أثارت الناشطة المصرية ورئيسة المركز المصري لحقوق المرأة، نهاد أبو القمصان، جدلاً على مواقع التواصل الاجتماعي بحديثها حول حق المرأة في اختيار الرضاعة الطبيعية من عدمها.
فتح هذا النقاش الحديث حول بعض حقوق المرأة في التحكّم بجسدها، والذي، طبقاً للثقافة السائدة، ليس ملكها منذ الولادة، فهو في البداية يخصّ والدها، "الحارس الأمين على شرفه"، ثم الزوج الذي يستخدمه سواء لأغراضه الجنسية أو الإنجاب، ويعتبر البعض أن الرضاعة جزء أصيل من "مهام" أي أم يجب أن تقوم به سعيدة وراضية، في حين أن مخالفة هذا العرف قد يرتب أنواعاً مختلفة من العقاب.
كرب ما بعد الولادة والرضاعة
ما إن تبدأ المرأة رحلة حملها حتى تتلقى عشرات النصائح حول كيفية العناية بصحّتها، لأنها مصدر الحياة والتغذية لجنينها، وهو ما أطلقت عليه المعالجة النفسية فيليبا بيري "السحر الودي"، في كتابها The Book You Wish Your Parents Had Read.
بحسب بيري، تزرع هذه النصائح في الأم الانطباع بوجود حمل مثالي، ما يقود إلى الاعتقاد بوجود أم مثالية، تعمل على تنشئة طفل مثالي لا تشوبه شائبة، الأمر الذي يؤثر سلباً على تجربة الأمومة بالكامل والعلاقة مع الأطفال، مشيرة إلى أنه من شأن هذا السحر الودي أن يبعث على الطمأنينة عندما نؤمن به وينتبانا الذعر عندما نرفضه.
وبعد الولادة مباشرة، لعلّ أول النصائح التي تحصل عليها المرأة هي أهمية إرضاع الطفل. تخيلوا/ن امرأة قامت بالدفع أثناء عملية الولادة لعدة ساعات، وأُصيبت بشقّ في العجان، أو تم فتح بطنها لعدة سنتيمترات في الولادة القيصرية، وفي الوقت نفسه يُضغط عليها لإرضاع صغيرها وإلا توصم أنها أم سيئة، من دون الاهتمام بالألم الجسدي الذي تعانيه، وكذلك بالجروح النفسية.
ما لا يعرفه الكثيرون في وطننا العربي، القاسي غالباً على النساء، أن هناك ما يسمى "كرب ما بعد صدمة الولادة" (postnatal PTSD) والذي يحدث لأسباب عدة، منها المخاضات الصعبة والولادات الطويلة والمؤلمة والعمليات القيصرية غير المخطط لها. يتطلّب هذا الكرب علاجاً خاصاً بالتأكيد، وليس الإجبار على عملية أخرى مؤلمة مباشرة مثل الرضاعة الطبيعية، وهي من أشق التجارب الجسدية، بخاصة في المرات الأولى، وقد يستمر هذا الألم لشهور في حال لم يُعالج بطريقة صحيحة.
تخيلوا/ن امرأة قامت بالدفع أثناء عملية الولادة لعدة ساعات، وأُصيبت بشقّ في العجان، أو تم فتح بطنها لعدة سنتيمترات في الولادة القيصرية، وفي الوقت نفسه يُضغط عليها لإرضاع صغيرها وإلا توصم أنها أم سيئة
عادة ما تصاب الأمهات نتيجة الرضاعة بالحلمات المتقرّحة والمتشقّقة، والتهاب الحلمات واحتقان الثدي وقنوات الثدي المسدودة، حتى كثرة الحليب قد تكون مؤلمة بشكل غير محتمل، وتؤدي لارتفاع درجة الحرارة، هذا بالإضافة إلى آلام ما بعد الولادة الجسدية والنزف.
ذنب الرضاعة
قد تؤدي الآلام الجسدية التي ذكرناها في السابق أو أسباب صحية أخرى إلى عدم قدرة الأم على إرضاع طفلها بشكل طبيعي، فتلجأ للحليب الصناعي، لكن وبسبب "السحر الودي" الذي تحدّثت عنه فيليبا بيري، فإن الأمهات يلاقين الأمرّين نتيجة لتوقفهنّ عن الرضاعة الطبيعية.
أرضعت شذى رأفت طفلها لمدة شهر واحد فقط، والذي تعتبره أصعب شهر مرّ في حياتها، ولا زالت تصاب بنوبات القلق (Panic attacks)عندما تتذكر هذه الفترة، إذ أصابها تحجّر في ثدييها، مع حليب محبوس بهما، بالإضافة إلى تشقّق في الحلمات، لكن 5 أطباء وطبيبات أصرّوا على استمرار عذابها مقابل إكمال الرضاعة الطبيعية، وقد قال أحد هؤلاء الأطباء لزوجها: "اتركها تتوجّع قليلاً، هذا لمصلحة الطفل، أنت تدللها".
وافقت طبيبة واحدة على مضض بوصف دواء يجفّف حليب ثدييها، وحتى الآن تعاني من تليّف في قنوات الحليب، الأمر الذي يستدعي كشفاً دورياً خوفاً من تطورها لأورام غير حميدة.
أهم ما تتذكّره شذى عن هذه الفترة هو الألم النفسي نتيجة للوصم من القريب والبعيد، والنظر إليها على أنها أم "فاشلة" لا تستحق الأمومة، هذا ولم تستطع تجاوز هذه التجربة الصعبة بعد، على الرغم من اللجوء للطب النفسي نتيجة لدعم زوجها.
بدورها، عانت نادية مصيلحي من تجربة مشابهة، فهي تعاني من مشاكل في الرضاعة، ووصفت أول شهرين من عمر طفلتها بجحيم من الألم، بالإضافة إلى المتاعب الصحية المختلفة نتيجة الأمومة، وقد خسرت 20 كغم من وزنها مع ألم في جسدها وهلوسات نتيجة للتعب وقلة النوم، لكن رغم كل ذلك، تحاول إرضاع ابنتها بصورة طبيعية بالاستعانة بمتخصّصة، وعندما سألناها: لماذا تحاول إرضاع ابنتها طبيعياً وقد أتمت عامها الأول ويمكن فطامها وإدخال بعض مشتقات الحليب؟ أجابت أنها تحاول تقديم أطول فترة رضاعة لصغيرتها حتى لا تضرّها.
يظهر هنا مرة أخرى "السحر الودي" الذي يضرّ الأم صحياً من أجل تحقيق "أمومة مثالية" من وجهة نظر المجتمع، وينزع منها الحق حتى في التعبير عن ألمها، بحجة أنه يجب عليها أن تحتمل صابرة.
التجربة الثالثة التي أتحدث عنها شخصية، فصحيح أنني لم أعان مثل شذى ونادية من آلام شديدة نتيجة للرضاعة سوى في الأسبوع الأول بعد الإنجاب، لكن ذلك لم يمنع أنها تجربة مزعجة جداً بالنسبة لي، فلم أكن أشعر بالراحة نتيجة للرضاعة كل ساعتين، أو اضطراري لسحب الحليب ووضعه في زجاجة الرضاعة حتى تحصل الصغيرة على طعامها خارج المنزل، هذا بالطبع مع قلة النوم المستمرة.
عندما أتمت طفلتي الستة أشهر، وأدخلت في نظامها الغذائي الطعام الصلب لأول مرة، وبدأت تملّ من الرضاعة، ولا تتحمّس لها إلا للحظات قليلة - وهو شعور شاركتها فيه بصراحة تامة- أخذت قرار فطامها، والتحوّل للحليب الصناعي، الأمر الذي كان تغيراً عظيماً في تجربة أمومتي، فنتيجة لذلك يستطيع زوجي إعطاء ابنتي زجاجة الحليب لأحصل على ساعات إضافية من النوم، أو تركها معه لأخذ حمام طويل. قد تبدو هذه رغبات تافهة، لكن الشعور بأننا مصدر الطعام الجاهز لطفل معلّق بثديينا طوال الوقت، هو أسوأ ما في الأمومة.
زوجها من يصر على أن تكمل الرضاعة لعامين، زوجها الذي لم يعان من وهن الحمل ولا ألم الرضاعة، ولا مضاعفات نقص النوم والتعب، وله الصوت المسموع على ثدييها بينما لا تملك هي هذا القرار
عشت لفترة أسيرة الذنب لإيقاف رضاعة ابنتي، مع العلم بأن أمي ربتني أنا وأخواتي بدون رضاعة طبيعية لأسباب صحية، ولم أشعر يوماً أن حبي لها أقلّ لأني لم أرضع من ثدييها.
لم تصب الصغيرة بضرر جسدي نتيجة لفطامها، لم تتضرّر علاقتنا ببعضنا البعض، لم ينقص حبها لي أو حبي لها، كل الأمر أني حصلت على حرية في جسدي كنت في أشد الحاجة لها، وقرّرت أني لو أنجبت مرة ثانية لن أخوض تجربة الرضاعة الطبيعية من الأساس طالما يتوفر لدي خيارات أخرى.
أتذكر يوماً إحدى قريباتي التي أخبرتني أنها منهكة من الرضاعة، خاصة لإنجابها في سن كبير نسبياً. سألناها بما أن الطفلة تكاد تبلغ العامين لماذا لا تفطمها؟ أجابت أن زوجها من يصر على أن تكمل الرضاعة لعامين، زوجها الذي لم يعان من وهن الحمل ولا ألم الرضاعة، ولا مضاعفات نقص النوم والتعب، وله الصوت المسموع على ثدييها بينما لا تملك هي هذا القرار.
الضرر الوحيد من وجهة نظر المجتمع لحرية الرضاعة من عدمها أن الأم تُسقط قيداً إضافياً عن جسدها ورسناً بيولوجياً طالما تمّ تكبيل النساء به.
لا ندعو النساء لفطام أطفالهنّ قبل الأوان أو إلغاء الرضاعة الطبيعية، إنما لا يجب وصم السيدات اللواتي لا يقدرن أو لا يرغبن في الرضاعة الطبيعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون