الوطن هو الخاسر، هو الذي سيمسي فضاء فارغاً للحمقى والأنذال إذا غامر بطرد جميع مواطنيه الأكثر نزاهة وحكمة و عدالة ونبوغاً.

وإذا كان حديثي عن وطني يتطلب مني شرح المفردة، فإني معني بإعادة الأمر إلى التاريخ، إلى أني محبوس داخل تاريخ يراد مني أن أحافظ عليه، أن أبدأ من سبعة آلاف سنة لا من البداية، أن أتحدث دوماً عن عراق عريق وعظيم، لا عن عراق جديد، ناشئ، يبذل جهداً لتعديل شؤونه والتعلم من هفواته، والذين يطالبونني بأن أؤلف خطاباً رومانسياً يريح العصب وتطرب له الآذان، فبوسعي أن أجيبهم
بأني الآن في شارع التاريخ، بأن الحقيقة المريرة لا يتم الكشف عنها، بأن ثمة أسباب عديدة، يعرفها الجميع، تجبرني على الاعتراف بأني لا يمكنني أن أغدو وطنياً ما لم يبادر وطني بالإصغاء لمشاكلي النفسية أولاً.

العراقي بدأ غريباً و يعود غريباً، وبقدر ما يتعمّق الإحساس لديه بمفهوم الوطن، فإن أول ما يفكر به هو الهجرة منه، ذلك أن وطناً لا يوفر مناخاً لأن يعبّر المرء به عن أفكاره ورغباته وأحلامه بشجاعة ووضوح، لهو وطن أقل ما يمكن أن نعامله به هو أن نغادره

نشيد وطني للهجرة

منذ ولادة الدولة العراقية الحديثة لم يتسع أفق في ذهن أحد مثل أفق الهجرة، لم يكن ثمة عهد لا يهاجر فيه العراقيون، ولم تكن هناك لحظة تاريخية لم نشهد فيها عراقيين غرباء، وكأن العراقي بدأ غريباً و يعود غريباً، وبقدر ما يتعمّق الإحساس لديه بمفهوم الوطن، فإن أول ما يفكر به هو الهجرة منه، ذلك أن وطناً لا يوفر مناخاً لأن يعبّر المرء به عن أفكاره ورغباته وأحلامه بشجاعة ووضوح، لهو وطن أقل ما يمكن أن نعامله به هو أن نغادره.
ولو أني أبغض المقارنات المفتعلة، بين أن يكون الوطن فندقاً أو بيتاً، إلا أنه إذا أجبر المرء على التسكع في الأرصفة، إذا عزّت عليه اللقمة الكريمة وفرصة العمل، فإن كون الوطن فندقاً هو أبلغ ما يصله الوطن من مبالاة ذات قيمة بمصير أبنائه.

الوطن، عند كثيرين من أبناء جيلي، الأب الصارم الذي ينتظر أن يُقدم أيٌ من أولاده على هفوة ليطرده من البيت
أجزم أن تفكيري بالهجرة هو الحلم الذي لا يفارقني، وبالرغم من أني عاطفي للحد الذي يجعلني أجبن أمام القرار الكبير، كما يقول قباني، فإن التفكير بالهجرة يريحني أحياناً، ولعله يغدو أملاً أعلّق عليه العديد من مشاريعي، حتى ضمن هبة الكتابة، فلطالما شغلت نفسي بموضوع يثير حساسية أو جدلاً لدى المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية، حتى برّرتُ لنفسي بأني سأوجل ذلك حتى أهاجر.

إن ما ينقصني من حرية لا يمكن إشباعه بالجسور أو بالمتنزهات، ما ينقصني من كرامة لا يصحّ أن يتم مقارنته بما تم توفيره من حقوق بديهية. الحاجة إلى وطن أكثر أماناً، أشعر بأني أعيش فيه ضمن عدد هائل من الرفاق، الذي أختلف معهم في الرؤى، لكن روح الفريق الواحد هي التي تجعلنا أخيراً تتعانق حتى عندما لا نصل إلى بوصلة واحدة في خدمة هذا الوطن.
و بالعودة إلى كتابة شيء جدي ضمن المناخ الذي تحدثت عنه، أعترف مجدداً بأنه من الأفضل لي ولسكينتي ألا أزعج وطني. الحياة لا تنتهي عند هذا الحد، وبوسعي تأجيل تنفيذ خططي الإبداعية إلى الغد، أو لما بعد الغد إذا شئتم، ولعل أطرف ما أختم به والأشد شجناً هو تلك الحكاية المأثورة:
"في قديم الزمان، كان ثمة ملك كسول، أبلغ خادمه بعد نهارٍ مرهقٍ بألا يوقظه حتى لو حدثَ أي طارئ في القصر. ذات ليلة، دخل اللص فسرق مفتاح الخزينة الملكية. فكر الخادم بأن يبلغ الملك، لكنه تراجع حين تذكّر وصيته، بعد ساعات عاد اللص وسرق السيف المعلق على أحد جدران القصر. فكر الخادم ثانية ثم تراجع أيضاً.
مرت ساعة ليعود اللص ويسرق مجوهرات ثمينة، ثم وثائق سرية تخصّ المملكة، وهكذا حتى عاد أخيراً ليسرق صورة الملك برفقة زوجته.
هنا انتبه الخادم إلى أن المسألة مسألة شرف، فأيقظ الملك ليخبره بأن اللص سرق صورته برفقة زوجته. سأله الملك: هل سرق شيئاً آخر؟
وحين بدأ الخادم يعدد المسروقات، قاطعه الملك:" بما إنه لم يبق شيئاً يدل على الشرف بالنسبة لك سوى صورتي، فكان من الأفضل أن تدعني أكمل نومي".
ولأعترف لك أيها الوطن أيضا بأن تلك القصة المأثورة كانت من تأليفي، أما بخصوص قديم الزمان، فإني لا أعرف زمانا أقدم من زماننا الذي نعيشه الآن، بالنظر لرقي مفاهيم البشر و بدائيتهم في الدفاع عنها. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image