"لم تكن علاقتي مع الأرض والمزرعة علاقة ريفيّ بمهنته. فكل شتلة داخل أرضي كانت بمثابة ابنة أو ابن لي. مزرعة التوت هي عائلتي التي تم تدميرها".
هكذا بدأ يحيى شبات حديثه لرصيف22، معبراً عن حسرة فقده لمزرعته وتدمير مكوناتها من قبل الجيش الإسرائيلي في بلدة بيت لاهيا، شمال قطاع غزة.
يتابع شبات: "عملت بالتدريس لوقت طويل، وعلّمت الأجيال الصاعدة معنى الانتماء للأرض، تماماً كما كنت أعلّم شتلات الفراولة الانتماء لها، وها هي إسرائيل تضرب كل من يحب هذه الأرض وينتمي لها".
سكت المزارع وهو يحكي عن أرضه، ومزرعة الفراولة التجارية التي بناها لتُنتج الحياة وتقدّم الخير للناس.
للعام الثاني على التوالي، يبدأ موسم الفراولة في قطاع غزة دون أي قدرة لدى المزارعين على متابعة عملهم والاعتناء بمزارعهم، أو جني المحصول وقطفه.
شكل إنتاج الفراولة في شمال قطاع غزة- الذي بدأ بمساحة تجريبيّة في أواخر الستينيّات ثمّ أخذ بالاتساع بعد نجاحه- أحد المصادر الاقتصادية المهمة، وصار رمزاً لغزّة في خارجها. إذ زُرع حوالي 730 دونماً سنوياً. واعتمد عليه نحو 1,500 مزارع، أعالوا نحو 6,000 فرد.
وفي حين وصل الإنتاج عاماً قبل حرب الإبادة إلى 11 ألف طنّ، توزّع في الأسواق المحلية والدولية كدول الخليج وأوروبا- فصارت الفراولة بمثابة رمز لغزّة- دمرت إسرائيل ما يقارب 67.7% من المساحات المزروعة في غزة، بحسب بمنظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، حتى سبتمبر/أيلول 2024، ومن سلمت أرضه، سيكون عمله فيها محفوفاً بالمخاطر والموت، وتحديات توفير مستلزمات الإنتاج كالمياه والكهرباء والأسمدة.
لكن المتضرر في قطاع الزراعة ليس الأرض وحدها، بل نفوس زارعيها التي تُزهق. تواصلتُ مع المهندس يوسف أبو ربيع، صاحب مبادرة "حنزرعها"، لدى البدء بكتابة هذا التقرير، لكنه لم يجب لمدة يومين. وحين دخلت حسابه على فيسبوك لأتفقد أحواله، أدركت أنه استشهد قبل يوم من مراسلتي له، وبعد أن عمل على تزويد الناس شمال غزة بالمحاصيل التي منعت إسرائيل دخولها إلى غزة.
خسارة العاطفة والمال
مع اشتداد القصف العنيف على شمال غزة، ومنذ بدء حرب الإبادة، توغلت الآليات العسكرية لتمسح المحاصيل وبنيتها التحتية، دون أي رادع، بقصد تخريب حياة الإنسان على هذه الأرض وتهجيره، وخلق أزمات غذائية مضاعفة بعدما حظرت دخول المواد الغذائية لا سيّما لدى بدء حصارها الأخير للشمال.
ومناطق الشمال كانت توفّر سلة غذائية لباقي المدن ولمدينة غزة، وهي الأراضي الوحيدة التي تُزرع فيها الفراولة الأرضيّة والمعلّقة.
"لا تنسى الأرض مشاعر من مرّوا عليها، لا تنسى من يخربها ومن يعمرها"، يعاود يحيى التقاط أنفاسه، ويروي قصته مع مزرعة التوت.
"تعلمت الزراعة من والدي. كنت أذهب إلى الجامعة وأعود مشتاقاً للمزرعة"، يقول.
علّمت الأجيال الصاعدة معنى الانتماء للأرض، تماماً كما كنت أعلّم شتلات الفراولة الانتماء لها، وها هي إسرائيل تضرب كل من يحب هذه الأرض وينتمي لها
ويردف: "تجربتي مع الفراولة أعطتني حباً إضافياً للحياة، فكانت حبّات الفراولة مع أصوات العصافير والطيور، سبباً لتعلقي بالأرض والزراعة، لدرجة أنّي تقاعدت من وظيفتي الحكومية لأتفرغ بشكل كامل للزراعة".
قضى شبات أكثر من عشرين عاماً في مهنته، وها هي تتحول إلى ذكرى حزينة ترافقه في نزوحه وتفض منامه، يتابع: "أشعر بحسرة كبيرة على تدمير مزرعتي. لقد فقدت نصف حبي للحياة".
تقول أم سالم أبو حلوب (49 عاماً) لرصيف22: "لا تغيب صورة المزرعة عن ذهني، ولا يمكن أن أنسى كم الدفء والراحة اللذين كنت أشعر بهما حين كنت أقف وسط الأرض وأعتني بالفراولة بمرافقة زوجي".
في الخامس عشر من آب/ أغسطس 2024، داهمت آليات الجيش الإسرائيلي مزرعة الفراولة الخاصة بها، وخربت كلّ شيء أمامها. امتد الخراب على مساحة ثمانية دونمات خاصة بالعائلة.
وتكمل: "تستطيع الحرب أن تسلب منا كل شيء، لكن لا تسلب منا حب الأرض، فلي في كل شجرة هناك في الشمال رصيد من التعب، يجعلني ذاهبة هناك مرة أخرى، لأعيد طقوسي اليومية، وأستأنف الزراعة".
ولأنّ الفراولة تشكل علامة مضيئة في الإنتاج الفلسطيني، فقد لاحقتها إسرائيل لعقود طويلة، وها هي تُطلق النار بوجه الثابت والمتحرك، الإنسان والحيوان والنبات في أرض غزة.
وفي طبيعة الحال، لا يمكن اعتبار الخسارة العاطفيّة والمعنويّة المتوارثة من هذه الفاكهة فقط، بل ثمّة خسارة ماديّة فادحة يتكبّدها المزارعون جراء إبادة مزارعهم.
تقول أم سالم: "خسارة المال كبيرة بالطبع، لكننا نواجه جنوداً أشراراً، ونعلم بأن الهدم لا يبقى. لم تُبتر أيدينا بعد، وحتماً سأعود لزراعة الفراولة".
تدمير وسرقة في وضح النهار
يرسم المزارع في حقله حياة خاصة لا تشبه نهج المدن، حيث تُصبح الأرض مع الوقت أكثر قرباً من الإنسان؛ تصير جزءاً من صورة العائلة.
عن تلك الأحاسيس الدافئة يتحدث المهندس الزراعي خالد الزين (40 عاماً)، وعن علاقته بمزرعة الفراولة الخاصة به شمال غزة، والتي تصل مساحتها إلى 14 دونماً.
يقول بصوت مكتوم: "كل قدم داخل مزرعتي أنا وإخوتي كانت بمثابة بصمة في الحياة. فأنا أعد إنجازاتي بما أزرعه للناس وأصدّره باسم فلسطين. وهدم كل هذه المساحات، يعتبر خسارة كبيرة جداً للاقتصاد الوطني والتصدير للخارج".
ويردف: "لم تكن الحياة تعني لنا سوى أرض، ندخلها أول النهار ونخرج منها في آخره، فرحين بكل ما حولنا من هدوء وسكينة ورزق بسيط".
أعد إنجازاتي بما أزرعه للناس وأصدّره باسم فلسطين. وهدم كل هذه المساحات، يعتبر خسارة كبيرة جداً للاقتصاد الوطني والتصدير للخارج
ويضيف: "حين هدم الجيش الإسرائيلي مزرعة الفراولة الخاصة بي، ورأيت فيديو مصوراً للأرض، شعرت بتمزقات في صدري، وسيطر عليّ سكوت طويل. عجزت عن تفسير الأمر، سوى أن هذا المحتل يكره الخير والطبيعة، وهؤلاء الجنود جاءوا للحياة مخربين وإرهابيين وغاصبين، لا يتركون حتى النباتات البريئة في حالها".
وخلال موسم الفراولة الماضي، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، فيديو لمستوطنين يسرقون محصولاً بعد تخطيهم السياج الفاصل نحو قرى شمال غزة.
تصدير الذهب الأحمر
حتّى قبل هذه الحرب، كان موسم الفراولة مصدر قلق عند المزارعين، الذين يعيشون تحت الحصار وتحت الإغلاقات المفاجئة والمتكرّرة لمعبر "إيرز"؛ المنفذ الوحيد لتصدير الفراولة إلى خارج غزّة.
إلا أن خروج فراولة غزة إلى العالم، جسّد حياة ونجاح شعب مرهق من الاحتلال والحصار ومحاولات محو الهويّة.
يقول خالد: "لا زلت أرى بأن الفراولة؛ الذهب الأحمر أمر نادر. سرحت كثيراً في سحر أن أزرع حبّة فراولة وأحرص على نموها لتصل إلى فم في آخر العالم. حتى هذا السحر حرمني إياه الاحتلال الوحشي".
ويضيف: "ربما ستضحك إن قلت لك إنّي حاولت توجيه دعوة للاعب كرة القدم الأرجنتيني ليونيل ميسي، لزيارة مزرعتي، ولتذوق الفراولة أرضي اللذيذة، لم أستطع الوصول إليه، وسأحاول مستقبلا".
مخزون قليل من الأمل
"كنت دوما أعتبر الفراولة أملاً لا يمكن إزاحته من حياتي، كنت أقول للناس من حولي: هنا ضحكات كثيرة في مزرعتي تعالوا لنفرح بها. لكن الاحتلال أحال ذلك كله إلى مشهد قاس لا أحتمل النظر إليه، لا أظن أنني أستطيع إعادة بناء ما تم تدميره"، يقول يحيى.
لكن أم سالم ترى عكس ذلك، وتجد أن إعادة بناء ما تم هدمه من مزارعها ومزارع العائلة أمراً ممكناً، بفضل عزيمة أبناء العائلة.
وتضيف: "حزانى نحن، مقهورون بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فمنذ طفولتي تربيت بين أشجار الفراولة، ولي صداقة كبيرة مع هذه المساحة الأصيلة. ذكرياتي هناك؛ بين التوت. لم أضحك بعد مغادرة مزرعتي، لم يتركني الحزن لحظة".
حين هدم الجيش الإسرائيلي مزرعة الفراولة الخاصة بي، ورأيت فيديو مصوراً للأرض، شعرت بتمزقات في صدري، وسيطر عليّ سكوت طويل
تؤكد أم سالم أن خسارة الموسم الثاني على التوالي في زراعة محاصيل الفراولة هي خسارة كبيرة جداً. "لكني أرى دوما أنّ اليد التي عمّرت في الماضي والحاضر، ستعمر في المستقبل"، تقول.
ومستقبل التربة والأراضي الزراعية، المنظور، في غزة لا يبعث على تفاؤل كبير، بعد أن أشار تقرير للأمم المتحدة إلى أن الآثار البيئية في غزة أصبحت "غير مسبوقة". إذ أثرت المخلفات السامة، بما في ذلك المعادن والبلاستيك والنفايات الإلكترونية، على جودة التربة. هذا التلوث أدى إلى تدهور الأراضي الزراعية، مما يسهم في ظواهر التصحر وتآكل التربة.
لكن يبدو أن مزارعين كُثراً لم تنته الطريق بالنسبة لهم. يقول خالد الزين: "أعرف أن إسرائيل قد تُفشل أو تخرب الجهد الذي يوضع في الأرض في أية لحظة، لكنّا اعتدنا البدء من الصفر أكثر من مرة، وسنكمل الطريق إلى آخره".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...