"سأحميكِ".. هذه الكلمة التي نطق بها الزوج و انتهى بها المشهد الأول. يليها مباشرة مشهد رجوع الزوجة العاشقة وأخيها من حفل تأبين الزوج. تماماً كما يخبرنا الفيلسوف الفرنسي جابرييل مارسيل، "كل وعد هو كذب.. تقوله صادقاً بالفعل لكنك ربما لا تملك اللحظة القادمة لتنفيذه".
جاء فيلم المخرج المصري إسلام العزازي"عنها" وكأنه مباراة ناعمة بين الحياة والموت، هذا الصراع الأزلي، العزازي من خلال لعبة الحب التي تبدأ برقصة تكشف شغف جسدين وتنتهي بها وعنها، وحدها الأنثى تحارب أشباح روحها، روحها التي ما تزال غارقة في الحب.
عُرض الفيلم في قاعات السينما الأسبوع الماضي وكان قد حصد ثلاث جوائز في المهرجان القومي للسينما؛ جائزة التصوير لعبد السلام موسى، وجائزة التصميم الفني لأنسي أبو سيف، وجائزة الإنتاج.
كما تم اختياره رسميا للمسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومهرجان الفيلم الإفريقي في أتلانتا 2021.
سينما المؤلف
ينتمي فيلم العزازي لما يطلق عليه سينما المؤلف حيث يكون مخرج العمل هو مؤلفه. فإما أن يعكس الفيلم الرؤية الذاتية للمخرج فيجيء الفيلم مغزولاً برقة كقطعة الدانتيلا، أو أن يكون جامداً يفتقد مرونة التحاور بين السيناريست والمخرج في أحيان أخرى.
"سأحميكِ".. هذه الكلمة التي نطق بها الزوج و انتهى بها المشهد الأول. يليها مباشرة مشهد رجوع الزوجة العاشقة وأخيها من حفل تأبين الزوج
نجح إسلام العزازي في أن ينسج خيوط المشهد ليقدم عدة أيام فقط من عمر بطلي القصة، لكنها أيام مكثفة كحصيلة شعرية مليئة بالحب ثم التحسر عليه.
حيث تجد بطلة الفيلم نفسها فجأة بدون الزوج العاشق بعد عملية اغتيال تبتر قصة الحب التي تخللها هذا اللعب الطفولي والبراءة القادمة من روحانية البطلة "درية"، والتي قامت بدورها الممثلة الشابة (ندى الشاذلي)، والتي تألقت في توظيف قدراتها الغامضة حسب الدور المكتوب بحرفية نادراً ما نجدها في وجه جديد.
في هذه النوعية من الأفلام، نفتح العيون على اتساعها لنتأمل جمال الكادر المصنوع بحساسية، حيث كل شيء له معنى/ لا مشاهد زائدة ولا ثرثرة تصيب المشاهد بالملل.
بعد مشهد الحب في البداية؛ تعود البطلة مع أخيها إلى شقتها بعد دفن الزوج. يقوم بدور الأخ الممثل (أحمد مالك) حيث يحاول حماية أخته بدلاً من الزوج الغائب. ولو أن الصوت كان واضحاً -مشكلة في قاعة العرض- لتغاضينا عن مخارج الألفاظ عند مالك والتي جعلت الكلمات مبهمة أحياناً.
هذه الشقة التي عادت إليها هي "اللوكيشن" الوحيد وتتنوع المشاهد كلها بين النهار الداخلي والليل الداخلي، وهي صعوبة أخرى تضاف لتحديات الفيلم.
في مرحلة استيعاب صدمة الفقد تتلقى البطلة صدمات أخرى حين يخبرها أخيها قصة النقود، وسبب الاغتيال/ ويلمح لها بعدم نزاهة الزوج، فزوجها المحب هو نفسه الذي يعذب الشباب الوطني في فترة حكم الإنكليز كمن يؤدي مهمة عمل بقلب بارد.
وقبل أن يستوعب عقلها موت الزوج تجد نفسها في محاولة يائسة لاستيعاب أن الرجل الذي أحبته وكام يخاف عليها حتى من أن تكشف مواهبها الغامضة للآخرين؛ أنه أيضاً يؤذي الآخرين بدوره.
الوقت المحدد لخروج الروح
تسأل درية أخيها عن موعد الاغتيال بالتحديد كما قرأه في أوراق التحقيق فيجيب ساخراً وهل هذه معلومة فارقة.
ينتمي فيلم العزازي لما يطلق عليه سينما المؤلف حيث يكون مخرج العمل هو مؤلفه.
إنها بالفعل معلومة لا تعني أحداً. فهو الآن ميت على أية حال، لكن ما لا يدركه الأخ العقلاني أنها تؤرخ لحياتها الجديدة، تضع خطاً فاصلاً بين سعادتها والبكاء عليها.
فكما يحرص العلماء و المؤرخين على وضع كلمتي قبل الميلاد أو بعد الميلاد لكي نفهم سياق الأحداث.. تحرص البطلة المكلومة أيضاً في فهم الأيام القادمة بناء على تلك اللحظة التي ستظل تحبس كل ما يقابلها بين قوسين قبل الموت أو بعده.
فالحياة قبل الساعة الثامنة وثلاثة وعشرين دقيقة ليست هي الحياة بعدها. إنهما تقريباً حياتين لا يرى انقسامهما سواها.
أشياء الميت
بدءاً من الغرق في أشياء الزوج الميت حديثاً، وانتهاء بمحاولة إجهاض قهرية تعادل بها فكرة الموت الغادر، إلى قصدية الموت حين تتخلص مما تبقى منه داخلها، ربما يساعدها قتل الجنين على إيجاد التوازن الذي يبدو مطلباً صعباً.
ترتب البطلة الملابس كما لو أنه لا يزال موجوداً، فتضع ما يحب أن يرتديه في كومة بمفردها. وتعد ربطات العنق وكأنها تمهد بذلك إلى عد السنوات التي ستقضيها بدونه.
تحاول مساعدتها أن تساهم في حل معضلة البقاء على قيد الحياة، وهي التي قامت بدورها ( فدوى عابد) صاحبة الأداء السلس وغير المتكلف، مستغرقة في حالة المراقبة والشفقة والتعاطف الصادق مع تقلبات الحياة.
فتقول لتشجعها على إبقاء الجنين الذي لا يعرف بأمره أي شخص. كأن الروح الجديدة لا تجرؤ عن الكشف عن نفسها في هذا البيت المشحون بذبذبات التوتر: "اتركي من يرحل يرحل كي تسمحي لمن يجيء في المجيء".
لتشير إلى أهمية العودة للحياة و الاحتفاظ بالجنين الذي يبقى سراً في قلب درية ورحمها. لكنها تبذل وسعها في التخلص منه.
ربما لا تريد صورة صغيرة من الزوج تذكرها دائماً بفقده، أو تذكرها بالحب، أو أنها تخطط أن تلحق بكليهما بعد التخلص من طفلها. ليلتقون هناك في عالم يداعبها عن بعد من خلال إشارات تملأ المنزل.
حصد الفيلم ثلاث جوائز في المهرجان القومي للسينما؛ كما تم اختياره رسمياً للمسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومهرجان الفيلم الإفريقي في أتلانتا
مثل الفقاعة الهائمة، هذه الفقاعة الضخمة بألوان الطيف والتي تبدو وهي تتجول في البيت كروح الحبيب الشاردة التي تحاول أن تطمئنها ولا تريد أن تترك المنزل شرط ألا يلمسها أحد.
أما الحمام الذي اطمأن للبقاء في المنزل وانتقل تأثيره من صوت الرفرفة في الممر خارج الشقة في بداية الفيلم إلى الحياة معها فعلياً داخل البيت، فيقف بثقة على قطع الأثاث يراقبها بنظرات ثاقبة ككائنات من عالم آخر.
الكارما
ماذا فعل عباس (صلاح فهمي) في المهمة التي أداها قبل موته بإتقان والتي كان من نتائجها المباشرة هو فقدان حياته نفسها؟.
حين استغل عمله كطبيب في أن يعذب شابين باحتراف. حيث يؤلم الجسد ولا يقتله، يبتعد عن النقاط المميتة ويستهدف مراكز الألم، لن يكون قاتلاً في نظر القانون، سيبقى الشخص المعذَّب متألماً لكنه على قيد الحياة، وسيعد هذا الأسلوب انتصاراً ونجاحاً للمهمة.
وكما ترتد الأعمال المؤذية على صاحبها في حياته كما يبدو في مفهوم الكارما، نجد أن ما فعله قد ارتد ألمه في النهاية على الروح التي يعشقها في الدنيا "درية". فتبدأ رحلة الزوجة من الحزن المباغت وتمر بالألم الشديد النافذ وغير المميت، لتجرب حرفيا خلال الثمانين دقيقة (مدة الفيلم) كل ما يؤلم ولا يميت، فكما يتعاطى كل فرد مع حزنه حسب رصيده من الأفكار والمعتقدات.
"ربطنا على قلبها" وحسب درجة الهشاشة أو الصلابة النفسية فهناك من يصاحب الحزن كصديق حتى يرحل في هدوء. ومنهم من ينزلق إلى المنحدر الأخطر كما في حالة درية حيث فقدت توازنها واسترجاع التوازن سيكون بمثابة استرجاع حياتها.
ماكينة الحياكة والتئام الجرح
جاء شكل الحوار ليتناسب مع معضلة تبدو واضحة على الشاشة.. امرأة تحاول أن تنقذ وحدتها من أن يعكرها صخب وفضول الآخرين وهؤلاء الآخرين نفسهم بدوافعهم الطيبة لا يرون فيها سوى امرأة غريبة مجذوبة في طريقها لتدمير نفسها.
لا تقبل درية أن يدخل صومعتها التي تحولت إلى بيت غرائبي سوى أخيها، حيث أنه عوضاً عن كونه مصدراً للحب فهو مصدر للمعلومات الغائبة أيضاً، فالعالم في الخارج وهي في الداخل، والوسيط الوحيد الذي يبحث ويكشف لها سبب الاغتيال يجب أن يكون أميناً وموثوقاً.
الأخ يذهب ويجيء وتهيؤات الزوج الراحل تحاصرها. حركة ماكينة الحياكة الرتيبة التي تجرب من خلالها أن تلتئم جروحها بخيوط تزعج الصمت. الغرق في البانيو. نقل الأثاث. تقشيير البطاطس والاحتفاء بقشور الخرشوف. تخفيف التوتر بتلميع الفضة بطريقة هيستيرية.
القفز بين أطباق الصيني متحملة أقدام دامية لكنها لا تلغي ألمها النفسي. وكأن محاولات العلاج بجرح طازج هو الحل الأمثل لضمان شفاء الروح.
كلها مظاهر لامرأة اضطربت روحها وتحاول أن تلملم أشلائها بالاستغراق في مهام منزلية ربما يتشتت الألم. تقول البطلة لخادمتها: لو لم تواجه وحدتها الآن ستتحول لمسخ.
ربما تريد أن تبقى بمفردها فقط حتى تنعم بعودة روح زوجها إليها، فكما يحدث في كل الأفلام القديمة لن تظهر الروح إلا للحبيب، لذلك تريد أن يخلو المنزل من بشر غيرها، من كل ما يخيف روح هائمة تريد أن تأتي وتستقر.
نشعر في النهاية أن في الفيلم مجموعة ألغاز بحاجة إلى فك شفرتها. مثل البخار الذي تصاعد من كوب الماء البارد بمجرد أن نظرت إليه. كان المخرج حريصاً أن يلمح فقط إلى قواها الخارقة دون أن يقدم لنا تفسيراً.
ثم نتذكر أن الحياة نفسها ذلك الفيلم الطويل، هي أيضاً لغز لا نجرؤ على تفكيكه بل أن جمالها الفريد يأتي من رشف متعتها كما هي أولاً، ثم بعد ذلك نستطيع أن نتحدث "عنها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاتلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو