قبل نحو عشرين عاماً، كان يتردّد إلى قريتنا الجليليّة "كابول"، وتحديداً إلى بيتنا، رجل غزيّ في عقده الخامس. بائع يحمل الأمتعة فوق كتفيه، جاء بائعاً ثمّ ضيفاً، ثمّ صار واحداً منّا. حتى إن غاب، اشتقنا له، لأحاديثه، وخفّة دمّه، وفصاحته، ليشاركنا القهوة والطّعام والمجلس.
قبل سبعة عشر عاماً، غاب الرجل. غاب في مراهقتي بعد سنواتٍ طويلة من الزيارات. سألتُ العائلة آنذاك، فقالوا "لقد عاد إلى غزّة، وغزّة الآن محاصرة". هاتفناه، فقال إنّ الأمور تزداد صعوبة، وربّما لن يستطيع المجيء مجدّداً، وإنّ صحته لم تعد تسعفه".
كانت غزّة آنذاك محاصرة، أمّا اليوم فلعلّنا غير قادرين على إدراجها تحت أيّ مسمّى. وما عاد باستطاعة كلمات الكون أجمع وصف وجه طفل هو النّاجي الوحيد من عائلته.
لم نعرف غزّة صغاراً، إلّا من خلال القلّة من البائعين الذين تردّدوا إلى بيوتنا. حفظنا ملامحهم، وراقبنا أكفّ أياديهم وهي تعيد ربط أكياس الملابس الكبيرة، سمعنا لهجتهم المختلفة قليلاً عن لهجتنا. مازحونا وعاشوا بيننا.
هم الدّرب من غزّة إلى الجليل، هم الوجه الآخر لما كنّا نشاهده على شاشات التلفاز، هم الصّورة الأشدّ قرباً وألفة بالنسبة لنا. نلمس بحر غزّة من خلالهم، البحر الذي كلما غضب واحدنا على الآخر في البيت قلنا: "روح اشرب من بحر غزّة".
العقاب بالصّمت من "دولة الديمقراطيّة"
كبّلت الأيادي، وكُمّمت الأفواه في الداخل الفلسطينيّ. يدخل فلان إلى السّجن ويخرج آخر، وهكذا… حتّى خيّم الصمت في أرجاء البلاد، وصار يُعاقب المرء على كلمة، بينما يموت الآخر في خيمة.
تلاحقني الخيام ووجوه الأطفال، ويحضرني هذا الاقتباس الذي علّقته في بيت العائلة: "أدري بأنك لا تخاف الطفل حيّاً، إنما أدعوك صدقاً أن تخاف من الصغار الميّتين".
تلاحقني البيوت وتفاصيلها، وأتساءل: نحن الذين إذا سلكنا درباً مغايراً للبيت ننزعج، فماذا لو فقدناه؟ أو تهدّم فوق رؤوسنا؟
لم نعرف غزّة صغاراً، إلّا من خلال القلّة من البائعين الذين تردّدوا إلى بيوتنا. حفظنا ملامحهم، وراقبنا أكفّ أياديهم وهي تعيد ربط أكياس الملابس الكبيرة
لم أؤمن يوماً، حتّى في أشد أيّام وهْم الاستقرار والأمان، أن إسرائيل، وحسب ما تدّعيه، تتعامل معنا كمواطنين. لكنّ الإسرائيليين يعلمون في قرارة أنفسهم، بعيداً عن "سياسة محو الهويّة"، أنّنا من جذور هذه الأرض، وأنّنا كنّا نعيش هنا قبل أن يقتحموا حياتنا ويحتلّوا بلادنا، خلاف ما تحاول روايتهم إثباته دوماً، وخلاف ما حاولت إيصاله لنا كمراهقين من خلال كتاب "المدنيّات" في المرحلة الثانوية، الذي يملي علينا كيف نكون مواطنين في إسرائيل، ويلقّننا دروساً عن الخلفيّة الجغرافيّة والتاريخية لدولة إسرائيل، وعن الديمقراطيّة والتعدّدية وحقوق الإنسان والأقليّات.
حيث ينصّ الكتاب على أنّه يتوجّب علينا أن نكون جزءاً من هذه الدولة، أن نؤدّي واجباتنا، كي نُمنح حقوقنا. ثمّ تبيّن منذ اليوم الأوّل في هذه الحرب، أن أبسط حقّ للإنسان في التّعبير عن رأيه، صار حقاً مصادراً.
حوصرنا من كلّ حدب وصوب، حتّى صارت الاعتقالات بسبب كلمة أو تضامن أو تعاطف، خبراً رئيساً في البلاد.
يعرض الكتاب إسرائيل على أنها دولة ديمقراطية، تُساهم في خلق المساواة بين الشعب اليهودي وباقي الأقليّات. لكنها في المقابل تعرّف نفسها على أنّها دولة الشعب اليهوديّ، ويتمثّل ذلك في "قانون العودة" الصادر عام 1950، والذي ينصّ على حق كل يهودي في العالم وُلد لأُم يهودية، أو اعتنق اليهوديّة، العودة إلى إسرائيل ونيل جنسيتها. بينما تمنع إسرائيل كل فلسطيني لاجئ منذ عام 1948 من العودة، بعد أن هجّرت حينها أكثر من 750 ألف فلسطينيّ، ثمّ فعلت الشيء نفسه مع نحو 430 ألف فلسطينيّ خلال النكسة، إلى المنافي ومخيمات اللجوء، ومنعتهم من العودة إلى منازلهم، لتستمر المأساة وتتوسع، وكل ذلك في سبيل الحفاظ على دولة إسرائيل كدولة يهودية.
قد يُنكرنا العالم ويتّهمنا "بالخيانة"، لكنّ إسرائيل تعود لتؤكّد في كلّ مرّة أننا فلسطينيين- في المعاملة والممارسة والتوجّه- مهما بلغ التّفاوت بيننا، وبين أبناء شعبنا، في غزّة الضفة والقدس.
لُحمة الجسد الممزّق
فلنعُد إلى زمن الانتفاضة الثانية، وهبّة فلسطيني الدّاخل في مطلعها عام 2000، الذي شكّل حدثاً مفصليّاً وحاسمًا في العلاقة بين فلسطنيي الدّاخل والمحتلّ.
فقد أحدثت هذه الانتفاضة تمرّداً على المشروع الاسرائيلي لتفكيك الشعب الفلسطيني، وفصل الفلسطيني في الدّاخل عن أبناء شعبه، ومحاولة تخديره وإلهائه عن الواقع المفروض على شعب ظنّت إسرائيل أنها تستطيع عجنه وتشكيله وفق مخططاتها، وعن الجغرافيا المقسّمة التي أفرزت اتفاقيّة أوسلو. تشكّلت هذه الانتفاضة في ذاكرتي، كطفلة في السابعة، في مشهد "محمد الدرّة" الطفل الذي يحتمي بوالده. وبقيت أتساءل لسنوات؛ كيف يمكن للعالم أن يصوّر طفلاً يموت بدلاً من إنقاذه؟
تصاعد تجسيد اللُحمة بين المجتمعات "المجزّأة" حتّى أحداث هبّة أيار أو هبّة الكرامة عام 2021، وبروز الجّيل الثالث للنّكبة وتضامنه مع قضيّته وأبناء شعبه، ودفعه أثماناً باهظة من عقوبات عالية في السّجن جرّاء خروجه إلى الشارع.
قد يُنكرنا العالم ويتّهمنا "بالخيانة"، لكنّ إسرائيل تعود لتؤكّد في كلّ مرّة أننا فلسطينيين- في المعاملة والممارسة والتوجّه- مهما بلغ التّفاوت بيننا، وبين أبناء شعبنا، في غزّة الضفة والقدس
ربّما فصل هذا التقسيم أجسادنا كأبناء شعب واحد لمدّة ليست قصيرة، أحدث بُعداً إنسانيّاً وثقافيّاً أدركتُه حين بدأتُ بزيارة الضفّة الغربية مطلع عشرينيّاتي رفقة أصدقائي، لنبني هذا الجسر الذي هدمته إسرائيل.
لاحظتُ أيامها أن ثمّة شرخ بيننا كفلسطينيين في الدّاخل وبين بعض أبناء الضفّة الغربية، الذين وضعونا في إطار "العربي المدلّل"؛ عربيّ يعيش وسط اليهود ويتعامل معهم، يتعلّم في جامعاتهم، ويتعالج في مستشفياتهم، عربيّ منفصل، لا يقوى على القول إنّه فلسطيني. لكن هذا الواقع المفروض لن يجعلهُ يهوديّاً إسرائيليّاً مهما حاولوا تهويد الأشياء من حوله.
