شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أنظف غبار البيت كأني أزيل ركام بيوت الغزيّات

أنظف غبار البيت كأني أزيل ركام بيوت الغزيّات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء نحن والحقيقة

الجمعة 25 أكتوبر 202401:33 م

انشغلت مع بداية حرب الإبادة على غزة بأسئلة عن الأمومة والحرب، فكتبت عنها. كان حينها خوفي وليد اللحظة، وقلقي منصبّاً بأكمله على سلامة ابنتيّ.

لكن بعد سنة كاملة من الإجابات القاسية والمشاهدات المروّعة ورؤية الخراب وهو يتلمّس طريقه إلى الكل الفلسطيني، كبر الخوف كثيراً وصرت أعرّف نفسي من جديد، محاولةً التعرّف إليها من خلال ما يولدّه هذا الخوف من أفكار وأفعال قهريّة.

وأخيراً أيقنت أننا نكتب وننشر لأنفسنا، ولمن تتشابه معاناتهم مع معاناتنا، فالعالم الظالم أثبت أنه يرى ويسمع ويقرأ لكن لا يكترث أبداً.

ثمة أفعال أقوم بها بشكل روتيني يومياً، أنجزها بالقدر القليل من التفكير والانتباه. إنها من شدة عاديّتها وتكرارها تصبح مثل عملية التنفّس؛ لا إرادية لكنها تعني أنك حي.

أما التنظيف فقد كان يعني بالنسبة لي أني قادرة على الهرب من الأفكار التي تتزاحم في رأسي، وهذا ما خسرته في السنة الأخيرة.

صرت أنظّف وأنا خائفة، أرجو كل زاوية في البيت ألا تتركني، أرجو سقف البيت ألا يقع فوق رأسي، أقدم وعوداً لجمادات لا تحسّ وأطلب منها أن تعدني بالأمان

بعد فترة على بدء الحرب، أدركت أن دماغي يختار الأفعال البسيطة بالنسبة إليه، ويدفعني للقيام بها، لأنه مستهلك ومتعب من معالجة المشاهد والمعلومات التي يتعرّض إليها كل يوم. وقد اختار لي دماغي أول الحرب التنظيف كوسيلة جيدة ومجرّبة للهروب إلى الأمام. فبعد أن كنت أنجز أعمال المنزل خلال ساعة واحدة، صار التنظيف يستهلك يومي بالكامل، بل تجاوز ذلك فأصبحت أفكر فيما سأنظفه يوم غد.

ثمة غبار فوق خزائن المطبخ عليّ تنظيفه، وفي غرفة الأطفال هناك ألعاب بحاجة إلى ترتيب جيد لتعطي منظراً أفضل للغرفة. كما أن سقف الحمام مغبرّ ويحتاج إلى دلق الماء عليه بشكل مباشر. لم يعد بإمكاني تأجيل مشكلة الرطوبة في حائط المكتب، وعليّ الاستفادة من الخشب الزائد لصنع أرفف جديدة للمكتبة.

تتقافز هذه الأفكار في رأسي بعد مشاهدة مدينة كاملة تحترق، بناسها وذكرياتهم وأشيائهم الثمينة وبيوتهم. البيت؛ حيث لا أحد بوسعه أن يملي عليك شيئاً، البيت حيث الحرية والأمان والطمأنينة.

لقد تحوّلت مهمة التنظيف إلى هاجس دائم بعدما شاهدت منشوراً لصديقتي وضعت فيه صورة من منزلها قبل الحرب، ومعها صورة أخرى رمادية فيها ركام وغبار وبشاعة لم تحتملها عينيّ.

تأملت الصورة الأولى كثيراً، أحببت شكل الأريكة بلونها الأخضر الفاتح والطاولة البيضاوية وهي تحمل فنجان قهوة أبيض وأزرق من مجموعة روميو وجوليت القديمة، وخلفهما يظهر البحر وقت الغروب.

بيت جميل للغاية، لون الأريكة والستارة صنعا لحظة جمالية مشبعة، بينما اختيرت كل تفصيلة في قطع الديكور بعناية من ذهن رائق ومخيلة خاصّة. إنه مشهد ملهم بالنسبة لي كي أغيّر ديكور منزلي.

الخوف من الفقد صار جزءاً من التكوين الأصيل للشخصية الفلسطينية مهما بدت قوية وقادرة على المضي إلى الأمام

لكن الصورة ذاتها ترافقت مع أخرى تجسد دماراً شاملاً للبيت لم يقو قلبي على تحمله.

صرت أنظّف وأنا خائفة، أرجو كل زاوية في البيت ألا تتركني، أرجو سقف البيت ألا يقع فوق رأسي، أقدم وعوداً لجمادات لا تحسّ وأطلب منها أن تعدني بالأمان، أرشو البيت بالبحث عن طرق لتجديد ديكوره، وأهتم بإكسسواراته وألوانه أكثر من قبل.

صرت أتفحّص كل قطعة أثاث بشكل دقيق ولوقت طويل، وأسهر كل ليلة في غرفة. أريد أن أطبع رائحتي وأحاسيسي وذكرياتي وأحلامي في البيت كله. صرت أحب البيت أكثر، لكنه حب مضطرب ينبع من الخوف لا من الأمان، ويتبع باهتمام مفرط يسبق احتمال الفقد.

أخاف أن أفقد منزلي، هكذا ببساطة ومن دون محاولة لتحسين الفكرة وجعلها شاملة للمعاناة الفلسطينية. إنني قابعة في هذا الخوف منذ سنة، ذلك أني أحس بأن البيوت لم تأخذ حقها الوافي منا في الحزن عليها، وأننا واسينا الغزي الذي فقد بيته بتذكيره بنجاته الشخصية. أي فكرة مجنونة هذه؟

أعرف أن أبناء غزة يفهمون خوفي أكثر من أي أحد آخر في العالم، لقد جربوا الفقد على كل الأصعدة، ولديهم القدرة على تفهّم الحزن الذي يتجذّر في الصدر جراء فقدان البيت. ولا شك أنهم يستوعبون خوفي من احتمال أن أجرب هذه الخسارة.

إن كل المرات التي مسحت فيها الغبار كانت محاولة لتنظيف الركام الذي تكدّس في ذاكرتي ومخيلتي وأحلامي البسيطة. وكل مرة دلقت فيها الماء كانت مواساة للنساء اللواتي كنّ يفتتحن نهارهن بشطف بيوتهن. وكل مرة رتبت فيها السرير كانت مناجاة لمن فقدوا أسرّتهم النظيفة ووسائدهم الطريّة وأغطيتها الناعمة. إن كل ما أقوم به منذ عام هو محاولات بائسة لتنظيف روحي التي امتلأت بالخسارات والغضب والاشمئزاز والخذلان.

اختار القدر أن يكون بيتي في فلسطين، وأن يشكل هذا البيت ثنائية الأمان والذعر في آن. وأن أعيش حياتي كلاعبة تحاول أن تحترف العيش مع هذا التناقض.

 إن كل ما أقوم به منذ عام هو محاولات بائسة لتنظيف روحي التي امتلأت بالخسارات والغضب والاشمئزاز والخذلان

إن الحياة بالنسبة لي ليست أن يسلم جسدي وأجساد من أحب من قصف أو قنص أو تفجير، بل أن ننجو والبيت معاً، أن تنجو كل بلاطة فيه، وأن تسلم كل خشبة من عاصفة غبار كالتي تتبع انخماد النار، وأن تظل مشاكله بسيطة وأليفة كرطوبة حائط ما واعوجاج لوحة معلّقة في الغرفة، و أن تبقى رائحته مزيجاً من الطبخ والعطر والمنظفات، وأن تظل العودة بالنسبة لي هي أن أعود إليه وأرتمي في حضنه اللذيذ، وأن تعود النظافة بالنسبة لي إلى سابق عهدها؛ فعل بسيط ومريح لا يحتاج لأكثر من ساعة واحدة في اليوم، أقوم به وأنا أستمع للموسيقى وأدندن .

من بيتي، وتحديداً من غرفة مكتبي الصغيرة المطلة على جبل جميل في فلسطين، أكتب حقائق مرّة أرغب في أن أقولها للعالم بعد سنة من عمر إبادتنا الجماعية: إن من نجا منا بروحه لم تنج ذاكرته مما شاهد وعايش وسمع، ولو أمضى بقية حياته في أجمل بقاع الأرض وأكثرها سلاماً، وإن الخوف من الفقد صار جزءاً من التكوين الأصيل للشخصية الفلسطينية مهما بدت قوية وقادرة على المضي إلى الأمام، وإن الحزن مفردة تافهة أمام ما اختبره الغزّي، وإن الإنسانية تحتاج لابتكار مفردة تناسب المأساة التي حدثت وتحدث، وإن الفلسطيني لا يرى في نومه غير الكوابيس، وإن كلمة "كيفك" بدأت بالتلاشي من أحاديثنا، وإن المسافة صفر بالنسبة لنا هي بيننا وبين الموت ليس إلا، وإن أولادنا ليسوا لنا لكن الحياة تساومنا على قبولهم، وإن من يشاهدنا من الخارج وإن كان يحبنا ما زال أنانياً ويرغب في أن يملي علينا أفكاره الخرائية، وإن العالم خارج فلسطين سيظل حزيناً إلى الأبد لأنه رفض أن يحزن حقيقة لأجلنا ولو لمرة واحدة، وإن الأمل لا يتجاوز كونه خيمة منصوبة على ماء؛ لا هي حقيقة ولا هي خيال، إنها فلسطين.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image