في الأشهر الأربعة الأولى من الحرب، انفصلتُ جسديّاً عن زوجي بشكل تامّ. فقد أقمتُ مع أبنائي الثلاثة برفقة خمس نساء وأولادهنّ في غرفة صفيّة واحدة في مدرسة الإيواء في دير البلح، التي نزحنا إليها قبل سبعة شهور"، تقول وداد (اسم مستعار).
اختلف روتين حياة وداد رأساً على عقب. ولعلّ هذ الانقلاب مرئيّ للمشاهد، حتّى خارج غزّة، والمتجسّد بحياة النزوح خارج البيت. "الحرب أفقدتنا الأساسيّات المعيشيّة كالمأكل والمشرب والكهرباء والماء. لكن ربّما لا يتحدّث أحد عن التغيير الذي يحصل في أفكارنا وسلوكيّاتنا، وحتّى في علاقاتنا الجسديّة والجنسيّة مع أزواجنا"، تضيف وداد في حديثها عن حياة النزوح المكتظّة التي قتلت فُسح الخصوصيّة.
"تمنع إدارة المدرسة اختلاط الرّجال مع زوجاتهم في فصل واحد. ومن تريد التواصل مع زوجها، تذهب معه إلى ساحة المدرسة أو تتواصل معه هاتفيّاً"، تؤكّد وداد لرصيف22.
ومن يعيش في قطاع غزة، يدرك أنّ مسألة العلاقات الجنسيّة، حتّى بين المتزوّجين، تغلب عليها السريّة المطلقة. إلا أنّ هذه السريّة تمرّ في تحوّل ما جرّاء ظروف الحرب الطويلة.
كما أنّ حياة النزوح والاكتظاظ الكبير بين العائلات النازحة في جنوب، لا سيما بعد انتشار فكرة الزواج في الخيام ومدارس الإيواء، واضطرار الأزواج إلى الانفصال عن بعضهم عن بعض، دفع فئةً من الناس إلى البحث عن طرق للتقارب والجماع.
وفي هذه الطرق، يجد البعض متنفّساً، في ظلّ غياب فسح ومساحات التفريغ النفسيّ البسيطة، كالخروج صوب البحر أو زيارة الأقارب أو المشي بصورة طبيعيّة في الشّارع أو المشاركة في مناسبات اجتماعيّة "سعيدة".
جنس على أصوات القصف
"بعد مرور فترة طويلة من ابتعادي عن زوجي، شعرنا بالامتعاض، فالبعد الجسديّ حرمنا حتّى من الجلسات العاديّة والكلام. نسترق الحديث لدقائق معدودة ليلاً، ثمّ نصعد إلى غرفة الصّف كي ننام"، تقول وداد. مضيفةً: "شعرنا كأننا مهجوران عاطفيّاً وجسديّاً. وربّما أحدث هذا الهجران صدامات وتوتّر بيننا، كلّما تحادثنا أو التقينا".شاركت وداد تجربتها مع نساء أخريات في الغرفة، لتدرك أنّ تجاربهنّ تتشابه كثيراً.
اتفقت وداد مع النساء اللاتي تشاركهنّ في الغرفة، على أن تحصل كلّ واحدة منهنّ على ليلة تقضيها مع زوجها بالتناوب، لمدة ساعتين. ينزل الجميع إلى ساحة المدرسة، فتتاح الفرصة أمام الزوجين للجلوس والتقارب وممارسة العلاقة الجنسيّة.
اتفقت وداد مع النساء اللاتي تشاركهنّ في الغرفة، على أن تحصل كلّ واحدة منهنّ على ليلة تقضيها مع زوجها بالتناوب
بدا الأمر بالنسبة لوداد في البداية مثاراً للإزعاج، فتقبّلته بصعوبة. "كنت أعيش في منزلي بخصوصيّة تامّة. وكان من العيب بالنسبة إليّ أن يعرف أحد متى أقيم علاقة حميمة مع زوجي"، تقول مؤكّدة.
وتتابع: "ألتقي بزوجي يوماً أو يومين في الأسبوع، بحسب الاتفاق مع النازحات. نعيش أنا وزوجي خلالها فرصة للتصالح في علاقتنا وللتقارب ولعيش التجربة الجنسيّة. تبدو لي حاجة للتفريغ النفسيّ أكثر من كونها نابعة من رغبة جنسيّة".
تسترجع وداد ليلةً مارست فيها الجنس مع زوجها، حين فجأة علت أصوات القصف والقذائف بجانب المدرسة. "الغريب أنّ التوتّر الذي اجتاحنا لحظتها لم يوقفنا. أتساءل إن كنا اعتدنا الحرب لهذه الدرجة".
زواج في خيمة
أمّا النازحة مريم عبود (اسم مستعار، 26 عاماً)، فتوضّح أنّ هدفها الرئيس من العلاقة الجنسيّة مع زوجها، على الرّغم من ظروف النزوح القاسية، هو الإنجاب.تقيم مريم مع زوجها في خيمة صغيرة. تقول: "كل مرة أمارس الجنس مع زوجي أشعر أن الجميع يعلمون لأن الخيام متلاصقة. ومن جانب آخر هذا واقع مُعاش لا يمكننا إنكاره ولسنا مسؤولين عنه". علماً أن الخيمة مصنوعة من القماش البالي الذي اهترأ بعد قضاء فترة طويلة من حياة النزوح في قيظ الصيف وبرد الشتاء.
من الشجاعيّة شرق غزة، نزحت مريم مع عائلتها نحو الجنوب في الشهر الثالث للحرب، لتستقر في أحد مخيمات النازحين غرب مدينة رفح.
كل مرة أمارس الجنس مع زوجي أشعر أن الجميع يعلمون لأن الخيام متلاصقة. ومن جانب آخر هذا واقع مُعاش لا يمكننا إنكاره ولسنا مسؤولين عنه"لم تكن أحلامي أن أعيش فور زواجي في خيمة. لطالما خططت أنا وزوجي لشراء أثاث المنزل واختيار غرفة النوم البيضاء بعناية. فالأبيض لوني المفضّل"، تقول لرصيف22.
وتردف: "عندما عرض عليّ زوجي أن نتزوّج في الخيمة رفضت بشكل قاطع، لأني أدرك تماماً ماذا تعني الحياة في الخيمة وانعدام الخصوصية. لكني اضطررت لقبول العرض بعد فترة، في ظل انعدام الخيارات المتاحة".
ترى مريم أن زواجها في خيمة واختبار التجربة الجنسيّة في ظروف غير طبيعيّة، ليس بالأمر الهيّن. فتصف فكرة إقامة علاقة جنسية داخل الخيمة ووسط اكتظاظ النازحين، بالمرعبة. "لكني وجدته وقد أصبح أمراً فرضته الحرب فبات طبيعيّاً. نحن بشر نحتاج إلى علاقات حميمة تهوّن علينا مشاق الأيام المريرة. كما نحتاج إلى الإنجاب، نتمنّى أنا وزوجي أن نرزق طفلاً".
وتختم: "كل مرة أمارس الجنس مع زوجي أشعر أن الجميع يعلمون لأن الخيام متلاصقة".
لماذا كل هذا الجدل؟
أحدثت حلقة بودكاست ضمن برنامج "تقارب" لصانع المحتوى أحمد بيقاوي، حين أجرى فيها حواراً مع إسراء صالح المتخصّصة في الصّحة الجنسيّة والإنجابيّة، جدلاً واسعاً، بعد أن أكدّت المتحدّثة وجود خيام معدّة للعلاقات الحميمية في مخيمات النازحين ومدارس الإيواء، بهدف المتعة أو الإنجاب. وأضحت أنّ "النازحين يتحدثون بشكل صريح عن اختبارهم للتجارب الجنسيّة في سياقها الجديد. وهذا أمر يعدّ غريباً على المجتمع الفلسطينيّ، الذي ربّما تغيّرت توجّهات تفكيره بسبب الحرب فاضطّر إلى اختبار هذه التجارب مرغماً".من الناس من اعتبر الحديث عن الجنس في العلن خدشٌ للحياء العام، وخارج عن حدود العادات والتقاليد المجتمعية الغزيّة، والبعض اعتبر الحديث في الصحّة الإنجابيّة والجنسيّة، ليس أمراً طبيعيّاً وحسب، بل هو مفيد ومهمّ، ولا سيّما في أوقات الحرب، التي تعاني فيها النساء من انتهاك صارخ لخصوصيتهن.
برفقة أشقائه الثلاثة وزوجاتهم وأطفالهم، يعيش محمد وزوجته روان (اسمان مستعاران) حياتهما اليومية والروتينية في خيمتين حصل عليهما الأشقاء الأربعة من خلال المساعدات الإغاثية، بعد أن نزحوا قسراً من مدينة بيت حانون شمال القطاع إلى مواصي خانيونس في الجنوب.
من المعروف أنّ المجتمع الغزيّ هو مجتمع محافظ، وليس من السهل عليه تقبل أو ممارسة علاقاته الحميمية في الأماكن المكتظة بالنازحين. لكن البعض أجبروا على ذلكيعيش الأشقاء داخل مخيم النزوح، النساء والأطفال في خيمة والأشقاء الأربعة في خيمة. "في كل مرة يرغب زوج منا بممارسة الجنس، نتفق على إعطائهما مساحتهما الخاصّة لمدّة ساعة"، يشرح محمد (39 عاماً) لرصيف22.
ويتابع: "الحياة ليست المأكل والمشرب فقط. تعبنا من هموم النزوح ونحتاج لأن ننفرد بزوجاتنا حتى لو كان ذلك لمدة ساعة من الزّمن. لا أقول إنّ الفكرة لا تشكّل عبئاً علينا، لكن هذا ما فرضته الحرب".
هل يكثر الجنس وتكثر الولادات في الحروب؟
تشير الاختصاصيّة النفسيّة مادلين نصّار في حديثها لرصيف22 إلى أنّ "البشر يشعرون، في أوقات الحروب والنزاعات، بالقلق والتوتّر. فتُفرز في أجسادهم هرمونات أبرزها الأدرينالين. ويلجأون لمواجهة الضغوط التي يتعرّضون إليها بعدّة أساليب، كالرياضة والتدخين وتناول العقاقير المهدّئة، أو الإكثار من الأكل والمنبّهات كالقهوة، أو ممارسة الجنس، التي تحمل تأثيراً نفسيّاً عالياً في تهدئة التوتّرات لكلا الجنسين".
وتضيف "من المعروف أنّ المجتمع الغزيّ هو مجتمع محافظ، وليس من السهل عليه تقبل أو ممارسة علاقاته الحميمية في الأماكن المكتظة بالنازحين. لكن البعض أجبروا على ذلك لغرض الإنجاب، أو لخلق لحظة تقارب بين الأزواج".
وتختم الأخصائية النفسية: "نلاحظ زيادة في أعداد المواليد رغم ظروف الحرب، وهذا ما يشير إلى وجود علاقات جنسيّة متاحة وما يسمى علميّاً بطفرة المواليد (baby boom) في الحروب وأماكن النزاع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...