أمّا غزّة، فلم نستطع مرّة المشي فوق رمالها، ولم نستطع أن نحظى بجلسة واحدة قبالة بحرها وقت الغروب رفقة أصدقائنا الذين نقفُ اليوم، من بعيد، لنتفرّج عليهم وهم يتجرّعون الوجع والظلم والخذلان دون أن نستطيع، في الأقلّ، الاقتراب منهم لاحتضانهم ومواساتهم. فأيّ مواساة في العالم تستطيع احتواء كلّ هذا الألم؟
ذكرى الميلاد تتزامن وذكرى الموت
لم أتخيّل يوماً أن تتزامن ذكرى ميلادي بذكرى مجزرة، إبادة، مسمّيات كثيرة حقيقيّة وقاسية أكثر من أيّ حقيقة عرفتها وعرفتها البشريّة.
فتحتُ عيني صباح ذاك اليوم، وأُغلقت الكثير من العيون إلى الأبد، دون ذنب. وفي الوقت الذي احتضنتني فيه عائلتي مُهنّئة إيّاي، مُسحت عائلات بأكملها من السجلّ المدنيّ، من الأبّ مروراً بالأمّ، انتهاء بأطفال لم يبلغوا عامهم الأوّل بعد.
وفي حين استقبلتُ رسائل أصدقائي وأمنياتهم الدّافئة لعامي الجّديد، ودّع الأحبّة أقرب النّاس إليهم.
لا أعرف الحكمة من كلّ هذا، ولا أُريد، تشقيني المعرفة في هذا الوقت أكثر من أيّ وقت مضى. فقد طويتُ العام الأخير من عقدي الثالث في السنة الماضية، بعد أسبوع من بدء الحرب. وها أنا ابدأ اليوم عاماً جديداً تحت وطأة الحرب التي لم تلسع جلدي نيرانها، لكنّها كوت قلبي.
ولا أكتُب اليوم لأُقارن بين حُزننا وبين ما يعيشه أبناء شعبنا في غزّة، فمن أنا أصلاً؟ وأيُ مقارنة هذه بين من يعيش تحت سماء زرقاء، بينما يعيش الآخر تحت سماء حمراء ملتهبة منذ عام؟
وفي حين تبدو حياتي هنا في الجليل مستمرّة بشكل أو بآخر، إلا أنّ هذه الحرب بالذات أحدثت في داخلي تغييراً لم تُحدثه أيّ حرب أُخرى أو أي حدث حلّ بنا كفلسطينيين.
فتحتُ عيني صباح ذاك اليوم، وأُغلقت الكثير من العيون إلى الأبد، دون ذنب. وفي الوقت الذي احتضنتني فيه عائلتي مُهنّئة إيّاي، مُسحت عائلات بأكملها من السجلّ المدنيّ
فأنا مذ وُلدت في هذه البقعة الجغرافية وأنا أقابل التّناقض على نحو يوميّ، وفور خروجي من البيت. تناقض يتبدّى بالتقسيم ومحاولات التهويد والعنصريّة، وحتى بتلك اللّافتات التي غيّرت الأسماء الأصلية للبلاد ثمّ كتبتها بعربيّة مشوّهة ومليئة الأخطاء الاملائيّة.
وبينما يعتصر قلبي ألماً على أبناء شعبي الذين يموتون في الشوارع وعلى الحواجز وفي أرضهم وهم يقطفون أشجار الزيتون، تبدو الحياة "مستمرّة"، أخرج إليها، أذهبُ إلى مؤسساتهم ومستشفياتهم وجامعاتهم.
يعيش هذا التناقض في داخلي وينمو، يشعرني أنّني أساهم في تقزيم المعاناة، لكن إلى أين أهرب من بلادي؟
خذَلتُ الغزيين، مثل البقيّة وكبّلني الصمتُ أوقاتًا كثيرة، لا أُنكر ذلك، ولا أهُرب من مرآتي. أخجلُ منّي ومن إمكانياتي التي تكادُ لا تُذكر، أخجلُ من صمتنا الذي يحرّك الخوف خيوطه مثل دمية فوق خشبة المسرح، فكيف نكون فلسطينيين، بينما يجوعون وحدهم، يحترقون، يمرضون، يبردون، يتجرّعون مرارة الفقد، ويموتون وحدهم.
أعيشُ اليوم بداية عام من عقدي الرّابع، لا أُريد أن أنسى من أكون ومن أين جئتُ، أريد أن يذكّرني الوقت والوجع أنني جزء من هذا الحزن الكبير، وامتدادٌ له.
كل يوم أشطبه من روزنامة عمري، أرجو أن أشطّب اليوم الذي يليه، اللّحظة التي تليه، وقد توقفت الحرب، وأُتلفَ صنبور الموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ اسبوعينمقال رائع فعلا وواقعي