يعيش لبنان أزمات متكررةً، اقتصادياً وسياسياً، آخرها العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي أجبر عدداً كبيراً من اللبنانيين/ ات على ترك بيوتهم/ نّ، والنزوح إلى مناطق أكثر أماناً، مع ما يصاحب ذلك من مشقّات اجتماعية وصحية، لا سيما بالنسبة لبعض "الأمهات الجديدات" اللواتي أُرغمن على مغادرة منازلهنّ، والتوجه إلى مراكز الإيواء التي تفتقر إلى المساحات الآمنة للإرضاع.
تُعدّ الرضاعة الطبيعية من أبرز الأمور التي تضمن صحة الأطفال ونموّهم السليم، غير أن العديد من النازحات يواجهن اليوم تحديات كبيرةً لجهة توفير الغذاء والرعاية لأطفالهنّ، ناهيك عن الضغوط النفسية والجسدية التي تثقل كاهلهنّ وتؤثر على قدرتهنّ على الرضاعة الطبيعية.
كيف تؤثر الحروب والأزمات على موضوع الرضاعة الطبيعية وصحة الأمهات والأطفال؟ وما هي الجهود المبذولة لدعم الرضاعة في ظل هذه الظروف القاسية والاستثنائية التي تشهدها البلاد؟
انخفاض معدل الرضاعة الطبيعية
في العام 2022، شارك قطاع التغذية في لبنان، في مسح قامت به وزارة الصحة، وشمل 3،550 طفلاً و9،200 امرأة في سنّ الإنجاب، وأظهر أن هناك نحو 200 ألف طفل دون سنّ الخامسة يعانون من أحد أشكال سوء التغذية، مثل فقر الدم ونقص النمو ومرض الهزال.
وأظهرت نتائج المسح أنّ 9 من كلّ 10 أطفال، تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و23 شهراً، لا يتلقّون الحدّ الأدنى من الأنظمة الغذائيّة المقبولة اللازمة لصحتهم ونموّهم وتطوّرهم، كما أن هناك نحو 7% من أطفال لبنان يعانون من ضعف النموّ الشديد، و1.8% من عموم الأطفال يعانون من سوء التغذية الحادّ، في حين يعاني 41% من الأطفال من فقر الدم.
في المقابل، تبيّن أن 70% من أطفال لبنان لا يحصلون على الرضاعة الطبيعية الحصرية.
تُعدّ الرضاعة الطبيعية من أبرز الأمور التي تضمن صحة الأطفال ونموّهم السليم، غير أن العديد من النازحات يواجهن اليوم تحديات كبيرةً لجهة توفير الغذاء والرعاية لأطفالهنّ، ناهيك عن الضغوط النفسية والجسدية التي تثقل كاهلهنّ وتؤثر على قدرتهنّ على الرضاعة الطبيعية
بحسب منظمة الصحة العالمية (WHO)، تُعدّ الرضاعة الطبيعية الكاملة خلال الأشهر الستة الأولى من عمر الطفل، من أهم العوامل التي تحمي الطفل من الأمراض الشائعة وتعزز مناعته.
في هذا السياق، تشدد القابلة القانونية حوراء حيدر أحمد، على أهمية الرضاعة الطبيعية خلال الأشهر الستة الأولى، وذلك بسبب فوائد هذا الحليب: "حليب الأم مهم جداً على الأصعدة كافة، خاصةً أنه يتضمن فيتامنيات وبروتينات كثيرةً تفيد الطفل في نموه وتحميه من الأمراض، كما أنه من الناحية الاقتصادية يوفر على الأم تكاليف كثيرةً، خاصةً في ظل الوضع الاقتصادي الصعب".
وعليه، فإن تعزيز برامج التوعية وتوفير الدعم اللازم للأمهات في لبنان يجب أن يكونا على رأس الأولويات.
غير أن الحرب الدائرة في لبنان بسبب العدوان الإسرائيلي، تخلق بيئةً غير آمنة في مراكز الإيواء حيث تغيب جميع أشكال الخصوصية، ومعها نقص وجود بيئة مريحة للرضاعة، كما تنقطع في بعض الأحيان الإمدادات الغذائية والمساعدات طبية، ما يؤثر على قدرة الأمهات على تغذية أطفالهنّ بشكل صحيح.
بحسب دراسة أجرتها الجامعة الأمريكية في بيروت، فقد تبيّن أن معدلات الرضاعة الطبيعية في لبنان انخفضت بشكل ملحوظ خلال فترات النزاع، حيث تراجعت نسبة الأمهات اللواتي يلجأن إلى الرضاعة الطبيعية بشكل كامل إلى أقلّ من 40%.
بمعنى آخر، إن الرضاعة الطبيعية أمر صعب للغاية في أثناء الحروب، خاصةً بالنسبة للنازحات وذلك لاعتبارات عدة، من بينها: عدم حصول الأم على الطعام المناسب لتغذيتها وتغذية طفلها، والخوف والقلق اللذان تعيشهما الأم في مراكز الإيواء، وعدم الاستقرار لاضطرار الأمهات النازحات في بعض الأحيان إلى التنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن الأمان لهنّ ولعائلتهنّ وأطفالهنّ.
التأثير النفسي والجسدي
تُعدّ الضغوط النفسية أحد أكبر التحديات التي تواجه الأمهات خلال الحروب، فالإجهاد المستمر والخوف والقلق من أصوات القذائف أو فقدان العائلة أو المنزل، كلها أمور من شأنها أن تؤثر على الصحة النفسية للجميع، خاصةً الأمهات الجديدات اللواتي قد يعانين من الاكتئاب والقلق، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على قدرتهنّ على إرضاع أطفالهنّ، حيث يشعرن بالإرهاق وعدم القدرة على العناية بأطفالهنّ بشكل كافٍ، كما أن القلق يمكن أن يؤثر على مدى تدفق حليب الأم، وهذا هو حال سميرة، التي فضلت عدم الكشف عن اسمها بالكامل، مشيرةً إلى أن الرضاعة صعبة جداً في ظل غياب الخصوصية في المدرسة التي نزحت إليها: "الناس عايشة فوق بعضها، كيف بدّي لاقي مكان آمن لحتى رضّع طفلي؟".
"حليب الأم مهم جداً على الأصعدة كافة، خاصةً أنه يتضمن فيتامنيات وبروتينات كثيرةً تفيد الطفل في نموه وتحميه من الأمراض، كما أنه من الناحية الاقتصادية يوفر على الأم تكاليف كثيرةً، خاصةً في ظل الوضع الاقتصادي الصعب"
وتضيف لرصيف22: "نفسيتنا بالأرض والجمعيات عم تساعد قد ما بتقدر، بس مش هيّنة أبداً يكون في طفل عإيدك وإنت نازح ووضعك النفسي صعب".
بالإضافة إلى التأثير النفسي، فإن الأزمة لها تأثير كبير على الصحة الجسدية للأمهات، إذ إن الحرب على لبنان ولّدت نقصاً في التغذية، ما انعكس سلباً على صحة الأمهات وأطفالهنّ.
كما هو معلوم، فإن الأمهات المرضعات بحاجة إلى غذاء متوازن، وعندما تفتقر الأم إلى العناصر الغذائية الأساسية، يتأثر إنتاج حليبها بشكل ملحوظ.
في هذا السياق، تواجه العديد من الأمهات في لبنان نقصاً في المغذيات الأساسية، مثل الحديد والكالسيوم، وهذا النقص يؤثر على قدرتهنّ على إنتاج الحليب الكافي، ما يزيد من مخاطر سوء التغذية لدى الأطفال ومواجهة مشكلات في النمو والمناعة.
في حديثه إلى رصيف22، يوضح الطبيب في دائرة الأمراض النسائيّة والتوليد في المركز الطبيّ في الجامعة الأمريكية في بيروت وعضو مجموعة خبراء السياسات الخارجية في منظمة الصحة العالمية، فيصل القاق، أن هناك نحو 11،600 امرأة حامل من مجموع النازحات اللواتي يتوزعن على مراكز الإيواء والمنازل: "في مراكز الإيواء، هناك معاناة مختلفة لجهة عدم الخصوصية والضغط النفسي وعدم القدرة على الحصول على التغذية المطلوبة، ولكن هناك مقومات مقبولةً لمراعاة الحمل من قبل منسّقي المراكز".
ويضيف الدكتور فيصل: "المرأة الحامل بحاجة إلى رعاية خاصة في الأيام العادية، فكيف في ظل هذه الظروف الصعبة؟".
ويوضح القاق، أن هناك جانباً إيجابياً "يكمن في الاحتضان والالتفاف من قبل الناس الموجودين في مراكز الإيواء، والذين يشكلون حالة دعم نفسي واجتماعي، وهناك فرق صحية وطبية تقوم بزيارات دورية لكل حامل، بهدف فحص الضغط، ونبض الجنين، والتقييم النفسي، كما أن هناك عيادات ومستوصفات مجانيةً، ففي الجامعة الأمريكية، هناك مستوصف فتح أبوابه بشكل مجاني يوم السبت من الساعة 8 صباحاً حتى الـ1 ظهراً لاستقبال حالات الحمل وعموم حالات الأمراض النسائية".
ويختم حديثه بقوله إن التوتر والقلق وغياب التغذية ووجود مشكلات طبية، كلها عوامل تؤثر على صحة الطفل وليس على صحة الأم فحسب.
الجهود المبذولة لدعم الرضاعة الطبيعية
تتأثر ممارسات الرضاعة الطبيعية بعوامل عدة تتصل بالأم والرضيع، كما بالبيئة التي يتواجدان فيها. وتؤثر العوامل الاجتماعية على تقبّل الرضاعة الطبيعية والتوقعات بشأنها بالإضافة إلى توفير السياق العام الذي تتم فيه الرضاعة.
في ظل الظروف القاهرة والصعبة التي تعيشها الأمهات النازحات، هناك جهود تبذلها العديد من المنظمات سواء المحلية أو الدولية، لدعم الأمهات والأطفال، على غرار "اليونيسف" و"أطباء بلا حدود" وغيرهما من المنظمات التي تهتم بتوفير الدعم النفسي والطبي للأمهات، إلى جانب توزيع الغذاء والمستلزمات الأساسية.
تسعى هذه المنظمات إلى توفير المعلومات اللازمة حول الصحة الإنجابية، وتنظيم الدورات التدريبية للأمهات، وذلك بهدف التركيز على فوائد الرضاعة الطبيعية وكيفية التغلب على التحديات التي تواجه الأمهات في أثناء الحروب، كما تقدّم هذه المنظمات الدعم النفسي بهدف مساعدة الأم على التعامل مع الضغوط النفسية.
"هون الناس عايشة فوق بعضها، كيف بدّي لاقي مكان آمن لحتى رضّع طفلي؟"
في السياق نفسه، يلعب المجتمع المحلي دوراً أساسياً في دعم الأمهات، وذلك عبر إنشاء مجموعات دعم بهدف تقليل العزلة التي قد تشعر بها بعض الأمهات وتبادل الخبرات والدعم، ما يعزز من قدرة هؤلاء النساء على مواجهة التحديات.
بمعنى آخر، تنشط المبادرات المحلية في دعم الأمهات، حيث تعمل على نشر الوعي بأهمية الرضاعة الطبيعية وتقديم الدعم اللازم. كما أن الإعلام يمكن أن يكون له دور كبير في نشر المعلومات الصحيحة والتوعية بالفوائد الصحية والنفسية للرضاعة الطبيعية.
صحيح أن الرضاعة الطبيعية في أوقات الحرب هي "مهمة شاقة"، ولكنها ضرورة حيوية لضمان صحة الأمهات وأطفالهنّ، خاصةً أنها تقوّي مناعة الطفل، إذ إن الأطفال الذين يرضعون بشكل طبيعي، هم أقل عرضةً للكثير من الأمراض بسبب حليب الأم الغنيّ بالبروتينات والأجسام المضادة. فقد أظهر استعراض لثماني عشرة دراسةً أجريت في الدول النامية، أن الأطفال الذين لا يتغذون على حليب الأم أي أنهم يتناولون المنتجات البديلة لحليب الأم، أو الحليب من مصدر حيواني، هم 14.4 مرات أكثر عرضةً لخطر الوفاة، ما يؤكد على أن حليب الأم هو المصدر الأفضل لتغذية الرضيع ونموه.
باختصار، على الرغم من الظروف القاسية التي تواجهها الأمهات في لبنان، فإن الجهود المبذولة تساعد في تخفيف بعض الضغوط، وتمكّن الأمهات من الاستمرار في تقديم الرعاية اللازمة لأطفالهنّ. لا شك في أن الأزمات التي يمر بها لبنان قاسية جداً، لكن من خلال الدعم يمكن للأمهات التغلب على هذه الصعوبات والاستمرار في تقديم أفضل رعاية ممكنة لأطفالهنّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم